يحتدم الصدام داخل أروقة صناعة الأزياء بين كتيبات المستهلِكين من ناحية، وضمائرهم من ناحية أخرى، إذ احتفى المستهلِكون بخطوط الموضة السريعة منذ ظهور العلامات التجارية مثل "زارا" و"إتش أند إم" وحتى "بوهو"، واعتادوا تجديد خزانات ملابسهم بسرعة وبأسعار رخيصة. ومع ذلك فهُم لا يريدون تدمير الكوكب من خلال تلك التجديدات، إذ إنّ صناعة الأزياء قد تقسو على البيئة، ومِن ثَمّ يلتزم صانعو الملابس لجميع الميزانيات الآن جعل الصناعة أكثر استدامة، فهل يصبح الأخضر هو الأسوَد الجديد في عالَم الموضة؟
1. ماذا تعني الموضة المستدامة؟
إنها حركة تهدف إلى جعل صناعة الأزياء أكثر مسؤولية في ما يتعلق بسلامة البيئة من خلال تغيير طرق تصميم الملابس وتصنيعها ونقلها واستخدامها والتخلُّص منها. وتكمن الفكرة في الابتعاد عمّا يسمى بـ"الموضة السريعة"، وهي الإنتاج السريع للملابس، التي غالبًا ما تكون غير مكلفة، استجابةً للاتجاهات المتغيرة باستمرار، مما يؤدّي إلى تعامُل المستهلِكين مع الملابس على أنها سلعة يمكن التخلُّص منها. ويوجد أيضًا تركيز على عوامل مثل رعاية الحيوانات وجعل الصناعة أكثر مسؤولية من الناحية الاجتماعية، خصوصًا من خلال تشديد القيود على ظروف العمل السيئة واستغلال عمالة الأطفال في الدول النامية.
الرفاهية المستدامة.. يمثل النسيج 8% من انبعاثات الكربون في جميع أنحاء العالم، وتتطلع بعض الأسماء التجارية إلى جعل صناعاتها صديقة للبيئة (المصدر: تيك توك)
2. كيف تضرّ الملابس بالبيئة؟
مع تضاعُف إنتاج الملابس تقريبًا خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، احتسبَت انبعاثات الكربون الناتجة عن تصنيع المنسوجات ووُجِد أنها تتجاوز انبعاثات جميع الشحنات البحرية والرحلات الدولية مجتمعة. ويشكّل البوليستر والقطن 85% من جميع مواد الملابس، وكلاهما يُعَدّ قاسيًا على هذا الكوكب. فاستخراج النفط الخام، الذي يُعتبر أساس البوليستر، يمكن أن ينتج تسرُّبات سامّة ويولِّد مياه صرف ملوثة، كما أنّ معظم البوليستر غير قابل للتحلل الحيوي، وعلاوة على ذلك يتطلَّب النسيج الأصباغ الكيميائية التي تلوِّث مصادر المياه الجوفية.
أمّا القطن فهو محصول كثيف الاستهلاك للمياه والمبيدات الحشرية بشكل خاصّ، إذ يتطلّب الأمر نحو 2700 لتر (713 غالونًا) من الماء -وهو ما يكفي لتوفير إمدادات الشخص التي يحتاج إليها من المياه لمدة ثلاث سنوات- لزراعة القطن المستخدَم في تصنيع قميص واحد. وتستخدم بعض العلامات التجارية مزيدًا من القطن العضوي المزروع دون مبيدات حشرية، لكنه لا يشكّل سوى 1 في المائة من المحصول العالمي، ويستهلك كثيرًا من المياه بنفس القدر الذي يتطلّبه القطن العادي.
3. ما دور مُستهلِكي الأزياء؟
يشتري الناس مزيدًا من الملابس ويحتفظون بها لفترات أقصر، فقد انخفض متوسط عدد المرات التي يُرتدى فيها الزيّ الواحد في أوروبا قبل إهلاكه بمقدار الثلث خلال 15 عامًا، من 200 مرة في عام 2000 إلى 160 مرة في عام 2015. وعندما تُغسَل الملابس يطرد البوليستر والنايلون جزيئات ضئيلة تلوِّث مياه الصرف الصحّي. وقد وُجِد أنّ هذه الألياف الدقيقة تشكّل جزءًا مهمًّا من اللدائن الدقيقة التي تلوِّث محيطات العالَم. وفي حين أنّ طلب المستهلِكين على الملابس الرخيصة هو الذي دفع صناعة الأزياء للتطوُّر بهذه الطريقة، إلا أنّ هذا السلوك بدأ في التحوُّل، إذ تشير التقديرات إلى أنّ ما يقرب من نصف المستهلِكين في المملكة المتحدة يهتمّون بكيفية إنتاج الملابس، وتصل نسبة أولئك المستهلِكين إلى 60 في المائة بين الأطفال دون سنّ 24 عامًا.
4. ماذا تفعل الشركات حيال ذلك؟
وقَّعَت الشركات التي تمثل نحو 12.5 في المائة من السوق على التزامٍ أعدّته عام 2020 المجموعة الصناعية المسمّاة "أجندة الأزياء العالمية"، التي دعت إلى اتخاذ تدابير مثل استخدام المياه بشكل أكثر كفاءة، وتطوير ألياف أكثر استدامة، وابتكار أنظمة إعادة تدوير جديدة، كما أنّ كثيرًا من العلامات التجارية لديها مبادراتها الخاصة، فمثلًا:
• أعلنت شركة "أديداس" أنها التزمت استخدام البلاستيك المُعاد تدويره فقط بحلول عام 2024.
• تهدف شركة "هينيس أند موريتز" إلى استخدام الموادّ المُعاد تدويرها أو غيرها من الموادّ "ذات المصادر المستدامة" فقط في خطوط إنتاجها بحلول عام 2030.
• تهدف شركة "بي في إتش"، الشركة الأُمّ لعلامتَي "كيلفن كلاين" و"تومي هيلفيجر" التجاريتين، إلى الحصول على كل القطن والفيسكوز المستخدَمَين في صناعاتها من مصادر مستدامة بحلول عام 2025، و100 في المائة من البوليستر بحلول عام 2030.
• بدأت شركة "إيربان أوتفيترز" خدمة تأجير الملابس النسائية في الولايات المتحدة.
• تعهدت شركة "برادا" باستبدال نسخة أكثر استدامة بكامل إمداداتها من النايلون، من خلال استخدام النسيج الاصطناعي من بلاستيك المحيط المُعاد تدويره على سبيل المثال. وتُعَدّ "برادا" أيضًا أحدث علامة تجارية فاخرة تنضمّ إلى "غوتشي" و"بربري" في حظر الفراء من مدارج أزيائها، بعد عقود من إثارة غضب مجموعات حقوق الحيوان.
5. هل يُحدِث كلّ ذلك فرقًا؟
ليس بعدُ، إذ لا تزال الممارسات الأفضل لا تعوِّض النموَّ السريع للصناعة، الذي يُتوقَّع أن يصل إلى أكثر من 100 مليون طنّ من الملابس والأحذية التي تُشترى كل عام بحلول عام 2030. ووجد منتدى "أجندة الأزياء العالمية" في نسخته المحدَّثة لعام 2019 أنه من دون تغييرات أعمق وأكثر منهجية فإنّ الصناعة لن تحقق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة. ومن ناحية أخرى، تُظهِر الموضة السريعة علامات صغيرة على التباطؤ، فمثلًا في الهند تعمل مجموعة "تاتا غروب"، شريكة مجموعة "إنديتيكس" التي تدير متاجر "زارا"، على بناء إمبراطوريتها الخاصة بالملابس التي تَعِد بتقديم "أزياء سريعة للغاية"، وتوصيل أنماط أزياء المدرج إلى العملاء في غضون 12 يومًا فقط وبنصف السعر.
6. ماذا يحدث للملابس غير المرغوب فيها؟
تشير التقديرات إلى أنه في كل ثانية تُلقى شاحنة قمامة من المنسوجات في مكبّ النفايات أو تُحرَق، ويعاد تدوير أقل من 1 في المائة من الموادّ المستخدَمة في صناعة للملابس لصناعة أزياء جديدة. حتى بعض الشركات التي تقدّم تعهّدات الاستدامة تحرق الملابس التي لم تُبَع بقيمة تبلغ ملايين الدولارات. وفي هذا السياق، وعدت "بربري" بالتوقف عن تدمير المخزون بالكامل، ولِتتمكّن من تحقيق هذا الهدف تعمل الشركة البريطانية على زيادة المبيعات لموظفيها، والتبرُّع بالمخزون غير المبيع للعلامات التجارية التي تصنع منتجات جديدة من قصاصات الجلود، بالإضافة إلى التبرُّع بالملابس لمساعدة المحرومين على ارتداء الملابس التي تؤهّلهم للنجاح خلال بحثهم عن وظائف. وتقول "إتش أند إم" إنها تلجأ إلى تدمير الملابس فقط عندما لا تلتزم معايير السلامة ولا يمكن بيعها أو إعادة تدويرها أو منحها للجمعيات الخيرية، وإنها عندما تحرق الملابس فإنها تفعل ذلك في محطة طاقة سويدية قيد التحوُّل لتصبح خالية من الوقود الأحفوري.
7. هل تفعل الحكومات أيَّ شيء؟
تقود فرنسا، موطن بعض أشهر العلامات التجارية للأزياء في العالَم، حملة استدامة صناعة الأزياء العالمية كجزء من رئاستها لمجموعة الدول الصناعية السبع. وينسِّق فرانسوا هنري بينو، الرئيس التنفيذي لشركة "كيرينغ" مالكة علامة "غوتشي" التجارية، الجهودَ المبذولة لدفع الشركات إلى تقديم التزامات جديدة للحدّ من تأثيرها على البيئة. وفي أوروبا، سيتأثر المنتِجون والمستهلِكون بأهداف البرلمان الأوروبي لإعادة تدوير ما لا يقلّ عن 55 في المائة من النفايات المحلّية بحلول عام 2025، وإلقاء ما لا يزيد على 10 في المائة منها في مكبّات النفايات بحلول عام 2035.
وعلى الجانب الآخر، رفضت حكومة المملكة المتحدة، في يونيو 2019، مقترحات تهدف إلى وضع نهاية لحقبة التخلُّص من الأزياء، بما في ذلك حظر إحراق الملابس. أمّا في الولايات المتحدة، فتشجع القواعد الجمركية عن غير قصدٍ العلامات التجارية على إحراق السلع غير المبيعة الواردة إلى الولايات المتحدة من خلال عرض استرداد رسوم السلع التي تُدمَّر. ويوجد القليل من القوانين التي تتطلب من الشركات التعامل بشفافية بشأن الموادّ الكيميائية المستخدَمة لصبغ الأقمشة ومعالجتها حول العالَم، مما يجعل من الصعب تقييم التأثير البيئي الحقيقي لهذه الصناعة.