أعظم قدر من الأمن الوظيفي في المستقبل سيكون من نصيب خبراء الخصومات الضريبية وقانون البيئة

"محاسب الكربون".. أبرز وظيفة مستقبلية في قطاع المناخ

توربينات الرياح، وفي الخلفية البخار المنبعث من أبراج التبريد بمحطة توليد الكهرباء التي تديرها "آر دبليو إي" في ألمانيا - المصدر: بلومبرغ
توربينات الرياح، وفي الخلفية البخار المنبعث من أبراج التبريد بمحطة توليد الكهرباء التي تديرها "آر دبليو إي" في ألمانيا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

في الوقت الذي تتردى فيه الأوضاع في المستقبل، ستكون ابنتاي على وشك الانضمام إلى قوة العمل، وهما طفلتان توأم تبلغان من العمر 11 عاماً، ويكتنف الغموض مسار تعليمهما الجامعي.

أعلم أن عليّ الاعتذار لهما عن الأخطاء التي ارتكبها عالمنا المعتمد على الوقود الأحفوري، وربط نفسي بالسلاسل احتجاجاً على ذلك بجانب أبواب مصنع يعمل بالفحم، على أمل تسريع وتيرة وقف استخدام الفحم في تشغيل المصانع. لكن هذا الأمر سيسبب حرجاً لابنتيّ، وأنا شخصياً خجول بطبعي. لست قلقاً للغاية من أن يحكم التاريخ عليّ، فالتاريخ سيكون مشغولاً نوعاً ما.

لكن ما الذي يمكن لأبٍ يهتم بقضايا المناخ أن يفعله؟ فأنا لا يمكنني فقط أن أشتري لهما أحذية طويلة الرقبة (نحن نعيش في مدينة نيويورك) وأتوقف عند تلك النقطة. لذا، من منطلق الأبوة، قمت ببعض الأبحاث عن كل الشركات الناشئة التي تبدأ العمل في مجال تكنولوجيا المناخ.

أي الوظائف في مجال المناخ عليهما السعي للحصول عليها؟ هل أشجعهما على الدخول في مجال الهيدروجين؟ الطاقة النووية؟ التكنولوجيا الحيوية؟ أو أمور أخرى متعلقة بالطاقة الشمسية؟ هل أهمس في أذنيهما بكلمة "بطاريات" حينما أوقظهما كل صباح؟

شركات "اليونيكورن" لا تكفي

أشعر بالقلق حيال مصطلح "الشركات المليارية الناشئة أو (اليونيكورن) في مجال المناخ" (فاليونيكورن هو الحصان الأسطوري وحيد القرن). وهو بالنسبة لي يعكس أولويات مشوّشة. لماذا على أن أكترث إن كانت شركة ما تساوي قيمتها مليار دولار في هذه المرحلة من "حقبة الأنثروبوسين" التاريخية القديمة؟

لا بد أن تكون الأهداف عملية، وأن يكون الحيوان محل التشبيه منتشر ويتوالد بكثرة. فأنا أُفضِّل رؤية قطط الكربون أو أوز الغازات الدفيئة أو أرانب التأثير الإشعاعي.

فلنأخذ الهيدروجين الأخضر على سبيل المثال. من المفترض أن نشعر بالحماسة تجاه الهيدروجين الأخضر. ربما يجدر بابنتيّ اختيار ذلك المجال، فالفكرة هي استخدام الطاقة المتجددة لإنتاج الهيدروجين، ثم استخدامه بدلاً من الفحم في العمليات الصناعية التي تتطلب درجات حرارة عالية، وماذا سيكون الناتج؟ المياه.

تأهب أيها الفحم! فليبدأ الاستثمار، ولنُرسل السير الذاتية. يمكن للهيدروجين توفير 10% من إجمالي احتياجنا للطاقة في عالمٍ خالٍ من الكربون. وبالتالي قد نسعى لتشغيل بعض توربينات الرياحّ. لكن للأسف، هنا يأتي المحللون الكمّيون في مجال المناخ، وهم باحثو "بلومبرغ نيو إنرجي فاينانس" (Bloomberg NEF)، لإفساد كل شيء.

أكثر من مقدرتنا

بحسب ما يقول الباحثون، فإن إنتاج هذا الكم من الهيدروجين يتطلب قدراً من الطاقة المتجددة أكبر من المتاح اليوم. وهذا يفوق أعداد كل الألواح الشمسية وتوربينات الرياح التي تطلبت منا أكثر من عقد لبنائها، وذلك لإنتاج الهيدروجين الأخضر فقط.

ثم سنحتاج إلى 19 أمراً إضافياً بالنطاق ذاته للتغلب على هذه العقبة.

ذلك لا يعني التوقف عن المحاولة، لكن الواقع هو أننا نحتاج إلى نصف قرن لبناء نفق واحد لمترو الأنفاق باستخدام هذه الطاقة.

أعود للعمل على قائمة الوظائف، متخيلاً المسميات الوظيفية وأسماء الشركات في المستقبل، ومنها مثلاً: متخصص في تصليح محطات شحن السيارات الكهربائية لشركة "فولتاغو" (Voltago). متخصص في رصد غاز الميثان عبر الأقمار الصناعية لشركة "ميثنون" (Methnone). مسؤول عن عدّ الشجر لشركة "ليفري" (Leafery). مهندس للعنب المقاوم للحرارة لشركة "نوز واينجنيرنغ" (Nose Winegeneering). مهندس برمجيات ثابتة للبطاريات لشركة "إديسونيان" (Edisonian). مصوِّر للحوم المزيفة لسلسلة مطاعم اسمها "ستيت أوف بين" (State of Bean)، خبير معالجة العفن، مساعد للهجرة/ مدرب متخصص في التعامل مع الجفاف، أو متخصص في نقل الناس من منطقة لأخرى... ثم أتوقف عند تلك النقطة.

هل من حلول سحرية؟

على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، كان أغلب عملي في مجال البرمجيات، وتحديداً البرمجة والعمل الاستشاري. وكان الناس يتواصلون معي حينما يواجهون مشكلة في التكنولوجيا ويحتاجون لحل. فـ"الحلول" بمثابة أمور سحرية، إذا طبقت أحدها، تختفي المشكلة.

لكن الأمر لم يَسِر بهذا الشكل. فرغم الإمكانات الهائلة التي تعد البرمجيات بتقديمها، إلا أن الحلول التكنولوجية دائماً ما تتطلب حلولاً أخرى للتعامل مع الحلول الأولى. و"الحل" الجديد اليوم هو مجموعة من أدوات التعلم الآلي، مثل "تشات جي بي تي" (ChatGPT). هناك بالفعل قطاع جديد ينشأ لمحاولة التخفيف من حجم الضرر الناتج عن تطبيق ذلك الحل.

لكن مبدأ العثور على حل واحد لجميع المشكلات لا ينجح في عالمٍ تهمين عليه مشكلة واحدة عملاقة تنبع منها عديد من المشكلات الفرعية المعقدة، وكل منها يتمخض عنه عديد من المشكلات الصغيرة فالأصغر والأصغر.

سيصبح العالم الذي يعيش فيه أبنائي مثل "مخطط سانكي" (Sankey diagram) ضخم بشكل لا يصدق، حيث لن يمثل أكبر الحلول حجماً الذي استخدم كل الموارد المتاحة، سوى بضع نقاط مئوية من الأهداف المرجوة.

وافتراض أن هناك تكنولوجيا سحرية واحدة ستحل (هذه المشكلة برمتها) هو أمر يشبه تصور أن بإمكانك حل مشكلة الصداع عبر تناول علبتين كاملتين من أقراص "تايلنول" (Tylenol).

وظيفة المستقبل

يقودني ذلك إلى استنتاجٍ مخيف وبالكاد يمكن تحمله. لا، لا أعتقد أننا سنموت جميعاً. الأمر أسوأ من ذلك. أعتقد أن الوظيفة الوحيدة الحقيقية، تلك التي ستكون أكثر أهمية من غيرها، هي بالأساس وظيفة محاسب الكربون.

فأعظم قدر من الأمن الوظيفي سيكون من نصيب مَن يملكون معرفة قوية حول الخصومات الضريبية وجميع جوانب قانون البيئة، ثم يدرسون الوثائق القابلة للحمل (PDFs)، فربما ستكون هناك وثائق قابلة للحمل في عام 2050، أليس كذلك؟ كما سيدرسون جميع جوانب معايير المناخ الضخمة المفتوحة، مثل "غولد ستاندرد" (Gold Standard) و"فيرا" (Verra) و"آي إف آر إس" (IFRS) وغيرها، ويصبحون على قدر كبير من المهارة في برمجيات الإفصاح عن تدابير تخفيف الأثر على البيئة لملء تقرير تلو الآخر كي لا تفرض الحكومة غرامات على شركاتهم أو تغلقها.

سنحتاج لمئات الآلاف ممن يستطيعون القيام بذلك، حيث سيلتقطون الصور، ويُركِّبون أدوات الاستشعار، ويدونون ملاحظات، ويدققون النظر في أحواض مليئة بالمواد الكيميائية، ثم يصنعون عروضاً تقديمة عن ذلك بصيغة "باور بوينت" (PowerPoint).

محاسب كربون معتمد

يكبد هؤلاء الأشخاص أصحاب الأعمال مبالغ طائلة، وذلك لأنه بمجرد أن ندرك أنه لا يوجد حصان وحيد القرن سيظهر في الحديقة وهو يجر خلفه عربة محملة بفئات النقود الكبيرة، تكون هذه هي لحظة الإدراك العميق والمؤلم حين يستوعب الناس أن عليهم الاستسلام وطلب العون من مستشار. وهذه هي النقطة التي يبدأ عندها تدفق الأموال الحقيقية. ثقوا بي، فأنا كنت مستشاراً في السابق.

لكن "محاسب كربون معتمد" تبدو وظيفة جيدة، أليس كذلك؟ أنا متحمسٌ لها نوعاً ما، لأنك ستحتاج الكثير من برمجيات المحاسبة الكربونية، مما يعد مهمة في حد ذاتها. كما ستحتاج إلى محامين للدفاع عن الرؤساء التنفيذيين الذين يجري سجنهم، ومحامين لمواجهة المحامين الذين يدافعون عن هؤلاء الرؤساء التنفيذيين.

وسنحتاج إلى قدر أكبر بكثير من المعايير، وربما بإمكان ابنتي أن تصبحا من بين هؤلاء الذين يجهزون أُطُر عمل المحاسبة في قطاع المناخ.

وقد تصنعا وثائق قابلة للحمل خاصة بهما. وكم سأكون فخوراً بهما لو فعلتا ذلك، فنحن بالفعل واقعون في مشكلة. لا أنكر ذلك، لكن أحياناً أظن أننا نركز أكثر من اللازم على الموت، وهذا يُضِر كثيراً بالضرائب.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك