يتصل مؤشر تحديد اتجاه الرياح الموجود على ارتفاع شاهق أعلى مبنى بنك إنجلترا، بقرص في غرفة بالمبنى الفخم الخاص بمحكمة المدينة، حيث كان مديرو البنك يجتمعون هناك في القرن التاسع عشر لمعرفة اتجاه الرياح، والذي كان يُعدّ أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إليهم.
فعندما يأتي النسيم من الشرق، يشير ذلك إلى أن السفن المحملة بالسلع مثل النحاس والقمح ستبحر عبر نهر التايمز لتفريغ حمولتها، ما يؤثر في الطلب على النقود في مدينة لندن. أما الرياح الغربية، فتعني العكس.
لا يزال مؤشر اتجاه الرياح هناك، لكن البنوك المركزية فقدت إلى حدّ كبير مهارتها في الربط بين أسواق السلع والسياسة النقدية، بينما تزداد المشكلة حدة، مع زخم أسواق المواد الأساسية التي تقود التضخم المتسارع ليسجل أعلى مستوياته منذ عقود.
اقرأ أيضاً: التضخم وليس "أوميكرون".. الهاجس الأكبر للبنوك المركزية
نتيجة لذلك، أصبح توقع معدلات التضخم في عام 2022 أمراً صعباً، ويتخطى كونه مجرد علم. ماذا سيكون رد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود على الضغط الأمريكي لزيادة إنتاج النفط؟ وما الذي سيفعله فلاديمير بوتين بإمدادات الغاز إلى أوروبا؟ وكيف سيكون رد فعل بكين على ارتفاع أسعار الفحم إلى مستويات قياسية؟ ربما يتجاوز ذلك خبرة أي مسؤول في البنوك المركزية. وللاستجابة لتلك المتغيرات، تعتمد البنوك المركزية في معظمها على أدوات غير متطورة إلى حدّ ما لدمج أسواق السلع الأساسية بنماذجهم، وذلك الأمر ليس أسوأ من الاعتماد على منحنى العقود الآجلة للتنبؤ بالتضخم.
اقرأ المزيد: 5 قضايا غامضة أمام البنوك المركزية ستُحدد شكل الأسواق في 2022
العقود الآجلة.. والتوقعات
لا يمكن الاعتماد عى منحنى العقود الآجلة في التنبؤ باتجاه أسعار السلع الأساسية في المستقبل، لأنه يمثل انعكاساً لما يريد السوق دفعه اليوم لتسلم السلع في المستقبل. ويُعدّ ذلك الاعتماد أحد الأسباب التي دفعت الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي وبنوكاً أخرى إلى الخطأ في توقع مستويات التضخم العام الماضي، حيث بنت افتراضاتها على منحنيات الرسوم البيانية للأسعار، والتي قادتها إلى توقع أن أسوأ ارتفاعات أسعار السلع أصبحت وراءها. ولذلك توقعت هذه البنوك أن التضخم "مؤقت"، وهو ما كان افتراضاً خاطئاً.
تدرك البنوك المركزية تلك الثغرة. فقد نشر بنك إنجلترا ورقة بحثية في عام 2012 حول مشكلات دمج أسعار النفط في نماذج توقع التضخم التي يستخدمها البنك، وجاء فيها: "على الرغم من الارتباط النظري بين منحنى العقود الآجلة والأسعار الفورية المتوقعة، لم يكن منحنى العقود الآجلة مؤشراً جيداً للغاية للتنبؤ بالأسعار الفورية مستقبلاً وعدم توقع الاتجاه التصاعدي للأسعار بين عامي 2003 و2008، وكذلك الانهيار والتعافي في أسعار النفط منذ ذلك الحين". ورغم هذا الاستنتاج، رأى مؤلفو الدراسة ذاتها ضرورة استمرار البنك في استخدام منحنى العقود الآجلة لبناء توقعاته.
هل هناك سبب واحد لاستمرار استخدامها؟ نعم لأنها أسهل. فحتى اليوم يبني بنك إنجلترا توقعاته على افتراض أن أسعار الطاقة خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2022، سوف تتبع منحنى العقود الآجلة، فيما ستبقى ثابتة بعد ذلك.
مثال منحنى النفط
لكن في حالة السوق التي تشهد تشدداً في المعروض كالذي نشهده اليوم، يصبح شكل منحنى العقود الآجلة مضللاً بشكل خاص عند الاعتماد عليه في التوقع. وبالنظر إلى النفط على سبيل المثال، نجد أن المنحنى اليوم شديد الانحدار، وهو ما يسمى بالتراجع إلى الخلف، وهذا الشكل يعني أن المشترين على استعداد لدفع علاوة مقابل الاستلام الفوري لبراميل النفط في ظل نقص المعروض الحالي. لكن الانحدار لا يعني أن أسعار النفط على وشك الانخفاض. إنه مجرد مؤشر على الطلب الحالي.
بالنسبة إلى سوق تداولات خام النفط برنت القياسي، فإن فرق السعر بين عقد التسليم في أبريل 2022 والعقد الآجل لشهر ديسمبر 2022 هو 10 دولارات للبرميل. قد يفسر بنك إنجلترا أنه إشارة إلى أن خام برنت سينخفض سعره من 95 دولاراً إلى 85 دولاراً للبرميل من الآن وحتى نهاية العام، وبالتالي يعني ذلك انخفاض التضخم.
لكن، إذا سألت أي تاجر سلع، سوف يخبرك بمدى خطأ ذلك. فإذا كانت البنوك المركزية تتطلب طريقة لدمج العقود الآجلة لأسعار السلع الأساسية في نماذج توقعاتها، فإن سوق عقود الخيارات يصبح بديلاً أفضل، حيث فرق السعر بين عقود الخيارات المتفائلة بالصعود والأخرى المتشائمة بشأن تراجع الأسعار، والمعروف اصطلاحياً باسم الانحراف بين الحق في الشراء والحق في البيع، يعكس توقعات السوق بشكل أفضل، نتيجة ما يشير إليه من توازن بين مخاطر تغير السعر. فسوق الخيارات الآن، يعكس بشكل عام اتجاه الأسعار للارتفاع بشكل أكبر في المستقبل، وليس أقل.
هذا يعيدنا إلى مسألة الخبرة.
نماذج غير صالحة
لدى البنوك المركزية الرئيسية أعداد كبيرة من الاقتصاديين الذين صقلوا مهاراتهم خلال عصر السياسة غير التقليدية التي تضمنت أسعار الفائدة السلبية والتيسير الكمي.
تركز نمذجة التضخم طوال القرن الماضي على الأسعار باستثناء الغذاء والطاقة وإزالة العناصر المتقلبة في الاقتصاد. هذا بالضبط هو عكس ما نحتاج إليه الآن. قد تكون هناك استخدامات للنمذجة الرياضية لأحدث نظرية اقتصادية. لكن الطلب البسيط على السلع الذي يتجاوز العرض لا يحتاج إلى إضافة نطاق عريض آخر، بل يحتاج إلى عيون وآذان من ذوي الخبرة في الواقع.
يحتاج المصرفيون في البنوك المركزية إلى معلومات استخبارية عن أسواق السلع الأساسية. فبعيداً عن الاحتياطي الفيدرالي الذي يملك شبكة معلوماتية في قطاعات النفط والصناعات الزراعية، بفضل بنوكه الإقليمية في كانساس سيتي ودالاس، نجد القليل من البنوك المركزية الأخرى يعرف الكثير عما يحدث بالفعل في أسواق الطاقة والمعادن والأسواق الزراعية. وإذا كان محافظو البنوك المركزية يريدون تصحيح توقعاتهم للتضخم في عام 2022، يجب عليهم التخلي عن نماذجهم الرياضية المعقدة، وسؤال شركات النفط وعمال المناجم والمزارعين عما يحدث، ومن المحتمل أن يتفاجؤوا بما سيسمعونه.
(هذا مقال مشترك كتبه خافيير بلاس وماركوس أشوورث)