يبدو مستقبل قطاع الفحم في مقاطعة شانشي الصينية متعلقاً بأكمله بشاحنة تشبه تلك الخاصة ببيع المُثلجات، تركن على بعد نصف كيلومترٍ من منجٍم للفحم.
وهذه المركبة الصفراء والبيضاء مجهَّزة بـ(راوتر) من الجيل الخامس من شركة "هواوي". ويقوم هذا الـ"راوتر" بجمع البيانات من مركز تحكُّم المنجم، إذ يرصد الفنيون البيانات من خلال شاشةٍ عالية الجودة بحجم منزل من طابقيْن. ويتعقَّبون من خلالها الحرارة، وتركيزات الميثان، في حين يراقبون كتل الفحم السوداء التي تتدفق بسرعة على طول الأحزمة الناقلة، المتَّجهة إلى المركبات التي تنتظرها.
وكانت عملية جمع البيانات، تتمُّ سابقاً من قبل عاملين موجودين في حفرة المنجم، إلا أنَّ مجموعة "يانغتشوان" لصناعة الفحم عزلت بعض العمال، ولجأت إلى المحاكاة الافتراضية لتحسين الجانب المتعلق بالعمالة في المناجم.
ويقول هان ويهاي، مدير مشروع منجم "هواوي" في شانشي: "سيستغرق الأمر بعض الوقت، ولكن في المستقبل، سيرتدي عمال المناجم البدلات، والقمصان البيضاء." وأضاف: "لا يريد الناس العمل في المنجم بعد الآن، لا سيَّما اليافعون الذين حازوا على شهاداتٍ جامعية".
وعندما صرَّح الرئيس الصيني شي جين بينغ في سبتمبر، أنَّ الصين ستكون محايدة للكربون مع حلول العام 2060؛ أعطى الفحم فترة انتقالية مدتها أربعة عقود، أو ربما أكثر، وذلك في حال تمكَّن مجال الفحم الواسع والقوي سياسياً في الصين من إيجاد طريقةٍ لالتقاط التلوث الناتج عن الاحتباس الحراري العالمي من خلال حرق الوقود، أو إيجاد طرقٍ أخرى للتحايل على السياسات البيئية الوطنية.
وتمنح المرحلة الانتقالية الصين الوقت لاستخدام مواردها الوفيرة من الفحم، وإيجاد طريقةٍ لتنهي تدريجيا قطاعاً لا يزال يوظِّف عشرات الملايين من الأشخاص بشكلٍ مباشر وغير مباشر. ولعلَّ منجم "شينيوان" هو أفضل مكانٍ يُظهر هذا المسار العالي التقنية لقطاع الفحم في الصين.
وتصل رواتب هذا الجيل الجديد من الوظائف في قطاع المناجم إلى 100,000 يوان (15,000 دولار) سنوياً، وهو مبلغٌ يفوق ما كان يحلم أن يجنيه عمال المناجم سابقاً. وأما بالنسبة لبعض العمال، فهم يجنون هذا القدر من المال مقابل الجلوس خلف مكتبٍ في منشأةٍ حديثة تشبه الحرم الجامعي، ومزوَّدة بملعب كرة سلة، وطاولات (بينغ بونغ) ومكتبة. وتنظِّم الشركة مناسباتٍ ليلية لمشاهدة الأفلام في الهواء الطلق في الصيف، وسباقات جري في الربيع والخريف.
وتُنتج العملية حوالي 2.4 مليون طنٍ من الفحم في السنة، أي أقلَّ من عشرة بالمئة من طلب الصين الحالي. ويمكن لهذا القدر من الفحم أن يولِّد 5 ملايين طن متري من ثاني أكسيد الكربون عند حرقه. وذلك بالرغم من اعتماد "شينيوان" لتقنيات تخفيف الانبعاثات، مثل استخدام الميثان بدلاً من الفحم في مدافئها.
خطة متفاوتة السرعات
ويعدُّ الإنهاء الطويل الأمد لقطاع الفحم جزءاً من مقاربة (ثنائية السرعة) اقترحها أساتذة المناخ في "جامعة تسينغهوا". وقد تضمَّنت خطتهم السماح باستمرار بناء محطات الطاقة التي تعمل بالفحم حتى 2030، وذلك بالتزامن مع تزايد ثروات الصين وتطور التقنيات البديلة، مستشهدين بتقاعس أنظمة الطاقة والاقتصاد. وتدعو الخطة بعد ذلك إلى التسريع الحاد للانتقال إلى الطاقة الشمسية والذرية.
ويعدُّ تخفيف الاعتماد على الفحم بشكلٍ تدريجي، مقللاً للصدمات المفاجئة التي قد تؤدي إلى الاضطرابات، التي تعد أحد كوابيس الحزب الشيوعي. وبهذه الخطة يمكن احتواء المصاعب التي سيواجهها العاملون في المناجم الصينية.
ويقول وانغ هايغانغ، نائب المدير العام في "شينيوان": "سيخفِّض القطاع الوظائف، ولكن يجب أن يتمَّ ذلك ببطءٍ وبشكلٍ تدريجي". وكان منجم هايغانغ يضمُّ 3,000 عامل في 2012، في حين يخطط حالياً لتشغيل أقل من 1,000 عاملٍ مع حلول 2025. ويضيف: "قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، ولكننا نهدف إلى مستقبلٍ لا يحتاج فيه أي عاملٍ للعمل تحت الأرض."
كما أنَّ الاستمرار في استخدام الفحم مع التخفيف التدريجي لعدد عمال المناجم يحلُّ مشكلة إضافية للصين، فقد تمَّ التخطيط لسياساتٍ مناخية تغطي 1.4 مليار شخصٍ في بكين، لكنَّ تطبيقها يجب أن يتمَّ أيضاً في عشرات الحكومات المحلية. وعانت الحكومة المركزية كثيراً من إلزام المسؤولين المحليين بخطط إعادة بناء القطاعات، التي يعتمد عليها العديد منهم لكسب مدخولهم.
وستسمح تقنية التنجيم الجديدة لحكومات المقاطعات بالاستمرار في كسب المال الذي يمكن استخدامه لتطوير قطاعات جديدة لاحقة للفحم. وبالفعل، هذا ما يحدث في جينتشونغ، وهي المدينة الواقعة فوق "منجم شينيوان"، التي استثمرت في العام 2018 ما مقداره 11.5 مليار يوان (1.8 مليار دولار) في مركز أبحاثٍ طبية، ومنطقة صناعية للشركات اللوجستية، ومشاريع كبيرة أخرى.
كما تراهن المنشآت المملوكة من قبل الحكومة الصينية على ديمومة الفحم من خلال بناء محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، التي من المتوقَّع أن تزيد أساطيلها بنسبة 10% مع حلول 2025. وقد افتتحت الصين السنة الماضية خطَّ سكَّة الحديد في هاوجي، بتكلفة 3 مليار دولار، وهو ممرٌ يمتدُّ على مسافة 2,000 كيلومتر لنقل 200 مليون طن من الفحم في سنوياً، بشكل مباشر من أحواض التعدين المركزية إلى المناطق المتعطِّشة للطاقة في جنوب شرقي البلاد.
هل تعارض التوسعات الخطط البيئية للبلاد؟
يبدو أنَّ تفاؤل قطاع الفحم والحكومات المحلية التي تدعمه بشأن الوقت المتبقي قد يكون مبالغاً فيه. فوفقاً لمركز مركز دروورلد "Draworld" لبحوث البيئة ومركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، فإنَّ الصين تحتاج للتوقف عن بناء محطات الطاقة التي تعمل بالفحم على الفور، إذا أرادت الوفاء بالتزامها للعام 2060. وسيتطلَّب ذلك تقليص حجم أسطول الفحم الصيني إلى 680 جيجاوات مع حلول عام 2030، بالمقارنة مع التوسع البالغة قيمته 1,300 جيجاوات، والمُخطط له حالياً. وفي وقتٍ قريب، ستظهر حقيقة مربكة إلى الواجهة، تكمن في أنَّ هدف الصين الوطني المتمثل ببلوغ صافي انبعاثات صفرية، قد لا يكون متوافقاً مع جيلٍ آخر من الفحم.
ويتصور باحثو المناخ والعاملون في قطاع الفحم عالميْن منفصلين تماماً. ففي العالم الأول، يتمُّ تقليل استخدام الوقود الأحفوري بشكلٍ كبير، وتنتقل الصين بسرعة إلى الطاقة المتجددة. أما في العالم الثاني، فيختفي الفحم ببطءٍ، في حين يتمُّ استخدام تقنياتٍ جديدة لتقليل التأثير البيئي له. ويعرف رواد قطاع الفحم الصينيون أنَّ مناطقهم قد تعاني في حال تحقق السيناريو الأول.
ففي مدينة فوكسين شمال شرق الصين، يعمل السكان باستخراج الفحم منذ القرن الثامن عشر. وعندما تولّ الحزب الشيوعي الحكم عام 1949، صبَّ القائد ماو تسي تونغ جهوده على المنطقة من أجل تحديث البلاد. وكان حينها العمل في المناجم حاجة اقتصادية، وفخراً وطنياً على حدٍّ سواء.
واستحوذ الفحم على المدينة. وفي فترة ذروته، عمل أكثر من 500,000 من أصل 700,000 مقيم فيها لصالح مكتب التنجيم. وكان المكتب يدير المستشفيات، والمدارس، والمرافق الرياضية، وكان كل شيءٍ بالمدينة يدور حول منجم "هايتشو"، وهو أكبر مورِّدٍ للفحم المستخرج من المناجم المكشوفة في آسيا.
ومع حلول عام 2005، استُنفد الوقود الذي يُسهل الوصول إليه، وأعلن المنجم إفلاسه. وتمَّت إقالة آلاف العاملين مقابل القليل من المال. ويقول تشو يو الذي عمل لمدَّة ثماني سنوات في المنجم حينها، إنَّه وخلال مدة ثلاثة أيام؛ احتج العمال في الشوارع، مصطفين على الطريق المؤدية إلى إدارة المدينة.
وقد تلقى في نهاية المطاف تعويض نهاية خدمة يعادل أجر حوالي ثلاثة أشهر. وبعد أن خضع المنجم لإعادة الهيكلة، تمكَّن من الحصول على وظيفةٍ هناك مقابل أجرٍ منخفضٍ بشكلٍ كبير. لأنَّ العمال الكبار في السن، ومن لم يجتازوا الاختبار الصحي لم يكونوا محظوظين في التوظيف.
وتابع، وهو محدق بالمنجم المعطَّل الذي تحول إلى متحف: "لم تكن لديهم مهارات أخرى، ولم يكونوا متعلِّمين أو مدربين. إذا لم يوظفهم المنجم الذي عملوا فيه طوال حياتهم، فكيف سيتوقَّعون من شركاتٍ أخرى أن تقوم بتعيينهم؟" وأضاف: "لقد ضحينا بصحتنا، وشبابنا من أجل وظيفةٍ توقَّعنا أن تستمر حتى نهاية عمرنا، ولكن فجأةً، قيل لنا أنَّ الوعد لم يعد سارياً؟"
واليوم لا تزال فوكسن تعاني للتأقلم. ومن حافة حفرة منجم "هيتشو"، يمكنك أن ترى توربينات الرياح على هضبةٍ بعيدة، إذ يبدو صوتها كأنَّه أنشودة أملٍ للمستقبل من جهة، وناقوس موتٍ ينعى المورِّد الذي بنى المدينة من جهةٍ أخرى. وقد قللت تقنيات التصنيع، والتكنولوجيا المدعومة بشكلٍ كبيرٍ من قبل المصانع الصينية تكلفة طاقة الرياح والشمس، إلى درجة أنَّها باتت تنافس سعر الفحم، أو أصبحت أرخص منه حتى بدون إعانات.
الطاقة.. بين المستقبل والماضي
إنَّ تجميع قطع الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح لا يخلق العديد من فرص العمل كما كان يفعل التعدين.
ومن شانشي، حيث يوجد المنجم العالي التقنية، إلى مناطق أخرى غنية بالفحم، مثل منغوليا الداخلية، وشنشي، وشينجيانغ، يحاول المسؤولون المحليون إيجاد طرق لتفادي مصير فوكسين أطول فترةٍ ممكنة.
وفي الصين، ليست الشركات هي من يمارس الضغط من أجل الوقود الأحفوري فقط؛، بل قادة الأحزاب في المقاطعات، ورؤساء الشركات المملوكة من الحكومة هم من يفعلون ذلك أيضاً. وتعتمد هذه الشخصيات المحلية على القطاع لتوليد الوظائف وتحقيق النمو الاقتصادي، وللمحافظة على سلطتها وثروتها الشخصية.
هؤلاء الأشخاص مثل تشن جينشينغ، المدير السابق لمجموعة "Datang" الصينية، وهي واحدة من أكبر الشركات العاملة بتوليد الطاقة من الفحم في البلاد. وكان جينشينغ قد بدأ حياته المهنية عاملاً في منشأة للفحم في مقاطعة شاندونغ، وأمضى 40 عاماً، ثم ترقى خلالها في المناصب في عدَّة شركاتٍ مملوكة من قبل الحكومة، قبل أن يصبح مستشاراً حكومياً رفيع المستوى.
وفي مايو، صرَّح لصحيفة "China Electric Power News" أنَّ على الفحم أن يلعب دوراً أساسياً في استقرار إمدادات الطاقة في الصين للمساعدة على "التأكد من أنَّ الصين تتمتع بالاكتفاء الذاتي، ولن يتحكم بها الآخرون."
وكان القطاع قد استخدم لسنوات هذه الحجَّة للضغط من أجل الحصول على المزيد من الدعم الحكومي، وهي حجَّة قوبلت بالمصداقية في وقتٍ يزيد فيه انعزال الصين العالمي. وفي الاجتماع التشريعي السنوي للحزب في مايو، قدَّم مندوبون من قطاع الفحم الصيني اقتراحاتٍ تركزت على دور الوقود في توفير "أمن الطاقة"، وهو تعبيرٌ يزداد شعبية في ظلِّ القومية المتزايدة بالبلاد.
ومن أبرز الأسباب التي تجعل قطاع الفحم يراهن على ثباته بالرغم من التزام العام 2060 البيئي، هو أنه قد استطاع ذلك من قبل. فعندما بدأ الرئيس الصيني شي باتباع سياسات مناخية أكثر تقدماً خلال السنوات الماضية، بدأت الشركات بتحديث منشآتها لتقليل الجسيمات التي تولد الضباب الدخاني، وإنتاج المزيد من الكهرباء من كل طنٍ كانوا يحرقونه من الفحم. وقد نجحت بذلك، إذ تتباهى شركات الطاقة الصينية الآن بأنَّ محطاتها الكهربائية التي تعمل على الفحم، هي على المستوى البيئي نفسه لبعض الوحدات التي تعمل بالغاز.
وتعتمد هذه الشركات على الإنجازات التقنية في مجال احتجاز الكربون وعزله، وذلك في حبس الغازات الدفيئة وتخزينها، التي تنبعث عند حرق الفحم، وذلك للمساعدة على تحقيق الحياد الكربوني. وتقوم الصين بمشاريع إيضاحية من خلال استخدام تقنيات مُكلفة. ويقول كبار العلماء، إنَّهم يريدون توسيع نطاق هذه التقنيات لتقديم بديلٍ نظيف لمخزون الطاقة، ولتأمين مصدر موثوقٍ للطاقة، ومتوفر بشكل دائم.
وتعدُّ هذه المقاربات مقلقة لخبراء المناخ، كونها تسعى إلى تخفيف الانبعاثات الكربونية بدلاً من التخلص منها فعلياً. إلا أنَّ هذا قد يكون أفضل ما يمكن أن تقوم الصين به في المستقبل المنظور، أو على الأقل هذا ما يأمله وانغ، المشرف على المناجم في شينيوان. الذي يتابع أخيراً: "لا يمكن استبدال الفحم خلال فترةٍ زمنية قصيرة، حتى إن اختفى يوماً ما من مجتمعنا."