استخراج الكوبالت والنيكل والعناصر الأرضية النادرة والمعادن الأخرى من أعماق المحيطات، قد يؤدي إلى سرعة تحول العالم إلى مصادر الطاقة المتجددة.
هذه المعادن توجد بوفرة فوق قاع المحيط مباشرة، في حين يصعب الحصول عليها على اليابسة، حيث تنتج عن نشاط التعدين أيضاً أخطار تواجه المجتمعات المحلية والعاملين.
المشكلة أن بيئة قاع البحر ليست واحدة ولا متجانسة، بل إن فيها جبالها ووديانها وأنظمتها البيئية الفريدة، والتي لم يستكشف بعضها حتى الآن.
والمناطق التي توجد بها جميع هذه المعادن هي أشد المناطق غموضاً. كما أنها غنية بأشكال الحياة الغريبة، مثل الأسماك الشفافة والجمبري الكبير بحجم جراد البحر وشقائق النعمان البحرية غريبة المنظر وقنافذ البحر التي تتقافز عدواً على القيعان.
إحدى الشركات التي تتجه نحو أعمال التعدين هي شركة المعادن الكندية "ذا ميتالز كومباني" (The Metals Company) وتقوم بتمويل أبحاث لاستكشاف منطقة غنية بالمعادن تسمى "كلاريون كليبرتون"، وهي منطقة شاسعة تشبه المستطيل في قاع المحيط بين المكسيك وهاواي، وتبعد أكثر من ميلين تحت سطح المحيط الهادئ.
تلك الرحلات الاستكشافية لم تخرج لنا فقط باكتشاف أشكال الحياة الغريبة، بل بنظام غريب كامل، حيث الصخور التي تحتوي على المعادن، التي يسميها العلماء بالعقد، ربما هي التي تنتج بعض الأوكسجين الذي تتنفس منه الحيوانات في البيئة المحيطة.
التعاون بدلاً من المواجهة
عملية التعدين في أعماق البحار أحياناً تصور على أنها قصة رأسماليين جشعين في مواجهة علماء طيبين، غير أن الواقع نادراً ما يكون بهذا الوضوح والحسم. فمع تسارع وتيرة الاحتباس الحراري، سنواجه تدابير مضادة تؤدي إلى أشكال أخرى من الضرر البيئي. سيتعين علينا الاختيار بين الحد من استهلاكنا واعتماد تكنولوجيا بدرجات مختلفة من التلوث والاخضرار.
من الصعب الوصول إلى أعماق البحار حتى أن العلماء والرأسماليين غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى العمل معاً للوصول إليها. على سبيل المثال، ظهرت النتائج التي توصلت إليها ورقة بحثية حديثة في مجلة "نيتشور جيوساينس" (Nature Geoscience) حزئياً بسبب تمويل من شركة "ذا ميتالز كومباني".
لاحظ المؤلف الرئيسي للورقة البحثية، أندرو سويتمان من الجمعية الاسكتلندية للعلوم البحرية، شيئاً غريباً خلال رحلة استكشافية في عام 2013 لدراسة استهلاك الأوكسجين في أعماق البحار.
يأتي الأوكسجين في محيطات كوكبنا وغلافه الجوي عادةً من عملية التمثيل الضوئي. ويشتد الظلام على عمق ميلين تحت سطح البحر، حتى أن هذه العملية لا تحدث على الإطلاق.
يقول سويتمان إن الأوكسجين المذاب قد تحمله إلى الأعماق بعض التيارات، حيث تستهلكه الكائنات الحية. ومع ذلك أظهرت أجهزة الاستشعار أن الأوكسجين ينتج أيضاً في تلك الأعماق. فقام بإعادة ضبط أجهزة الاستشعار، لكنها استمرت في إظهار الزيادة في مستويات الأوكسجين، ثم طلب من طلابه أن يلقوا أجهزة الاستشعار في سلة النفايات.
إنتاج الأوكسجين الداكن
وفي عام 2021، وبتمويل من شركة "ذا ميتالز كومباني"، حاول قياس الأوكسجين بطريقة مختلفة تشمل التركيز الكيميائي. لم تختفِ الزيادة. ثم أحضر هو وزملاؤه عينة من صخور الأعماق لإجراء تجارب مختلفة. وقد استمرت هذه الصخور في إنتاج الأوكسجين الذي أطلق عليه اسم "الأوكسجين الداكن".
ونظر في إمكانية أن تكون هذه العقيدات الغنية بالمعادن تعمل كبطاريات طبيعية. وتعاون مع أحد علماء الكيمياء الكهربائية الذي ساعده في قياس الجهد الكهربائي بما يكفي لتحليل الماء إلى هيدروجين وأوكسجين.
وقال سويتمان إن العقيدات تنمو بمعدل بطيء بدرجة مذهلة تبلغ حوالي بضعة ملليمترات لكل مليون سنة، لذا فإن عمر هذه البيئات التي تقع تحت سطح البحر يبلغ عشرات أو مئات الملايين من السنين. وبعض المخلوقات تعيش فقط على العقيدات.
قد يكون لهذا الاكتشاف آثار كبيرة على فهم تطور الحياة على هذا الكوكب وعلى عوالم أخرى توجد بها محيطات، بما في ذلك أقمار المشتري وزحل التي تخطط وكالة "ناسا" لاستكشافها.
لم يقتنع الجميع بذلك. قال أحد الباحثين الذين يعملون لدى شركة "ذا ميتالز كومباني" لمجلة "نيو ساينتست" إنه يخطط لكتابة تفنيد للنتائج، موضحاً أن ذلك يحتمل أن يكون خطأ ناتجاً عن التلوث.
الحفاظ على الحياة في الأعماق
من جانبه، لا يعتبر سويتمان أن ما اكتشفه، حتى لو تكرر، سبب لإلغاء جميع خطط التعدين، وإنما الانتظار فقط لفترة أطول قليلاً من أجل فهم أعماق البحار وكيفية الحد من التعدين للحفاظ على الحياة في الأعماق.
وقال إن المعادن التي تم اكتشافها يمكن أن تسرع من السباق نحو الاستغناء عن الوقود الأحفوري، والتخلص من تأثيرات تغير المناخ في البحار كما على اليابسة. وأضاف أن جميع الناس يرغبون في هواتف خلوية وأجهزة كمبيوتر جديدة وسيارات كهربائية. لذلك يجب علينا أن نتخذ بعض القرارات الصعبة.
قالت جينيفر دون، أستاذة الهندسة البيولوجية والكيميائية في جامعة نورث وسترن، إن هذه المعادن مفيدة ليس فقط لبطاريات السيارات الكهربائية، ولكن للأنظمة التي تخزن وتنقل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. لكن الذكاء الاصطناعي يخلق أيضاً سوقاً نهمةً لبعض هذه المعادن التي يصعب الحصول عليها، مما قد يجعل من الصعب تجنب الجشع.
لن تكون المقايضة صارخة إلى هذه الدرجة إذا أبدى الناس استعداداً لتغيير أنماط حياتهم. على سبيل المثال، يستطيع الأميركيون زيادة الاستثمار في وسائل النقل العام، واستخدامها بالفعل. ونتذكر رد الفعل الساخر للأميركيين عندما اقترح الرئيس السابق جيمي كارتر في عام 1977 أن نخفض درجة الحرارة المدفأة في فصل الشتاء، ونرتدي السترات الصوفية.
وقالت إنه لا ينبغي استبعاد التعدين تحت سطح البحر لأن عواقب الاحتباس الحراري غير المنضبط خطيرة للغاية، لكننا بحاجة إلى معرفة المزيد عن هذه المخاطر. هل يمكن أن تكون هناك كارثة غير متوقعة مثل التسرب النفطي في ديب ووتر هورايزون؟ سيتعين على العلماء تقييم ليس فقط الآثار البيئية إذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، وإنما أيضاً تقييم هذه الآثار إذا تدهورت الأمور.
لن تتجدد الأنظمة البيئية في أعماق البحار بمجرد أن يتم إزعاجها، على الأقل لن يحدث ذلك في وقت قريب، لذا فإن التعدين غير المنضبط قد يتسبب في أضرار لا يمكن إصلاحها، وربما يدفع بعض الأنواع إلى الانقراض قبل أن تعرف البشرية بوجودها. وبطبيعة الحال، يشكل تغير المناخ نفس النوع من التهديد. فلا توجد خيارات سهلة أمامنا.