المسافات المتقاربة فلسفة تطوير مدن المجتمعات الحضرية الجديدة

مدينة الـ 15 دقيقة - المصدر: بلومبرغ
مدينة الـ 15 دقيقة - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

قد لا تبدو "مينيمز" الفرنسية كالمدن المستقبلية. فهي عبارة عن مجمعٍ حجري مبني من الطوب والحجر الجيري، تمّ إنشاؤه في 1925، ويتصل بشارعٍ خلفي في حي ماريه في العاصمة الفرنسية. وهي تبدو كنوع من المجمعات الذي قد تمرّ بالقرب منه دون إلقاء نظرةٍ ثانية عليه، وخاصة في مكانٍ جذاب وساحر كـ"باريس".

ولكن، إذا نظرنا عن قربٍ إلى فنائها، نلاحظ التحوّل الكبير في التصميم. حيث أصبح موقف السيارات السابق حديقةً عامة مزروعة. وتمّ تحويل المباني المحيطة به إلى 70 شقة سكنية عامة جذابة بشكلٍ غير عادي، تبلغ قيمتها 12.3 مليون يورو (14.5 مليون دولار أميركي). وفي أماكن أخرى من المجمع المُعاد تجديده، هناك مكاتب ومركز للرعاية النهارية، وأماكن مخصصة لورش عمل للأعمال الحرفية، وعيادة ومقهى يتضمن موظفين مصابين بالتوحُّد.

هذا المشروع الأخضر ذو الاستخدامات المختلطة والصديقة للمجتمع يطال الشوارع المجاورة. حيث يقع على بعد خمس دقائق من الطريق العام، وقد تمّ تجديد إحدى ساحاته الواسعة كجزءٍ من عملية تجديدٍ لسبع ساحاتٍ كبيرة، في عملية ممولة من المدينة بقيمة 30 مليون يورو. حيث لم تعد الساحة جزيرة تعجُّ بالزحمة، بل أصبحت الآن مخصصة للمشاة بشكلٍ خاص، مع صفوفٍ من الأشجار التي حلّت مكان الأسفلت الموجود هناك من قبل. حيث تسير مجموعةٌ من الدراجات الهوائية عبر الساحة على طول طريقٍ معبّد حديثاً ومحمي يدعى "كورونا بيست"، وهو أحد الطرق السريعة للدراجات الهوائية، الذي تمّ إنشاؤه لتسهيل ركوب الدراجة الهوائية في باريس الكبرى خلال جائحة فيروس كورونا. وأعلنت البلدية منذ ذلك الحين أنّ هذه الطرق ستكون دائمة، وهي مدعومةٌ بتمويلٍ مستمر بقيمة 300 مليون دولار أميركي من المنطقة، وبمبالغ تكميلية مقدمة من قبل البلديات والحكومة الفرنسية.

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

وتمتد الأشجار المزروعة حديثاً، والممرات المخصصة للدراجات والمرافق المجتمعية والمساكن الاجتماعية والمنازل وأماكن العمل كلّها على مساحة واحدة. وتعكس مجتمعة رؤية تحولية للمخططين الحضريين، يمكن وصفها بـ"مدينة الـ15 دقيقة".

ويقول كارلوس مورينو، وهو مدير علمي وأستاذ متخصص في الأنظمة المعقدة والابتكار في "جامعة باريس1": "تمثّل مدينة الـ15 دقيقة إمكانية الحصول على مدينةٍ لا مركزية. وينطوي المفهوم على مزج المهام الاجتماعية الحضرية لخلق منطقة نابضة بالحياة"، يتم استنساخها عبر امتدادٍ حضري كامل.

وأصبح مورينو، الذي عينته عمدة باريس آن هيدالغو، مبعوثا خاصا للمدن الذكية، وفيلسوفاً مداوماً في بلدية المدينة التي تسعى لتحويل العاصمة الفرنسية إلى ما يسمى بـ"مدينة المسافات المتقاربة".

مفهوم الـ 15 دقيقة

تمّ تطوير مفهوم الـ15 دقيقة الخاص به في الأساس لتقليل الانبعاثات الكربونية الحضرية، مع إعادة تصوّر مدن كفسيفساء من الأحياء التي تُلبَّى فيها احتياجات السكان كافة. على بعد 15 دقيقة من منازلهم سيرًا على الأقدام أو بواسطة الدراجة أو وسائل النقل العامة. وذلك بدلاً من مدنٍ مقسمة إلى مناطق منفصلة للعيش والعمل والترفيه. وذلك مع تقريب مسافة أماكن العمل والمتاجر والمنازل بشكلٍ أكبر، حيث يتم إفراغ مساحة الشوارع المخصصة للسيارات سابقاً. وهو ما يساعد على التخلص من التلوث ويفسح المجال أمام إنشاء الحدائق والطرق المخصصة للدراجات والأنشطة الرياضية ومراكز الترفيه. ويسمح ذلك كلّه للسكان بالقيام بأنشطتهم اليومية خارج منازلهم (والتي تميل إلى أن تكون صغيرة المساحة في باريس) في شوارع وساحات آمنة.

وكانت هناك أفكارٌ مماثلة موجودة منذ فترةٍ طويلة، بما في ذلك في باريس. حيث الأحياء والقرى ذات الشوارع المخصصة للمشي طالما كانت تشكل القاعدة، وذلك قبل أن تنتشر السيارات وقوانين تقسيم المناطق وتقسّم المدن في القرن العشرين.

إلّا أنّ مدينة الـ15 دقيقة تمثل تغييراً كبيراً عن الماضي القريب. وفي عددٍ متزايد من المدن الأخرى، أصبحت نموذجاً قوياً للمخططين والسياسيين الذين يسعون جاهدين للوصول إلى السكان، على أساس حقيقة تقليل الانبعاثات الكربونية. ويعمل القادة في كلٍ من برشلونة وديترويت ولندن وملبورن وميلانو وبورتلاند وأوريغون، على تحقيق الرؤية نفسها. حيث شجعهم الوباء على ذلك، وروّج رؤساء البلديات العالميون في يوليو لتقريرٍ صادرٍ من مجموعة "المدن C40" لتحسين المناخ في المدن على أنّه أساسي لخطط التعافي.

ومع تغيّر المناخ، و(كوفيد-19)، والاضطرابات السياسية التي تتحدى جميعها مُثُل العولمة، فإن الأمل يكمن في إعادة تشكيل المدن كأماكن للمشي وركوب الدراجات، والبقاء فيها بدلاً من التنقل إليها.

وتدعو مدينة الـ15 دقيقة إلى طريقة عيشٍ محلية وأهدأ نوعاً ما، حيث يتم استثمار وقت التنقل بدلاً من ذلك في خبرات قيّمة أكثر. ويقول مورينو: "تقدّم لنا هذه الأزمات إمكانية إعادة اكتشاف المسافات القريبة. ولأنه لدينا الآن إمكانية البقاء بالقرب من المنزل، على الناس إعادة اكتشاف الوقت المفيد، ووتيرة أخرى للعيش."

إنها رؤية مثالية في حقبةٍ تسودها الضائقة الاجتماعية العميقة، إلا أنها رؤية قد تزيد من أوجه عدم المساواة القائمة إذا نُفذت بشكلٍ غير تدريجي وبدون أخذ المساواة بالاعتبار. ويتساءل المشككون أيضاً ما إذا كانت المدينة غير القائم تنظيمها على الذهاب إلى العمل لا تزال تعدّ مدينةً بالفعل.

كما أنّ الأحلام بتحطيم التخطيط العمراني المقسّم الذي يسيطر على القرن الـ20، والذي يتسم بمرافقه الصناعية الموجودة في الضواحي، والمناطق السكنية التي تطوق المدينة، والتجارة القابعة في الصميم، وشبكات الطرق التي تربط مسافات طويلة بعضها ببعض. ولطالما دافع المفكرون الحضريون عن المحافظة على الأحياء القابلة للمشي والمختلطة اجتماعياً أو العودة إليها على الأقل، وذلك منذ نشر جاين جايكوبز عام 1961 مؤلفه عن قرية غرينتش في مانهاتن في "The Death and Life of Great American Cities" (موت وحياة المدن الأميركية العظمى).

وتحوّلت هذه المناصرة تدريجياً إلى توجه سائد للتخطيط. وحوّلت كوبنهاغن شارع التسوق الخاص بها إلى شارعٍ للمشاة في 1962، وكانت الأولى من بين العديد من المدن الأوروبية ذات الكثافة السكانية العالية التي اتّبعت هذه المقاربة في قلب وسط المدينة. وفي الولايات المتحدة، خلق ما يدعى بالعمران الجديد لسنوات الثمانينات والتسعينات نموذج تخطيط (تمّ تنفيذه بشكلٍ كامل للمرة الأولى في ساحل فلوريدا) أظهر تفضيلًا للمنازل والشقق المصفوفة بدلًا من المنازل المنفصلة، بالإضافة إلى شوارع قابلة للمشي تتضمن صفوفاً من الأشجار ومدارس ومتاجر وحدائق منتشرة بعناية لتقليل الحاجة إلى قيادة السيارات.

ابتكارات لحماية البيئة

ومنذ مطلع الألفية، أدّت المخاوف المتزايدة بشأن تلوّث الهواء والتغيير المناخي إلى المزيد من الابتكارات، مثل رسوم الاكتظاظ التي فرضتها لندن في 2003 على السيارات التي تسير وسط المدينة. والتوسعات الهائلة لشبكات النقل العام من موسكو لميديلين.

ويوجّه مفهوم مدينة الـ15 دقيقة كافة هذه الاتجاهات نحو نموذج تقييمٍ بديهي يمكن للسكان اختباره مقارنةً بتجاربهم الخاصة. وشكّل أيضاً حلاً لضغوطات المضاربة العقارية وارتفاع السياحة، التي زادت تكلفة الإيجارات في المدن ودفعت بالسكان والأعمال إلى الخروج من بعض المجتمعات القديمة. وتسعى مدينة الـ15 دقيقة إلى حماية الحيوية التي جعلت الأحياء المتنوعة ذات التوجه المحلي مثيرة للاهتمام في الأساس.

وكانت باريس تتحرك في هذا الاتجاه لبعض الوقت. خاصة تحت رئاسة بلدية هيدالغو التابعة للحزب الاشتراكي، والتي تمّ انتخابها للمرة الأولى في آذار 2014. وفرضت المدينة الحظر على أكثر السيارات تلويثاً، وحوّلت الشوارع المكتظة التي تطوق نهر السين إلى حديقةٍ خطية، في محاولةٍ للمحافظة على المجتمعات المختلطة اجتماعيًا.

ووسعت شبكة المساكن العامة الخاصة بالمدينة لتطال المناطق الأكثر ثراءً. إلّا أنّ هيدالغو لم تجمع هذه الجهود سوياً تحت مظلّة مدينة الـ15 دقيقة إلّا سنة 2020، حيث أخذت المصطلح من المجال الأكاديمي وأعطته معنًا سياسياً جديداً.

وخلال حملة إعادة انتخابها، تحالفت العمدة مع مبتكر المفهوم، مورينو. وهو متخصص سابق في الروبوتات اكتشف أنّ اهتمامه الأساسي يركّز على البيئة التي تعمل فيها الروبوتات. وكانت هيدالغو قد أرست معظم الأسس السياسية لمخطط مورينو الأولي في ولايتها الأولى؛ والتي يمكنها الآن ربط كافة مسارات الدراجات، وإدارة عمليات إغلاق ممرات السيارات برؤيةٍ تجمع بين حيوية وراحة المدينة، وسهولة وخضرة القرية.

ومنذ إعادة انتخابها في يونيو، ضاعفت هيدالغو الرهان، حيث عيّنت كارين رولاند كمفوّضة مدينة الـ15 دقيقة. وأصبحت رولاند مفوضة الثقافة في باريس أيضاً، وهي عضوة في مجلس الحزب الاشتراكي، وعملت سابقاً في مجال الثقافة في الدائرة الثامنة عشرة. والتي تقول: "صحيح أنّ باريس هي أساساً مدينة 15 دقيقة إلى حدٍ ما، ولكن ليس على المستوى نفسه في كافة الأحياء وكافة مناطقها".

وفي مثل هذه مناطق، تكون الأبراج السكنية مسيطرة بشكلٍ كبير، بينما تقل متاجر البقالة والمرافق المجتمعية مثل مراكز الرياضة والعيادات. وتشير رولاند إلى أنه ينتج عن ذلك عواقب وخيمة بشكل خاص على كبار السن وذوي القدرة المحدودة على الحركة.

وتضيف أيضاً إنّه بالقرب من قلب باريس، هناك مناطق معروفة بما نسميه "النشاط الواحد"، حيث يشغل نشاط تجاري واحد الشارع بأكمله. وتتواجد هذه المناطق بشكلٍ خاص في القسم الشرقي من الحلقة الداخلية من شوارع المدينة، وتسيطر عليها المكاتب والمتاجر الصغيرة، فتغدو نتيجة ذلك الشوارع الحيوية خلال أيام العمل هادئة وغير جذابة في المساء وخلال أيام عطلة الأسبوع.

وينطوي عمل رولاند كمفوضة مدينة الـ15 دقيقة على تنسيق جهود الأقسام المختلفة ذات الصلة. على سبيل المثال، في سبتمبر، تمّ إعادة فتح 10 ساحاتٍ مدرسية كـ"ساحات واحات" خضراء، رافعةً عدد هذه الساحات إلى 41 منذ بداية المبادرة في 2018. كما تمّ زرع الأشجار في كل واحدةٍ منها وتمّت إعادة تصميمها بأسطح ناعمة قابلة للامتصاص تساعد على محاربة حرارة الصيف.

ويمكن استخدام هذه الساحات كحدائق عامة أو مساحاتٍ لممارسة الرياضية، وهي تطلّ على "شوارع المدرسة" التي تمّ تجديدها حيث تمّ حظر السيارات أو الحدّ منها بشكلٍ كبير، إلى جانب إضافة الأشجار والمقاعد. وتشرح رولاند أنّ تحولاتٍ كهذه تشمل جمع كافة الأقسام المسؤولة عن التعليم والرياضة والشوارع والحدائق، بالإضافة إلى الأعمال المحلية والمنظمات المجتمعية.

مدن أوروبية تسعى للتحول

وليست باريس وحدها من تحاول القيام بهذا التحول. حيث استورد مُخطَّط لندن الجديد المعروف باسم "هولندا الصغيرة" أفكار تخطيطٍ هولندية تسعى إلى تقليل أو منع وصول السيارات إلى مراكز التسوق في الأحياء. بينما تحوّل برشلونة مساحات من الشوارع تبلغ 400ْ في 400 متر، في المناطق التي تسيطر عليها الأبراج السكنية إلى "مجمعاتٍ ضخمة" خالية من السيارات.

كما أعلنت مدريد عن خططٍ لنسخ هذه المقاربة، في مسعى لتحقيق هدفها المتمثل بأن تكون "مدينة الـ15 دقيقة" عندما تتعافى من جائحة كورونا. وتقول ميلانو الأمر عينه، وتأمل بتحويل ممرات وأرصفة الدراجات المخصصة لـ(كوفيد-19) إلى ممراتٍ وأرصفة دائمة عندما يستقر اقتصادها. إلّا أنّ تحويل مدينة الـ15 دقيقة إلى حركةٍ عالمية سيتطلّب معركةً ضدّ معضلة حضرية أساسية، ألا وهي أسبقية السيارة.

وقد يكون تحويل باريس أو برشلونة وهما مدينتان تمّ التخطيط لهما بشكلٍ كامل قبل اختراع السيارات، إلى مدينتيْن فاضلتيْن تتمحوران حول الأحياء ليس بهذه الصعوبة. حيث إنّ تحويلهما يشبه إخضاع عارضة أزياءٍ لتغييرٍ جذري. بينما تنطوي الصعوبة الكبرى في المدن اليافعة مترامية الأطراف الموجودة في شمال أمريكا أو أستراليا، حيث تبقى السيارات الطريقة المسيطرة للتنقل.

وتجري بعض المدن محاولات. فمنذ 2017، تعمل ملبورن على مخططٍ أساسي طويل الأمد يتمحور حول "أحياء الـ20 دقيقة". ولكن، وفي حين أنّ تطلعات المدينة مماثلة لتطلعات باريس، فإنّ المشاكل المعنية بتطبيقها أكثر اختلافاً. لا سيما في المناطق التي تتعدى الأحياء الداخلية المكتظة أساساً والضواحي الخارجية. ويشرح روز هانسن، مخطط مدن، من المشرفين على تحضير مخطط ملبورن الأساسي: "إنّ وسائل النقل العام تخدم الضواحي الوسطى بشكلٍ جيد، حيث بدأت تشهد كثافة سكانية، إلا أنّ البعض الآخر ليس كذلك. وفي الوقت عينه، لا تزال الكثافة السكانية في الضواحي الخارجية قليلة، ويعود ذلك جزئياً إلى ضعف وصلات النقل العام".

وحاولت المدينة أن تحسن خيارات النقل والعمل في الضواحي الخارجية التي تسيطر عليها منازل العائلة الواحدة. فيما شهدت بعض الضواحي الوسطى مشاريع تجريبية حيث تتم إعادة بناء مشاريع سكنية تجارية وشوارع مختلطة جديدة لزيادة المساحات المخصصة للدراجات الهوائية ولتحسين القدرة على المشي.

إلّا أنه، وبهدف إنشاء أحياء الـ20 دقيقة وربطها بعضها ببعض، سيكون الاستثمار في وسائل النقل العام هو الحل. ويقول هانسن: "ظلّ البيروقراطيون يفكرون "المخطط ينطوي على قيادة السيارة لمدّة 20 دقيقة للوصول للوجهة". إلا أنّ الأمر لا دخل له أبداً بالسيارة". حيث يجب أن تنطوي أحياء الـ20 دقيقة على وسائل نقلٍ فاعلة وعلى مدة وصول جيدة بالمنطقة. وأضاف: "وقت الوصول للوجهة للمشاة هو من 1 إلى 2 كيلومتر، بينما للدراجة الهوائية، يتراوح بين 5 إلى 7 كيلومترات. وبواسطة وسائل النقل العام، يمكن أن يتراوح بين 10 إلى 15 كيلومتراً".

التجربة الأمريكية

وبالنسبة للمدن الأميركية، فهي تعاني أيضاً لإنجاز المخططات المتفائلة نفسها ولتحقيق توازنٍ بين الرؤية والحقيقة. ففي 2016، وضع عمدة ديترويت مايك دوغان خطةً لتحويل الممرات العالية الكثافة خارج الحي التجاري المركزي في مدينته إلى أحياء الـ20 دقيقة. وتعد ديترويت مدينة مترامية الأطراف بمساحة 140 ميلاً مربعاً (1 ميل مربع = 1.6 كم مربع) . وتتمثل ميزتها الرائدة حتى الآن في إنشاء ممرٍ للمشاة بقيمة 17 مليون دولار في منطقة ليفرنوا مكنيكولز، والتي تبعد 9 أميالٍ (1 ميل = 1.6 كم) عن شمال شرق وسط المدينة. وتمّ إتمام المشروع في أوائل 2020 مع التركيزٍ على شوارع أضيق وأرصفةٍ أوسع لأماكن جلوس المقاهي وإنارة جديدة. وعبّر المقيمون وأصحاب المشاريع في المنطقة عن رضاهم الكبير عن التحسينات؛ حيث أصبح المشي إلى متاجر البقالة الآن تجربة أكثر متعةً.

إلا أنّ هذه التحسينات الحضرية خارج متناول القسم الأكبر من المدينة. ووفقًا لتقرير أعدّ في 2017 من قبل مجلس سياسة الغذاء في ديترويت، يفتقر حوالي 30,000 مواطن إلى إمكانية الوصول إلى متجر بقالة متكامل الخدمات. وقالت كاتي ترودو، نائبة رئيس التخطيط والتطوير، إنّه منذ فترةٍ ليست ببعيدة، كان على الناس الذهاب إلى الضواحي لشراء حاجياتهم. وقد تحسّن هذا الأمر بشكلٍ عام، واستهدفت التحديثات تسع مناطق أخرى، بالإضافة إلى الخطوط الموجودة في منطقة ليفرنوا مكنيكولز. ومع ذلك، فإنّ المشاكل المالية المزمنة والمساحات الكبيرة من الهياكل المتهالكة التي تُركت شاغرة مع انخفاض عدد سكان المدينة صعّبت محاولات التحول السريع.

وحتى الآن، فإنّ معظم إنجازات ديترويت المندرجة تحت مخطط الـ20 دقيقة بسيطة نسبيا، ومن ضمنها الانتقال إلى خطة تنقلٍ شاملة واستثماراتٍ مستمرة في الإنارة وإعادة رصف الشوارع. وأشارت ترودو أيضًا إلى صندوق الإسكان ميسور التكلفة الجديد للقطاعيْن العام والخاص بقيمة 50 مليون دولار، والذي يسعى إلى مساعدة المواطنين ذوي الدخل المنخفض على البقاء في مواقعهم مع زيادة قيم العقارات في الأحياء المعاد تطويرها.

وتقول: "تبدو هذه الأمور بسيطة للغاية في باريس، ولكننا واجهنا معاناة كبيرة متمثلة بفقدان السكان، بالإضافة إلى عدم الاستقرار المالي المتمثل بالإفلاس. وعلينا أن نوازن بين هذه الاستراتيجيات المركزية وبين خطط التطوير التي تضم نطاق المدينة الأوسع والتي تساعد الجميع في تحسين جودة حياتهم." وكانت تسمية الـ20 دقيقة بمثابة اختصارٍ مفيد لإعلام المقيمين والمستثمرين بأهداف المدينة. وتأمل ترودو أن تضمن المبادرات مثل صندوق الإسكان إدراج شريحة متنوعة من السكان.

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

كانت خطط ديترويت مستوحاة بشكلٍ جزئي من بورتلاند في ولاية أوريغون، والتي يتم الاحتفاء بها في الدوائر الحضرية على أنها نموذجٌ عن التخطيط المدني الأميركي. إذ تملك بورتلاند أعلى معدلٍ للتنقل بالدراجة من أي مدينة أمريكية رئيسية، كما وتتبنى المدينة سياسات التفكير المستقبلي التي تهدف إلى توفير مساكن كثيفة ومنخفضة التكلفة. ويقول مدير مكتب بورتلاند للنقل كريس وارنر ممازحًا: "غالبًا ما يعتقد الناس أننا في باريس".

ومع ذلك، سيستغرق الأمر سنواتٍ لتحقيق مستوى التكتل السكاني الذي يشكّل "حيًا كاملًا"، كما وصفت خطة المدينة للعام 2013 هدفها. حيث تشغل منازل الأسرة الواحدة حوالي ثلاثة أرباع أرض بورتلاند السكنية، كما وأنّ أكثر من نصف السكان يتنقلون بواسطة السيارة. وقد توصّل تقريرٌ حديثٌ صادرٌ عن مؤسسة "بروكينز" يدرس سلوكيات التنقل المحلي، إلى أنّه من بين ست مناطق مدنية أميركية، تملك بورتلاند أقصر متوسط مسافة تنقلية للأشخاص الذين يذهبون إلى العمل أو التسوق أو لشراء الأغراض. إلّا أنّ هذه المسافة كانت لا تزال 6.2 أميالًا، أي أنه من الصعب اجتيازها سيرًا على الأقدام أو ركوبًا على الدراجة لمدّة 15 دقيقة، خاصة إذا كنت ذاهبا إلى طبيب الأسنان أو مغسلة الملابس.

ولمواجهة هذا التحدي، ينفق مكتب بورتلاند للنقل معظم ميزانية تحسين رأس المال البالغة قيمتها 150 مليون دولار على الدراجات والبنى التحتية المخصصة للمشي داخل الأحياء الكاملة، ولربطها على الترانزيت.

مفهوم فاشل في الولايات المتحدة

يقول أدي تومر، وهو زميلٌ في برنامج "سياسة بروكينز الحضرية" وكاتبٌ مشارك في التقرير، إنّ مفهوم الـ15 دقيقة فاشلٌ في أمريكا لأنّ "الناس في الولايات المتحدة يعيشون في الأصل في مدن الـ15 دقيقة، هم فقط يجتازون المسافات الطويلة بواسطة السيارة." ويقول أيضًا إنّ المخططين المهتمين بقابلية الحياة الحضرية وارتفاع الانبعاثات الكربونية قد يركزون أيضًا على المسافة بدلًا من الوقت. واعتبر أنّ "مدينة الثلاثة أميال" قد تبدو أفضل بالنسبة للولايات المتحدة.

وبغض النظر عن كيفية طرح المفهوم، يرى آرت بيرس، مدير التخطيط للسياسة والمشاريع في مكتب بورتلاند للنقل، علامات على أنّ المسافات التي يقطعها سكان بورتلاند ستبقى قريبة من المنزل، حيث أنّ الجائحة تغيّر الطريقة التي ينظر بها الناس إلى محيطهم. ويقول: "نرى الكثير من الناس الذين يكيّفون تصرفاتهم للتركيز على مجتمعاتهم بشكلٍ أكبر. ويولّد هذا فرصةً لتعزيز العلاقات، حيث يعود الناس إلى حياةٍ أكثر طبيعية."

ويعد أحد الأمور التي يجب على مدن الـ15 دقيقة في كل مكانٍ أن تحسب لها حسابًا، هو المساواة الاجتماعية وبشكلٍ خاص موضوع توفير الإسكان الميسور التكلفة. كما تشير ترودو، نائبة رئيس التخطيط والتطوير في ديترويت. حيث تعتمد الكثير من خدمات الأحياء على العمال ذوي الدخل المنخفض الذين غالبًا ما يمضون وقتًا طويلًا في التنقل، ولا يمكن اعتبار مدينةٍ على أنها مدينة الـ15 دقيقة في حال كان باستطاعة المقتدرين ماديًا فقط البقاء في أماكنهم.

لذلك، تطمح باريس إلى طرح 30٪ من مساكنها إلى الصالح العام بحلول عام 2030، كما وأنها تزيد الحصة حتى في المناطق الأغنى رغم مقاومة الجيران الأثرياء لذلك. وتقول رولاند، مفوضة مدينة الـ15 دقيقة: "إنّ مقاومة ضغوط العقارات هي جزءٌ من برنامج عمدة باريس آن هيدالغو، وذلك للمحافظة على الإسكان العام، ولتقديم عروض إسكانٍ متنوعة للطبقة الوسطى".

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

ومن شأن تلك التدابير التوفيق بين الإيجارات المرتفعة في باريس، وبين الاستقطاب الاجتماعي. حيث ارتفعت أسعار العقارات حتى خلال الجائحة، ولكن من غير المحتمل أن يسود ذلك بالكامل. كما أنّ أهداف مدينة الـ15 دقيقة الأخرى، مثل تخضير وسط باريس وتحويله إلى منطقة للمشاة، قد تؤدي إلى إبعاد المتنقلين في الضواحي ذوي الدخل المنخفض.

وتمّ بالفعل توجيه الاتهام لإدارة هيدالغو في 2016، بعد أن فرضت تغييراتٍ على رصيف ميناء نهر السين لتزيل شارعًا رئيسيًا للمتنقلين بالسيارة. واتّهمت فاليري بيكريس، رئيسة المجلس الإقليمي لمنطقة إيل دو فرانس التي تضم ضواحي باريس، هيدالغو بالتصرف بـ"طريقةٍ أنانية" من خلال الدفع نحو إغلاق الشوارع، مشيرةً إلى أنّ "بعض الناس لا يملكون أي حلٍ غير القيادة إلى باريس للذهاب إلى العمل، لأنهم لا يملكون الإمكانيات للعيش هناك". وعبّر الآخرون عن مخاوف ذات صلة، وهي أنه من خلال إيلاء الأهمية للبنى التحتية المحلية، ستغض الحكومة النظر عن الاستثمارات الإقليمية الضرورية للغاية، مثل أنظمة النقل للمتواجدين على مسافاتٍ أبعد.

ويعترف مورينو من جهته بأنّ شرائح كبيرة من السكان قد لا يتمكنون من الاستمتاع بالحياة المحلية ذات الوتيرة البطيئة التي يتصورها. ويقول: "علينا بالطبع أن نكيّف هذا المفهوم مع وقائع مختلفة. حيث لا يملك كافة الناس القدرة على الحصول على وظائف في غضون 15 دقيقة من مساكنهم". ولكنه يركز على أنّ ظروف العديد من الناس قد تتغير بشكلٍ كبير، وهو أمرٌ يعتقد أننا بدأنا نشهده بسبب الاستغناء عن عمليات التنقل نتيجة الجائحة. وبالنسبة له، تعدّ مكاتب الشركات المركزية أمرًا من الماضي؛ مع انتشار العمل عن بعد ومجموعات مراكز العمل المشترك التي تعد مستقبل الأعمال.

ويمكن النظر أيضًا إلى مدينة الـ15 دقيقة على أنها نوعٌ من "التمدن بعد الصدمة" كما أسماه الكاتب دان هيل، أي طريقة للتعافي من هجمات المضاربة العقارية، والسياحة الزائدة، والآن الجائحة. وتقول رولاند إنه أصبح من الواضح أساسًا في باريس أنّ المدينة تحتاج إلى شبكة محلية طبية أكثر انتشارا "كي لا يشعر الناس أنه عليهم الذهاب مباشرةً إلى غرفة الطوارئ".

وتبعًا للصدمات اللامتناهية في 2020، هناك حنينٌ مغرٍ متمثل بالتركيز المتجدد على الأحياء، حتى وإن عالج بعض التحديات المدنية الحديثة فقط. ويؤكد مورينو على ذلك أيضًا، مشيرًا مجددًا إلى أهمية التعافي في فكرته قبل كل شيء. ويقول: "إنّ مدينة الـ15 دقيقة هي رحلة، ونموذج توجيهي، وإمكانية لتحويل طريقة عيشنا خلال العقود المتعددة اللاحقة. ويضيف أخيراً: "سابقاً، كان يضيّع الناس وقتًا مفيدًا في التنقل. ومع مدينة الـ15 دقيقة، نريدهم أن يستعيدوا هذا الوقت".


اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات