في مسعى لإيجاد حلٍّ يسهم في خفض كمِّية النفايات التي تنتجها المدينة بشكل جذريٍّ، أطلقت حكومة برلين منشأةً في شهر سبتمبر الماضي، قد تكون الأُولى من نوعها، إذ أسَّسَت متجراً تديره الولاية وخُصِّص لبيع السلع المستعملة بدلاً من رميها في النفايات، على أن يُستخدم المبنى أيضاً كمركز يشجٍّع على صيانة الأشياء وإعادة استخدامها.
أُطلق على هذا المتجر "B-Wa(h)renhaus" (وهو اسم يجمع باللغة الألمانية بين المتجر والمنزل المحافظ على البيئة)، ويمتد على مساحة 7 آلاف قدم مربع (القدم المربع = 0.9 متر مربع)، ويعرض أغراضاً مستعملة، وأخرى أُعيد تدويرها لتُستخدم في صناعة مقتنيات جديدة، مثل الملابس، وقطع الأثاث، والهواتف، والأجهزة الإلكترونية المتنوِّعة.
وبغرض الوصول إلى فئة أوسع من أولئك الذين يقصدون عادةً متاجر بيع الأغراض المستعملة، كان اختيار موقع المتجر لافتاً، فهو لا يقع في منطقة المتاجر الفاخرة،
ولا يقع في سوق الأغراض المستعملة الشعبية رخيصة الثمن، بل اختير إنشاؤه في مركز تسوُّق معروف في المدينة يقصده الجميع.
وفي خلال الأشهُر الستة الأُولى سيستقبل المتجر زبائنه في الدور الثالث من مركز التسوق "Karstadt" المعروف في منطقة كروزبورغ. وفي المستقبل القريب تنوي المدينة افتتاح ثلاثة أو أربعة متاجر مماثلة تغطي كلَّ أنحاء برلين. أمَّا خطتها طويلة الأجل فتشمل افتتاح متجر في كلِّ من المناطق الإدارية الـ12 في المدينة، استناداً إلى خطَّة إدارة النفايات للفترة بين 2020 و2030.
ولا يقتصر دور هذه المتاجر التي تديرها المدينة (التي توجد متاجر مشابهة لها، ولكن على نطاق أصغر في هامبورغ وفيينا) على العمل كأماكن لبيع الأغراض المستعملة لإنقاذ المقتنيات القابلة لإعادة الاستخدام من مكبٍّ النفايات، فبحسب البيان الصحفي الصادر عن إدارة المدينة، تسعى برلين لاستثمار هذه المتاجر من أجل "ترسيخ مفهوم إعادة الاستخدام ضمن المجتمع المتمدِّن"، وذلك من خلال اعتمادها كمراكز للتثقيف، وتقديم النصائح حول إعادة الاستعمال، مع التوجُّه بشكل خاصٍّ إلى فئات المجتمع غير المعنية كثيراً بالاقتصاد الدائري.
تدوير 49% من المخلَّفات المعدنية
تأتي هذه المبادرة في إطار الخطة الأوسع التي وضعها التحالف الحاكم في برلين، الذي يضمُّ يسار الوسط ويسار الخضر. وتهدف الخطَّة إلى خفض الهدر في كل جوانب اقتصاد المدينة. لكن هذه المبادرة تواجه بعض التحديات التي يعود جزء منها إلى أنَّ أنظمة إعادة التدوير، وإعادة الاستخدام جيدة في الأصل جداً في برلين نسبة إلى المعايير العالمية. كما تُعيد المدينة حالياً تدوير 49% من "النفايات المعدنية الخاصة بقطاع البناء" بما يشمل الأسمنت والطوب والجصّ التي تشكٍّل تاريخيَّاً الجزء الأكبر من نفاياتها. وقد نجحت منذ عام 2008 في خفض كمِّية النفايات التي تنتجها الأُسَر سنويَّاً بمعدَّل 11 كيلوغراماً للفرد، ومع ذلك تسعى المدينة لتحسين هذه الأرقام خلال العقد المقبل.
وأمَّا مايخصُّ الأفراد، فيمكن لتحسين إعادة الاستعمال أن يُحدِث فرقاً حقيقياً على صعيد تحقيق الهدف البيئي للمدينة. وبحسب التقديرات الرسمية فإنَّ 8% من الأغراض الإلكترونية التي ترميها الأُسَر والمؤسَّسات الصغيرة في برلين، قابلة لإعادة الاستعمال، بالإضافة إلى 6% من الأغراض ذات الحجم الكبير من الخشب والمعادن. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن الحيلولة دون رمي هذه الأغراض التي يستغني عنها أصحابها، وهي لا تزال قابلة للاستخدام، في النفايات دون التزام حقيقي من فئة كبيرة من السكَّان. وحتى الوقت الحالي، فالأشخاص الأكثر ميلاً إلى شراء الأغراض المستعملة هُم مِن الفقراء، أو مناصري البيئة.
وتُظهِر خطة المدينة مدى الفرق الذي يمكن أن يُحدِثه الوصول إلى الفئات السكانية الأخرى. وهي تعرض نموذجين من التزام خفض النفايات: سيناريو أساسي يلتزم بموجبه ثلث سكان برلين بالإرشادات بشكل كامل، وسيناريو بيئي يلتزم بموجبه نصف إلى ثلثَي السكان بشكل كامل. وفي حال تمكَّنت المدينة من تحقيق السيناريو البيئي، فستتمكن من خفض كمية النفايات في المدينة بمقدار يفوق السيناريو الأول بـ5.5 كيلوغرامات للفرد، إذ يضمن السيناريو البيئي أيضاً إعادة تدوير 17 كيلوغراماً إضافيَّاً من النفايات للفرد بدل رميها في المكبَّات.
سوق للمقتنيات المستعملة
انطلقت جهود المدينة الرامية إلى تحقيق السيناريو البيئي من خلال مساعٍ متواضعة لتوسيع سوق المقتنيات المستعملة. وقالت المتحدثة باسم إدارة المدينة، درورثي وايندن: "قبل ثلاث سنوات بدأنا بجمع كلِّ أنواع الأغراض المستعملة التي يحتفظ بها الناس في (علِّيات) أو أقبية منازلهم". وتابعت: "كانت أغراضاً محفوظة بشكل جيِّد، ولا تزال صالحة للاستخدام، ولكن لا أحد يستعملها. والهدف كان منح حياة جديدة لهذه الأغراض مع شخص يمكنه أن يستفيد بها".
ففي البداية، أُعيدت هذه الأغراض إلى السوق من خلال الشبكة الواسعة من متاجر بيع الأغراض المستعملة المنتشرة في برلين، وهي جزء من حالة تجارية قائمة بحدِّ ذاتها، وتضمُّ أيضاً متاجر غذائية كبيرة تبيع بضائع دون تغليف. ثم بدأت بعدها إدارة المدينة بفتح متاجر خاصَّة بها من أجل زيادة كمِّية البضائع المعاد تدويرها، ومنح المبادرة وجهاً يمثِّلها. ثمَّ افتتح قسم إعادة التدوير في المدينة متجره الأول المتواضع في أغسطس، وقد خصِّص للبضائع المستعملة في ضاحية رينيكيندورف في أقصى غرب برلين، قبل أن تطلق إدارة المدينة متجرها الكبير في كروزبزرغ في سبتمبر.
ومن خلال التوجُّه إلى السكان بشكل مباشر، اكتشفت إدارة المدينة كمَّاً هائلاً من الأغراض ذات الجودة العالية. وتقول وايندن: "حين فتح القسم متجره توفَّرت لديه مجموعة واسعة من دراجات الأطفال التي تتمتع بحالة ممتازة، ولا وجود لأيَّة علَّة فيها".
وتتولى المدينة دفع إيجار الطابق الذي يضم المتجر، وهي تختار التجار الموكَّلين بإدارة الأكشاك فيه. وتجدر الإشارة إلى أنَّ البضائع التي يبيعها التجار ليست جديدة على السوق، ولكن ما يميز متجر "B-"Wa(h)renhaus هو أنَّ كثيراً من البضائع التي يعرضها، يأتي من نظام إعادة التدوير في المدينة أو من مصادر أخرى لا تصل عادةً إلى هذا النوع من المتاجر، ويشمل ذلك أجهزة كهربائية أُعيد تدويرها بعد إصلاحها والتحقق منها، وتباع مع كفالة مدة عام. كما تُباع منتجات صُنِعَت حصراً من إعادة تدوير مواد أخرى.
وتتعدد مصادر الأغراض التي تعرضها هذه المتاجر. وبحسب وايندن، قد يرمي السكان أغراضهم مثلاً ، لأنَّ نقلها إلى منزل جديد قد يكون مرهقاً لهم. وتضيف: "غالباً حين ينتقل الأشخاص إلى منزل جديد، قد يواجهون صعوبة في عملية التقاط الصور للأغراض، ونشر الإعلانات لإيجاد شخص ما لحملها وشرائها".
وحتى حين يبذل الناس هذا الجهد، لا تصل أغراضهم تلقائياً إلى مكان يمكنه الاستفادة بها. وأضافت وايندن: "يصل إلينا كثير من الملابس النسائية من جمعية (برلين سيتي ميشن) التي تُعنى بالمشرَّدين، فسكان المدينة يتبرعون بكثير من الملابس لهم. ولكنَّ الجمعية لا تستفيد من الملابس النسائية بما أنها تهتمُّ بشكل أساسيٍّ بالرجال، وبالتالي أصبحوا يعطوننا إياها". ومن المصادر الأخرى، ذكرت وايندن الهدر الناجم عن التجارة الإلكترونية، وقالت: "لدينا شركاء يبيعون ملابس أُعيدت من البيع عن طريق الإنترنت"، وأضافت: "إنها أغراض غير مستخدمة، ولكن لا يمكن إعادة بيعها".
دور تثقيفي
يُستخدم الطابق المكشوف فوق المتجر من أجل إقامة الندوات التثقيفية، وبرامج تهدف إلى إشراك المجتمع في هذه المبادرة، بما يتضمن إقامة ورشات عمل منتظمة تتناول مواضيعَ، مثل كيفية الحدٍّ من هدر الطعام، أو تحويل بقايا الأنسجة إلى ملابس. كما يستضيف كل شهرين ما يعرف بـ"مقهى صيانة الأشياء" الذي يقدٍّم المساعدة والنصح للأشخاص حول كيفية تصليح الأجهزة المنزلية المعطلة.
يُذكر أنَّ اسم المتجر اختير بعد إقامة منافسة شارك فيها الجمهور، وقُدِّمت أيضاً خلالها جائزة لمشروعٍ أعاد تدوير قمصان المدارس (التي تُستخدم كزيٍّ شبه رسميٍّ في المدارس الألمانية) كي لا يُضطرَّ الأهل إلى شراء قمصان جديدة لأطفالهم كلَّ عام.
وقد يبدو الترويج للاختلاط في الأماكن العامَّة في ظلِّ وباء كورونا أمراً مستغرباً حتى مع اعتماد إجراءات التباعد الاجتماعي، وقد أعادت المتاجر فتح أبوابها في برلين منذ بداية شهر مايو إثر انتهاء الإقفال العام، وبالتالي بات السكان معتادين على الاختلاط بحذر، وعادت المدينة للتركيز على الأزمة البيئية طويلة المدى.