بغض النظر عمّن سيحل محل ليز ترَس، سيرث رئيس الوزراء البريطاني المقبل أوضاعاً اقتصادية كئيبة في المستقبل القريب، تشمل ارتفاع تكاليف الاقتراض، وفواتير طاقة معطلة، وضرائب مرتفعة، مع عدم وجود استراتيجية حول كيفية إنعاش النمو.
السباق بدأ بالفعل لخلافة ترَس، التي غادرت "داونينغ ستريت" بعدما أحدثت محاولتها لتحقيق "النمو ثم النمو ثم النمو" عبر التخفيضات الضريبية لصالح الأثرياء من دون موارد لتمويلها، نتائج عكسية بشكل مذهل.
لكن، مثلها تماماً، سيكافح رئيس الوزراء القادم من أجل صياغة خطة لإنقاذ المملكة المتحدة من الركود الذي قد تكون فيه بالفعل أو ضمن حدوده على المدى الطويل، بغض النظر عمّا قيل في مسار الحملة الانتخابية.
التضخم في خانة العشرات للمرة الأولى منذ أربعة عقود، وهو يتجه للارتفاع أكثر خلال الشتاء، ما يجبر بنك إنجلترا على مواصلة رفع أسعار الفائدة. وحتى بعد التراجع عن خطة ترَس للتحفيز من خلال إقرار أكبر زيادة ضريبية منذ عام 1993، ستظل وزارة الخزانة تعاني من عجز متزايد في الميزانية، ومن الواضح أن المستثمرين يفضلون الانضباط المالي.
الجنيه الإسترليني مرشح للهبوط بغض النظر عن خليفة ترَس
تغيير السياسات
قال جوناثان بورتس، أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في "كينغز كوليدج لندن": "من الصعب للغاية أن نرى أن حزب المحافظين في وضعه الحالي قادرٌ على تحقيق أي شيء مهم في ما يتعلق بتغيير السياسات بصراحة تامة".
أضاف: "في ما يتعلق بالضرائب والإنفاق، كل ما يمكنهم فعله هو تجنب تفجير مصداقية الحكومة مرة أخرى. سيتعين عليهم التحرك بحذر ومن دون مخاطرة".
تولت ترَس منصبها منذ أكثر من شهر بقليل، معلنة عن وعود بإنعاش الاقتصاد عبر تخفيضات ضريبية عميقة بدا أنها تتجاهل التضخم السريع، ولم تكن لديها خطة فورية لتغطية أعبائها المالية. أجبرها الذعر الذي انتاب الأسواق عقب الإعلان عن الخطة، على التراجع، مع عودة العبء الضريبي حالياً إلى أعلى مستوياته منذ الحرب العالمية الثانية.
يتوقع معظم الاقتصاديين تباطؤ الاقتصاد لفترة طويلة، وأن يتفاقم بسبب توجه وزارة الخزانة من التركيز على إحداث النمو، إلى كيفية سد عجز الموازنة البالغ حالياً حوالي 25 مليار جنيه إسترليني.
ما تقوله "بلومبرغ إيكونوميكس"
قال جيمي راش المحلل في "بلومبرغ إيكونوميكس": "من يتولى المنصب من ترَس، سيظل يواجه ضغوطاً لتحقيق التوازن. على الجانب الإيجابي، الفجوة أصغر مما كانت تبدو عليه قبل أيام قليلة. أما على الجانب السلبي، فإن التخفيضات في الإنفاق العام أو الزيادات في الضرائب، مؤلمة ومثيرة للجدل دائماً. سيحاول رئيس الوزراء القادم تحقيقها من دون تفويض انتخابي مباشر، وحزب المحافظين في حالة اضطراب والأسواق مستعدة لمعاقبة أي خطوة خاطئة.. الأمر ليس بالمهمة السهلة ".
تعاني الأسر من ضغوط شديدة في ما يتعلق بتكلفة المعيشة، ما يساهم في تراجع شعبية الحكومة. تتصاعد تكلفة السلع والخدمات بسرعة أكبر من الأجور، الأمر الذي يترك القليل من المال للإنفاق لدى العمال.
يتوقع المستثمرون أن ترتفع أسعار الفائدة إلى ما يزيد قليلاً على 5% العام المقبل، على الرغم من تراجع الحكومة عن خطة التحفيز، ما أدى إلى خفض ذروة التوقعات هذه من أكثر من 6% في أعقاب الخطة المعلنة في سبتمبر.
هبوط الإنتاج
تتوقع "بلومبرغ إيكونوميكس" انخفاضاً بنسبة 0.4% في الإنتاج خلال 2023، وتقول إن المخاطر المحدقة تدفع إلى الهبوط. يتوقع معظم الاقتصاديين عدم حدوث نمو كبير حتى النصف الثاني من عام 2023، أي قبل أكثر من عام بقليل من الموعد المحدد للانتخابات العامة المقبلة. هناك بصيص من الأمل لخليفة ترَس، هو أن تطبيق إجراءت التقشف مبكراً سيفسح المجال أمام التخفيضات الضريبية قبل الانتخابات .
استقالة ترَس لن تجنب الأسر البريطانية ألم غلاء المعيشة
قالت شيفون هافيلاند المديرة العامة للغرف التجارية البريطانية: "التحديات التي تنتظرنا تتزايد يوماً بعد يوم". وأضافت: "يتوقع ثلثا الشركات أن ترفع أسعارها، فيما التضخم هو الشاغل الأكبر. من المرتقب رفع أسعار الفائدة في نوفمبر، وسترتفع فواتير الطاقة مرة أخرى للكثيرين في أبريل. هذا أمر غير مستدام".
هناك فرصة لالتقاط الأنفاس. كادت العودة إلى السياسة المالية التي تتجنب الإنفاق عن طريق العجز، أن تقضي على علاوة سعر الفائدة التي تدفعها المملكة المتحدة على نظرائها الأوروبيين نتيجة لفقدان المصداقية. وتقول "بلومبرغ إيكونوميكس"، إن الفاتورة نتيجة لهذه الفجوة قد انتهت تقريباً الآن، بعد أن كانت 20 مليار جنيه إسترليني خلال أكثر اللحظات فوضوية في الأزمة.
خلافات تجارية
حتى بعد المدى القصير، فإن الواقع المؤلم، هو أن العوامل التي قادت المملكة المتحدة إبان العقود الثلاثة الماضية - السلع الرخيصة والعمالة والائتمان والطاقة - تتحرك كلها في الاتجاه المعاكس.
هبوط الإسترليني وسندات بريطانيا مع تجاوز معدلات التضخم 10%
ازدهر الاقتصاد البريطاني خلال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الجاري، بالتوازي مع التجارة المتنامية بين الاتحاد الأوروبي وآسيا، ما أدى إلى خفض تكلفة السلع والخدمات.
أدى ذلك، بالإضافة إلى انخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي والتدفق الحر للعمال من الاتحاد الأوروبي، إلى دفع التضخم إلى مسار هبوطي حتى فترة الوباء، الأمر الذي مكّن أسعار الفائدة من الانخفاض إلى أدنى مستوياتها التاريخية.
في الوقت الراهن، عملت كل تلك العوامل على تغيير الاتجاه. أدت الخلافات التجارية مع الاتحاد الأوروبي والصين، إلى جانب فوضى سلسلة التوريد العالمية، إلى زيادة تكلفة السلع. استنزفت الحرب بين روسيا وأوكرانيا تدفق الغاز الطبيعي، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار.
مليون وظيفة شاغرة
في الوقت الذي انخفضت فيه البطالة إلى أدنى مستوى لها منذ 48 عاماً، تسرب ما لا يقل عن 300 ألف شخص من القوى العاملة منذ تفشي الجائحة، ما يجعل الأمر مكلفاً بالنسبة إلى الشركات في ما يتعلق بالتوظيف والتوسع. لا تزال هناك مليون وظيفة شاغرة، حيث تسرب كبار السن من القوى العاملة بأعداد كبيرة، ويظل الشباب في مراحل التعليم.
البطالة في بريطانيا تنخفض إلى أدنى مستوى خلال نصف قرن
اضطر بنك إنجلترا إلى التركيز على صدمة التضخم التي تأخر في رصدها، وقد رفع أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية قبل أكثر من 10 سنوات.
تدخل مسؤولو البنك المركزي بقيادة المحافظ أندرو بيلي، لدعم سوق سندات الخزانة البريطانية التي تراجعت بسبب خطة ترَس، لكنهم عادوا الآن إلى معركة التضخم، ومن المرجح أن يشددوا السياسة النقدية مرة أخرى الشهر المقبل. يتوقع معظم الاقتصاديين رفع الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس للمرة الأولى منذ عام 1989.
أوضاع سيئة
يعترف مسؤولو السياسة النقدية بأن المملكة المتحدة ستشعر بأنها أكثر فقراً.
قال نائب محافظ بنك إنجلترا، بن برودبنت في خطاب قبل ساعات من تنحي ترَس :"الارتفاع في الأسعار النسبية للسلع والطاقة، يجعلنا بشكل جماعي أسوأ حالاً".
ترك برودبنت مجالاً لالتقاط الأنفاس، من خلال الإشارة إلى أنه ليس من الواضح ما إذا كانت هناك حاجة إلى رفع أسعار الفائدة بالقدر الذي يتوقعه المستثمرون.
ينعكس الشعور بالضيق على المدى الطويل في كيفية انخفاض معدل النمو المعتاد في البلاد إلى 1.2% فقط من 2.5% قبل الأزمة المالية، وفقاً لـ"بلومبرغ إيكونوميكس".
يعكس الوضع عدداً من المشاكل الهيكلية العميقة المتجذرة لدى المملكة المتحدة منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، إذ إن انخفاض الإنتاجية والعجز عن توفير العمالة، يجعلان من الصعب على الاقتصاد استعادة النمو بعد أي نكسة.
اقتصاد بريطانيا ينكمش للمرة الأولى منذ جائحة كورونا
خيارات ومخاطر
تعتبر الأدوات لتحقيق بعض النمو - بما في ذلك زيادة الهجرة وعلاقات تجارية أوثق مع أوروبا - كلها تقريباً منبوذة للغاية بالنسبة إلى حزب المحافظين المنقسم، والذي من غير المرجح أن يسعى نوابه إلى إجراء انتخابات قبل موعد استحقاقها في يناير 2025.
تفتقر المملكة المتحدة أيضاً إلى عوامل تغيير قواعد اللعبة التي ساعدتها على الخروج من فترات الركود السابقة.
كان لدى مارغريت تاتشر نفط بحر الشمال للاستفادة منه، وطفرة تحرير القيود التي أطلقت العنان للحي المالي في مدينة لندن. استقطب جون ميجور وتوني بلير شركات تصنيع السيارات والاستثمار بما في ذلك شركة "نيسان موتور" و"بي إم دبليو"، فيما فتحا الباب أمام العمال الأجانب.
أنقذت هذه التحولات الهائلة بريطانيا من صدمات الطاقة في السبعينيات وانهيار الجنيه الإسترليني في عام 1992. ولكن في الوقت الحالي، بدلاً من بناء صناعات جديدة، قطعت المملكة المتحدة العلاقات مع شريكها التجاري الرئيسي، وقلّصت الروابط مع الصين، ومن غير المرجح أن تبرم صفقة تجارية مع الولايات المتحدة قريباً.
قال يوهان غولترمان، كبير اقتصاديي الأسواق في "كابيتال إيكونوميكس": "التوقعات لا تزال محفوفة بالمخاطر.. يواجه المسؤولون في المملكة المتحدة سلسلة من الخيارات الصعبة".