يعرف أي شخص يضطر للذهاب إلى العمل في يوم صيفي حار مدى الإرهاق الذي يمكن أن يكون عليه الأمر. فوظائف المخ تتباطأ، ويصبح التنقل غير مريح، وبالنسبة للأشخاص الذين يعملون في الخارج، فإن البقاء سالماً يصبح تحدياً. وتفاقم كل هذه العوامل مجتمعةً الضرر المرتبط بالحرارة على إنتاجية العمال، والذي من المتوقع أن يصبح أكثر وضوحاً مع تسبب تغير المناخ في حدوث موجات حر أشد.
تقول جيل روزنتال، مديرة الصحة العامة في مركز التقدم الأميركي، الذي أصدر هذا الشهر تقريراً عن التهديد الذي تشكله ظروف الحرارة الشديدة على العمال في الولايات المتحدة: "كنا نعتقد بأن الناس يشعرون بالحرارة ويتعرقون وهم بخير. لكننا نعلم الآن أن هذا ليس هو الحال بالضرورة".
صعوبة قياس تأثير الحرارة
قد يكون قياس هذا التهديد أمراً صعباً. وبشكل عام، يشمل ذلك كل شيء بدءاً من اضطرابات الركاب المرتبطة بالطقس إلى انخفاض الأداء الإدراكي، وقلة النوم، والإجازات الإضافية الممنوحة للأطفال من المدارس التي تفتقر إلى مكيفات الهواء.
لكن هناك بعض الأرقام الموثوقة: فخلال موجة الحر في الصيف الماضي، قال الرئيس جو بايدن إن الحرارة الشديدة تكلف الولايات المتحدة 100 مليار دولار سنوياً، مستشهداً بتقرير صادر عن المجلس الأطلسي حذر من أن هذه الخسائر قد تتضاعف بحلول 2030. فبين عامي 1992 و2017، تسبب الإجهاد الحراري في وفاة أكثر من 800 عامل في الولايات المتحدة، وإصابة أكثر من 70 ألفاً، وفق مكتب إحصاءات العمل.
وأشد هذه التأثيرات هي التي يشعر بها من يعملون في الهواء الطلق. وفي الولايات المتحدة، تضمن خمس ولايات فقط للعمال الحصول على الراحة والظل والماء. وعلى المستوى الفيدرالي، يلزم بند الواجب العام لإدارة السلامة والصحة المهنية، أصحاب العمل على توفير مكان عمل آمن وصحي، لكنه لا يضع معايير واضحةً لمخاطر الحرارة. تعمل إدارة السلامة والصحة المهنية على مثل هذه المعايير، والتي سيتم تنفيذها في أي وقت تتجاوز فيه درجة الحرارة الخارجية 80 درجة فهرنهايت. لكن من غير المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ حتى الصيف المقبل.
مبادئ توجيهية للتعامل مع الحرارة
بعض البلدان الأخرى لديها مبادئ توجيهية أكثر وضوحاً. ففي الصين، على سبيل المثال، يُطلب من أصحاب العمل تدريب العمال على التعامل مع الأمراض المرتبطة بالحرارة، وتوفير أماكن للراحة، والمشروبات الباردة المجانية، وتكييف الهواء في الداخل. ويتعين خفض ساعات العمل وكثافته أو تعليقه في الأيام الحارة، ويجب على أماكن العمل التي لا يمكنها الحفاظ على درجات حرارة أقل من 95 درجة فهرنهايت في الخارج و91.4 درجة فهرنهايت في الداخل أن تدفع لعمالها إعانات لدرجات الحرارة المرتفعة تتراوح بين ما يعادل 1.24 إلى 30.90 دولار في اليوم.
أفاد بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو بأن أكبر خسائر العمالة المرتبطة بالحرارة تنجم عن صناعات في الهواء الطلق مثل البناء والتعدين والزراعة. وتشير تقديرات الباحثين هناك إلى أن خسائر العمالة الناجمة عن الحرارة سوف تؤدي بحلول 2200 إلى انخفاض مخزون رأس المال في الولايات المتحدة، وهو مقياس للاستثمار المتراكم، 5.4%، والاستهلاك 1.8%. وفي أماكن العمل ذات القدرة المحدودة على تكييف الهواء، بما في ذلك المطاعم والمستودعات، ستتأثر السلامة والإنتاجية أيضاً.
أما الموظفون، الذين يعملون في مكاتب مكيفة على الأرجح، فلا يسلمون تماماً من تأثيرات الحرارة الشديدة. ويرجع ذلك في جانب منه إلى أن الحرارة تؤثر على الأداء المعرفي. يقول كلايتون بيج ألديرن، عالم الأعصاب ومؤلف كتاب "وطأة الطبيعة: كيف يؤثر المناخ المتغير على أدمغتنا"، إن عملية تبريد الجسم لنفسه تستنزف الطاقة التي تستخدم عادة لوظائف الدماغ المعقدة.
ويقول ألديرن "ما الذي سيختفي في تلك الحالات؟ حسناً، إنها وظائف التحكم التنفيذي المشحوذة بدقة، وشبكات الانتباه العالية المستوى، وهي الأشياء التي تحدث في المناطق الأكثر تطوراً في الدماغ. الأشياء التي تحدد البشر كبشر هي من أول الأشياء التي تتأثر بالجو الحار".
تأثيرات صحية وخيمة
كما يضعف الطقس الحار الإدراك عن طريق التسبب في التهاب أنسجة المخ، وإضعاف الاتصال بالشبكات العصبية وتعطيل النوم. وعلى الرغم من أن تكييف الهواء يمكن أن ينقذ الناس من أوجه العجز هذه، فإن ألديرن يقول إن التعرض للحرارة ليلاً وفي الطريق إلى العمل يمكن أن تكون له تأثيرات طويلة الأمد على الإدراك.
ثم هناك الطريقة التي تؤثر بها الحرارة على البنية التحتية. فمسارات السكك الحديدية ومدارج المطارات والطرق كلها عرضة للحرارة، والتي يمكن أن تذيب الأسفلت وتمثل عبئاً على الأسلاك العلوية. تواجه بعض أكبر ممرات النقل-بما في ذلك الممر الشمالي الشرقي الذي يربط معظم الساحل الشرقي للولايات المتحدة-تأخيرات عندما ترتفع درجات الحرارة، مما يمنع الركاب من الوصول إلى عملهم في الوقت المحدد.
تقول غابرييل جوارنيري، التي تتنقل من نيوجيرسي إلى مانهاتن للعمل عبر نظام النقل العام "نيو جيرزي ترانزيت"، إنها كانت "تتأخر باستمرار" خلال موجة الحر التي ضربت الولايات المتحدة في يوليو الماضي. واسترجعت غوارنيري الذكريات عندما كانت تنتظر في قطار نيوجيرزي ترانزيت المتوقف خارج محطة بنسلفانيا في 18 يونيو، عندما تأخرت رحلتها لأكثر من ساعة بسبب تعطل القطار.
وفي الأماكن التي يكون فيها مكيف الهواء أقل شيوعاً، فإن الوصول إلى العمل لا يوفر بالضرورة الراحة. ففي جميع أنحاء أوروبا، يفتقر العديد من الشركات والمدارس والمنازل إلى تكييف الهواء بالكامل. حتى في الولايات المتحدة، المعروفة بمستوياتها العالية في استخدام مكيفات الهواء، يحتاج أكثر من 40% من المدارس إلى أنظمة جديدة أو محدثة للتدفئة والتهوية وتكييف الهواء.
ردة عن العمل في المنزل بسبب الطقس
وعندما يكون هناك مكيف هواء بأحد المكاتب، يمكن أن يكون للحرارة الشديدة تأثير مثير للسخرية يتمثل في زيادة انجذاب الموظفين إلى العمل من المكتب - في ردة عن العمل من المنزل الذي جاء بفعل جائحة كورونا. يقول مارك إين، الرئيس التنفيذي لشركة "كاسل سيستمز" (Kastle Systems)، وهي شركة لأمن مقار العمل تراقب عدد المرات التي يدخل فيها الموظفون في أكثر من 2600 مبنى في 138 مدينة أميركية إلى مكاتبهم: "بالنسبة لكثير من الناس، يكون الأمر أكثر راحةً في المكتب منه في المنزل".
وعندما فحصت الشركة أربع موجات حر عبر المدن الأميركية التي تراقبها بين 2022 و2023، لم تجد أي علاقة بين ارتفاع درجة الحرارة وتغيب الموظفين. لكن الأحداث الأخرى لها تداعيات أكثر وضوحاً. يقول إين: "خلال الأحوال الجوية السيئة مثل الفيضانات في تكساس، رأينا أن لها تأثيراً كبيراً على بياناتنا".
يقول منصور سومرو، الأستاذ بكلية إدارة الأعمال في "جامعة تيسايد"، إنه حتى الشركات التي لديها مكاتب مكيفة تعمل على زيادة وعي الموظفين بالحرارة. ويروج البعض لـ "محطات الترطيب"، بينما يفرض البعض الآخر تقييمات للمخاطر، مع التركيز على الموظفين الأكثر عرضة للحرارة.
وعلى الرغم من أن الإنتاجية عامل مهم، فإن سومرو يقول إن التخفيف من أي آثار سلبية ناجمة عن الحرارة، مثل حالات الطوارئ الطبية، يعد عاملاً أكبر. ويقول: "السمعة هي خطر أعلى بكثير من المخاطر المالية".