لا يمكن أن نعدَّ "ياس مول" العملاق في مدينة أبوظبي المكان الأكثر احتضاناً للطبيعة، إذ يؤدي المُجمع المترامي الأطراف، الذي يضمُّ 20 شاشة عرض سينمائي، إلى منتزه ترفيهي يُسمى "عالم فيراري".
وفي قلب المول، هناك هايبر ماركت كارفور، إذ لا يوجد ضوء طبيعي أو تربة، لكنَّ الرفوف الممتدة من الأرض إلى السقف تقدِّم للمتسوقين أعشاباً ونباتاتٍ صغيرة تنمو مباشرة في المتجر. وذلك في وقت تُعدُّ فيه المنتجات الطازجة مشهداً نادراً في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تكاد تكون صحراء بأكملها تقريباً، وتستورد 80% من طعامها، وتُسوق تلك الأعشاب والنباتات باعتبارها طريقة صحية للعملاء لخفض الانبعاثات الكربونية التي قد تنتج عند نقل أغراض البقالة.
وقبل أكثر من عقد، طرح عالم الأحياء الدقيقة ديكسون ديسبومير فكرة اعتماد الدول- التي تمتلك قليلاً من الأراضي الصالحة للزراعة مثل الإمارات -على نفسها من خلال زراعة المنتجات الغذائية في ناطحات السحاب مع ضوء وحرارة اصطناعية بشكل مثالي تماماً.
وأطلق على هذا النوع من الزراعة اسم "الزراعة العمودية"، موضِّحاً أنَّها قد تساعد في الحدِّ من الجوع في العالم، واستعادة الغابات التي استنزفتها الزراعة التجارية، كما ستقضي على الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، والناتجة عن حرث الحقول، وإزالة الأعشاب الضارة والحصاد، وكذلك النقل.
ومنذ ذلك الوقت، تدفَّقت ملايين الدولارات إلى الشركات التي تبذل قصارى جهدها لتحويل فكرة البروفيسور ديسبومير إلى واقع. فقد استطاعت احتمالية حل مشكلتي الزراعة وحراجة الغابات، التي تُشكِّل نحو ربع انبعاثات العالم، وتفاقم أزمة إزالة الغابات في ظلِّ البحث عن أراضٍ زراعية جديدة لإطعام الكثافة السكانية المتزايدة في العالم، وجذب كافة أنواع المستثمرين، من روَّاد الأعمال التقنيين إلى أصحاب المطاعم وعمالقة الصناعة، مثل "ولمارت".
وبحسب مزوِّد البيانات "بيتش بوك" (PitchBook)، شهدت الصناعة استثماراً يصل إلى 754 مليون دولار من رأس المال الاستثماري في الأرباع السنوية الثلاثة الأولى من عام 2020، بزيادة قدرها 34% عن عام 2019 بأكمله. وجذبت هذه الصناعة اهتماماً خاصاً في دولتي سنغافورة والإمارات؛ إذ حددت حكومتهما أهدافاً لزيادة الإنتاج الغذائي الوطني.
أرخص بكثير من الزراعة التقليدية
ومع ذلك، يجب أن تكون تكلفة الزراعة العمودية أرخص بكثير من نظيرتها التقليدية لتحقق تطلُّعاتها، فعلى الرغم من أنَّها لا تحتاج إلى الأراضي التي تصلح للزراعة، وتستخدم مياهاً أقل بنسبة 95%، يستهلك خلق الظروف المثالية لنمو النباتات طاقة أكثر بكثير من الطرق التقليدية للزراعة، إذ يتطلَّب الأمر تشغيل الأضواء لمدَّة تتراوح بين 12 إلى 16 ساعة يومياً، واستخدام الحرارة في فصل الشتاء.
ويقول ميغيل بوفيدانو، الرئيس التنفيذي للشؤون التجارية لدى ماجد الفطيم للتجزئة، التي تدير سلسلة متاجر كارفور في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، إنَّ تكاليف المزارع العمودية تزداد بمعدَّل يتراوح بين 20% إلى 30% عن المزارع التقليدية.
ومع ذلك، قد لا يتمكَّن المستثمرون من الارتقاء إلى مستوى الضجة التي خلقوها حول الصناعة، وقد يروا انفجار فقاعتهم قبل أن تسنح لهم فرصة إثبات أنفسهم، بحسب ما يعتقد مايكل دنت، المحلل لدى شركة "آي دي تيك إكس" (IDTechEx). وأضاف: "إذا كان الناس يتوقَّعون التقدُّم في التغيرات العالمية، ولم يروا ذلك في أول عامين أو ثلاثة أعوام، بل ما يرونه هو سلطة عالية الجودة، فسيكون هناك فرصة لسحب استثماراتهم والانتقال إلى شيء آخر".
ويُظهر تحليل دنت أنَّ معظم المزارعين في المزارع العمودية يركِّزون على الأعشاب والسلطة الخضراء بسبب دورات محاصيلهم السريعة والبسيطة. وتحظى النباتات الصغيرة "الميكروجرين" بشكل خاص بشعبية كبيرة لدى المستهلكين المهتمين بالأكل الصحي، وليس في المناطق المحرومة، كما أنَّ هؤلاء المستهلكين أكثر ميلاً أيضاً لزراعة أعشاب، مثل القنب بدلاً من القرع أو البطيخ ذات السعرات الحرارية العالية، التي تحتاج إلى مزيداً من الطاقة والماء.
طعام للأثرياء فقط
وبدلاً من إطعام فقراء العالم بأطعمة سعراتها الحرارية عالية، لن تكون الميكروجرين والأعشاب التي تزرعها المزارع الداخلية إلا خياراً لنخبة الأثرياء في العالم لأعوام قادمة.
ووجد دنت أنَّ المنتجات المزروعة رأسياً أغلى بكثير من تلك التقليدية حتى معظم المنتجات العضوية. فعلى سبيل المثال، يعدُّ مزيج الكرنب المُنتج في الأماكن المغلقة من قبل شركة "باوري فارمينج" (Bowery Farming)، ومقرُّها نيويورك أغلى بثلاث مرات تقريباً من الكرنب الصغير المُنتج من قبل سلسلة "هول فودز ماركت" (Whole Foods Market)، كما أنَّ كزبرة "باوري فارمينج" أغلى بخمس مرَّات مما يعادلها في "هول فودز".
وأعربت جينا دومانيج، المستثمرة في "إميرالد تكنولوجي فينتشرز" (Emerald Technology Ventures)، عن اهتمامها بشكل أكثر بدعم التكنولوجيا التي قد تساهم في خفض تكاليف الطاقة بدلاً من المزارع نفسها.
وقارنت الزراعة الداخلية بتقنيات تحلية المياه، وهي عملية إزالة الملح من مياه البحر لتوفير مياه شرب عذبه للدول التي تعاني من ندرة المياه، مثل: إسرائيل.
وتقول دومانيج: "عندما ظهرت تقنية تحلية المياه، قال الجميع، إنَّها الكأس المقدسة للمياه العذبة، لكنَّها تستهلك بالفعل كميات كبيرة من الطاقة"، مضيفة: "قد تكون الزراعة العمودية أمراً مثيراً للاهتمام، إذا كانت هناك تقنيات لجعلها أقل استهلاكاً للطاقة، لكنَّها حالياً ليست اقتصادية أو سليمة بيئياً على الأصعدة كافةً".
تتطلَّب خضروات السلطة طاقة ومياهاً أقل لزراعة المحاصيل الداخلية من الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية.
ويمكن أن تكون الطاقة الشمسية أحد خيارات خفض التكلفة، لأنَّها أصبحت أرخص مصدر للكهرباء في كثير من أنحاء العالم. وفي ألمانيا، طوَّر مورِّد أجهزة الزراعة بالماء "فارمرز كت" (Farmers Cut) مزيجاً من محطات الطاقة الشمسية والبطاريات، وبالتالي، فإنَّ تكاليف الطاقة أقل مما كان سيدفعه لو ربط الأجهزة بالشبكة الكهربائية في البلاد، كما يقول المدير التنفيذي هينر شوارتز. ويمكن أن تصل تكلفة تخزين الطاقة إلى 10 أو 11 سنت يورو للكيلووات في ألمانيا.
ويقول شوارتز: "مشكلة الطاقة هي الأمر الأساسي الذي ينبغي حلّه، نحن لا ندَّعي أننا قادرون على زراعة الجزر أو البطيخ في أيِّ وقت قريب بأسعار تنافسية، لأنَّ هذا الأمر ليس ممكناً".
وفي أبوظبي، يحاول "كارفور" إيجاد مورِّد للمصابيح قادر على خفض استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 65%، وفقاً لبوفيدانو، من ماجد الفطيم للتجزئة. ويوضِّح: "العائق الأساسي هنا هو الكيلووات المستهلكة في الكهرباء، ولكن هذا ليس فقط ما تريد فعله كشركة، بل إنَّها طريقة لجعل العميل يستبدل المنتجات المستوردة بهذه التكنولوجيا، لكنَّ المفتاح الرئيسي هنا، هو جعل التكنولوجيا ميسورة التكلفة بالنسبة للجميع".