برغم استمرار تعطيل "كوفيد-19" للحياة الحضرية في جميع أنحاء العالم؛ إلا أنَّ مدناً عدة أحدثت تغييرات تحولية خلال عام 2021 -وفي بعض الحالات غير مسبوقة- نحو تحسين صحة السكان وسلامتهم، وملاءمة تلك المدن للمعيشة بشكل عام.
في هذا الإطار، أعلن قادة المدن عن تبني عدة سياسات ومبادرات لمعالجة قضايا تتراوح بين تغير المناخ، وعدم المساواة، وتجربة أحدث التقنيات لتطوير مدنهم. أيضاً، وفي كثير من الحالات، أجبرت التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للوباء بعض المدن على إعادة النظر في الطرق التي طالما أُنجزت بها الأمور، فضلاً عن تطبيق الحلول التي تتحدى الوضع الراهن.
اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة: العالم يتجه نحو مستويات كارثية من الاحتباس الحراري
فيما يلي تستعرض "بلومبرغ" 10 طرق لم تواصل المدن وقادتها من خلالها، المضي قدماً في خضم عام محموم فحسب؛ بل جلبوا أيضاً الإبداع والابتكار لقاطنيها.
أقرأ المزيد: كيف يتجنب العالم صدمة مماثلة لـ"أوميكرون" في المستقبل؟
العمارة: إعادة النظر في تهوية المباني
في شهر مارس، افتتحت شركة "أوبر تكنولوجيز" في سان فرانسيسكو، مقرها الجديد المؤلف من بنايتين يغطيهما الزجاج مع جسر معلق شفاف يصل بينهما. لكنَّ الألواح الزجاجية التي تغطي معظم واجهة المقر، والبالغ عددها 180 لوحاً، تتخطى كونها مجرد شكل جمالي. فقد صممت شركة "شوب أركيتيكتس" (SHoP Architects) المعروفة بالابتكار التقني، الواجهة اللامعة بحيث تفتح الألواح، وتغلق تلقائياً طوال اليوم، مما يسمح بتدفق الهواء الطبيعي، وتنظيم درجة الحرارة في داخلهما. و برغم الكشف عن تصميم المقر، للمرة الأولى في عام 2015، إلا أنَّه يعالج اثنتين من الأزمات الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي، هما: الوباء وتغير المناخ، فقد سلّط تفشي "كوفيد-19" الضوء على الحاجة إلى وجود تهوية مناسبة داخل المباني. ويأتي ذلك في الوقت الذي تعيد فيه المدن أيضاً النظر في اعتمادها على أجهزة تدفئة وتكييف الهواء.
التخطيط العمراني: "مدينة الدقيقة الواحدة"
تستلهم السويد إعادة النظر في تصميم أحيائها من مفهوم "مدينة الـ15دقيقة" الذي روّجت له آن هيدالغو، عمدة باريس، في عام 2020، إذ يتم تطوير شوارعها الواحد تلو الآخر. ومن هذا المنطلق، تدفع مبادرة تحمل اسم "تحركات الشارع" (Street Moves) من أجل تصميم "مدينة الدقيقة الواحدة"، كما تدعو المجتمعات المحلية إلى المشاركة في تخطيط شوارع مدنهم. وفي حين تهدف "مدينة الـ15 دقيقة" إلى منح السكان الوصول إلى الضروريات اليومية على مسافة قريبة من منازلهم خلال 15 دقيقة، سواء كان ذلك سيراً على الأقدام أو باستخدام الدراجات الهوائية؛ فإنَّ "مدينة الدقيقة الواحدة" تركز على الأماكن العامة الممتدة خلف مداخل المدن مباشرة. من خلال الاستشاريين وورش العمل؛ سيسهم المقيّمون في اتخاذ القرارات المتعلقة بكيفية استغلال هذه الأماكن والخدمات التي يريدون الوصول إليها. حالياً، تجري تجربة هذا المفهوم في عدد قليل من المدن، بما في ذلك العاصمة ستوكهولم، لكن الحكومة السويدية تخطط لتعميم التجربة على الصعيد الوطني بغية جعل كل شوارعها صحية ومستدامة ومفعمة بالحيوية بحلول عام 2030.
المياه: آلات لبيعها بأسعار معقولة
أخيراً، قد يصبح الوصول إلى المياه أسهل بالنسبة إلى بعض سكان الأحياء العشوائية في نيروبي، إذ تبيع تكتلات المنتجين الاحتكارية المياه بأسعار متضخمة للغاية. فقد شارفت المدينة على الانتهاء من برنامج يستهدف تركيب عشر آلات لبيع المياه في الأحياء الفقيرة في موكورو، التي يقطنها أكثر من 600 ألف شخص. وسيجري تشغيل المحطات باستخدام بطاقات مصادقة -يمكن إضافة الأموال إلى البطاقات عبر منصة "إم-بيزا" (M-Pesa) للأموال عبر الهاتف المحمول- وتقاضي أقل من 50 شلناً كينياً (أقل من 50 سنتاً أمريكياً) مقابل كمية كافية من المياه لملء جركن. وبالفعل، بدأ المسؤولون حفر الآبار في الأحياء الفقيرة الرئيسية في المدينة، إذ يمكن لكل منها تغذية أربعة موزعات بالمياه.
تكنولوجيا: وضع حجر الأساس لمدينة ذكية
في اليابان، من المقرر أن تبني "تويوتا" مدينة عالية التقنية تبلغ مساحتها 175 فداناً من الصفر في قاعدة جبل فوجي. في أولى خطواتها لتطوير المدينة، وضعت صانعة السيارات اليابانية حجر الأساس لمدينة "ووفن سيتي" (Woven City) في فبراير. وتخطط "تويوتا" لجعل المدينة بمثابة مختبر حي لاختبار كيف يمكن للمراكز الحضرية التكيف مع النقل المستقل بشكل كامل، وذلك استناداً إلى تفاعلات مجموعة مختارة من السكان الذين يتوقَّع انتقالهم عقب اكتمال المشروع في عام 2024. سيتم استخدام شبكة من أجهزة الاستشعار والكاميرات لإنشاء "التوأم الرقمي" للمدينة الحية (التوأم الرقمي عبارة عن نسخة رقمية افتراضية لأصل مادي حي أو غير حي. يتم نقل البيانات بسهولة عن طريق سد الفجوة بين العالم المادي والافتراضي، مما يسمح للكيان الافتراضي بالوجود في وقت واحد مع الكيان المادي). كما ستستخدم هذه البيانات الافتراضية المجمعة لتعليم السيارات كيفية التنقل بأمان عبر العالم الحقيقي دون تدخل بشري. ويتوقَّع بعض الخبراء أن يكون هناك أكثر من 30 مليون مركبة ذاتية القيادة على الطرق حول العالم بحلول عام 2040.
الصحة العامة: افتتاح مركزين للحقن الآمن في الولايات المتحدة
في 30 نوفمبر، افتتحت مدينة نيويورك أول مركزين للحقن الآمن في الولايات المتحدة. يأتي افتتاح المركزين، في حي "واشنطن هايتس" وحي"هارلم"، بالتزامن مع تفاقم أزمة المخدرات في البلاد خلال فترة الوباء. ووفقاً للبيانات الفيدرالية؛ فقد ارتفعت الوفيات الناتجة عن تعاطي جرعات زائدة بنسبة 29% خلال الفترة بين أبريل 2020 وأبريل 2021، متجاوزةً بذلك حاجز مئة ألف حالة، للمرة الأولى، في عام كامل. لقد دعا النشطاء مراراً إلى إنشاء مراكز للحقن الآمن يُسمح بها قانوناً في الولايات المتحدة، إذ يمكن للعاملين في مجال الرعاية الصحية منع الجرعات الزائدة أو عكس أثرها باستخدام رذاذ النالوكسون الأنفي. كما يمكنهم، أيضاً، توصيل المتعاطين الراغبين بمراكز الخدمات الاجتماعية. لكن هذه المراكز المخصصة للحقن الآمن ماتزال مثيرة للجدل، كما توقَّفت الجهود لإنشاء مراكز مماثلة في العديد من المدن -
لا سيما تحت إدارة ترمب، التي هددت باتخاذ إجراءات قانونية بموجب نص فيدرالي يهدف إلى حظر بيوت المخدرات.
الطاقة: افتتاح أول محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في أمريكا اللاتينية
في أغسطس الماضي، تم افتتاح محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية بتكلفة 1.4 مليار دولار في صحراء أتاكاما في تشيلي، والتي تعد الأولى من نوعها في أمريكا اللاتينية. على عكس محطات الطاقة الشمسية الكهروضوئية؛ يمكن لمحطة "سيرو دومينادور" (Cerro Dominador)، البالغة مساحتها 1730 فداناً، تخزين حرارة الشمس في أملاح مصهورة لتوليد الكهرباء لمدة تصل إلى 17.5 ساعة، بما في ذلك خلال ساعات الليل. بالإضافة إلى محطة كهروضوئية قريبة، يمكن للمجمع الجديد إنتاج نحو 210 ميغاواط من الطاقة المتجددة، والتي تأمل تشيلي في أن تساعد على توفير الطاقة لشبكة الكهرباء المحلية، في حين تتحول عن الطاقة الناتجة عن إحراق الفحم، في إطار محاولتها لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. ووفقاً للرئيس المنتهية ولايته سيباستيان بينيرا؛ يمكن للمحطة الجديدة أن توفر لتشيلي ما يزيد على 600 ألف طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنوياً، أي ما يعادل سحب 300 ألف سيارة من الطرق.
العدل: شرطة بديلة
في مايو، أطلقت واشنطن برنامجاً تجريبياً مدته ستة أشهر لإبعاد الشرطة عن تلقي المكالمات الواردة إلى رقم الطوارئ في الولايات المتحدة (911)، والمتعلقة بحالات الطوارئ السلوكية، وتوجيهها إلى الأخصائيين الاجتماعيين. تهدف هذه المبادرة إلى جانب المبادرات المماثلة التي أطلقتها مدن من نيويورك إلى دنفر إلى لوس أنجلوس، إلى تقليل المواجهات المدمرة بين ضباط إنفاذ القانون والأشخاص الذين يعانون من أزمات تتعلق بالصحة العقلية. كانت تلك المبادرات قد برزت وسط دعوات لإصلاح أجهزة الشرطة في أعقاب مقتل جورج فلويد وبريونا تايلور في عام 2020. لقد جرى تدريب مسؤولي الاتصالات، في العاصمة واشنطن، على فحص المكالمات التي قد تؤدي إلى العنف، أو التي تتضمن أشخاصاً تحت تأثير المخدرات والكحول. وفي إطار المرحلة الأولى من البرنامج التجريبي؛ أعيد توجيه 330 مكالمة متعلقة بالصحة العقلية فقط، أي ما يقدَّر بنحو 2% من إجمالي هذه المكالمات، برغم أنَّ المدينة تتوقَّع أن تصبح قادرة على تلقي المزيد من الحالات، كونها تعمل على توسيع نطاق عمل البرنامج وتوظيف المزيد من الأطباء. وإذا ما أثبتت هذه البرامج جدارتها؛ سيمكنها المساعدة في تمهيد الطريق لتجربة نماذج الشرطة البديلة في المدن الأخرى، والبدء في تغيير الطريقة التي يتعامل بها ضباط إنفاذ القانون مع المجتمعات.
المناخ: كبار مسؤولي مواجهة الحرارة المرتفعة
دفعت حوادث مثل قيظ مواسم الصيف الحارقة، وتفشي حرائق الغابات، وحالات انقطاع التيار الكهربائي الهائلة على نطاقات واسعة، ووقوع مئات الآلاف من الوفيات التي يمكن تلافيها في جميع أنحاء العالم كل عام، إلى احتلال الحرارة المفرطة صدارة جداول عمل المدن للتأقلم مع تغير المناخ. خلال 2021، وللمرة الأولى على الإطلاق، عيّنت المدن ما بات يُعرف بـ"كبار مسؤولي مواجهة الحرارة المرتفعة"، وهم أشخاص يفترض تخصصهم في تطوير تدخلات التبريد لحماية المواطنين من درجات الحرارة الزائدة بالتعاون مع فرق عملهم. وهكذا، عملت جين غيلبرت، التي أصبحت كبيرة مسؤولي مواجهة الحرارة المرتفعة في ميامي، وأول شخص في العالم يتولى هذا المنصب، مع إدارة الطوارئ في المدينة للوصول بشكل أفضل إلى السكان الضعفاء والمسنين، وتطوير مبادرات لزيادة مظلة الأشجار، بالإضافة إلى وضع خطط إعادة النظر في تصميم المباني والشوارع لمواجهة عالم أكثر سخونة. ستشارك المدينة أفضل الممارسات مع تحالف عالمي لمقاومة الحرارة، يشمل العاصمة اليونانية أثينا، وفريتاون في سيراليون. كما أنشأت مدينة فينيكس في ولاية أريزونا مؤخراً، مكتباً متخصصاً للتعامل مع الحوادث المتعلقة بارتفاع درجات الحرارة، والذي ينوي تبريد المدينة من خلال استراتيجيات تستند إلى البيانات.
المساواة: الخدمات الاجتماعية في المجمعات السكنية
في مبادرة جديدة أطلقتها العاصمة الكولومبية بوغوتا، سيعمل مقدمو الرعاية الاجتماعية وسط المجمعات السكنية، مع التأكد من أنَّ الخدمات الاجتماعية التي يحتاج إليها السكان تقع على مسافة قريبة منهم، حيث تقدم ما يقرب من ثلث نساء العاصمة الكولومبية رعاية غير مدفوعة الأجر بدوام كامل، بما في ذلك العمل المنزلي ورعاية المعالين، الأمر الذي يحد من قدرتهم على الانضمام إلى القوى العاملة، والمشاركة في الحياة السياسية، وتحقيق الاستقلال المالي. وفي إطار برنامج مدته أربع سنوات جرى طرحه في أواخر عام 2020، تعمل المدينة على إنشاء "مجموعات رعاية" لتخفيف جزء من هذا العبء عن كاهل النساء (وبعض الرجال). تجمع هذه المراكز بين الخدمات -مثل التعليم المرن، والرعاية الصحية للنساء، فضلاً عن فصول لتعليم الرجال كيفية تقديم الرعاية- إذ يمكن الوصول إليها بسهولة داخل أحد المجمعات السكنية. تبلغ مساحة أول مبنى للرعاية أنشأته المدينة في 2020، 800 متر مربع (أكثر من 6800 قدم مربعة) في حين يعد مركزاً مجتمعياً ضخماً يقدم أكثر من 30 برنامجاً، والذي يقول المسؤولون، إنَّه سيفيد خمسين ألفاً من سكان تلك المجمعات السكنية. أما بالنسبة إلى المقيمين خارج الحي، فالمدينة توفر حافلات للرعاية تقوم بجلب الخدمات إلى منازلهم.
النقل: تجارب لتعميم وسائل التنقل الأساسية في بعض المدن
يقوم عدد قليل من المدن في الولايات المتحدة بتعميم تجربة عناصر التنقل الأساسية من خلال مبادرات تدعم ركوب الحافلات، والدراجات الكهربائية، والدراجات البخارية، وغيرها من وسائل النقل العام والتشاركي. وتشمل تلك المدن لوس أنجلوس، وبيتسبرغ، وبيكرسفيلد في كاليفورنيا، إذ تقوم بتوجيه برامجها للركاب من ذوي الدخل المنخفض. وفي الوقت الذي انخفض فيه عدد ركاب الحافلات والقطارات في المدن حول العالم على مدار العامين الماضيين؛ سلط الوباء الضوء على الحاجة إلى تذليل العقبات -بما في ذلك الخدمة غير الموثوقة، والافتقار إلى القدرة على تحمّل التكاليف- للركاب الذين يعتمدون على التنقل في الأنشطة اليومية مثل العمل والدراسة. أيضاً، أظهرت الأبحاث الصلة بين وسائل النقل الثابتة والنجاح الاقتصادي في الولايات المتحدة. في بيكرسفيلد، سيحصل المشاركون على تذاكر مجانية لرحلاتهم على متن الحافلات، والدراجات الكهربائية، والدراجات البخارية التي يتشاركونها، إذ يدرس الباحثون أنماط التنقل التي يختارها الأشخاص لوجهات مختلفة، وكيف تؤثر البرامج في أمنهم الاقتصادي ونوعية حياتهم وصحتهم. يمكن أن تحدد النتائج ما إذا كانت مثل هذه المبادرات ستصبح دائمة.