دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى استعادة السيطرة على قناة بنما ما لم تُخفض رسوم مرور السفن العسكرية والتجارية، في خطوة تعيد إلى الأذهان دبلوماسية القوة البحرية التي سادت في القرن التاسع عشر.
على الرغم من عدم وضوح ما إذا كان ترمب يناور سياسياً أم لا، فإن مطلبه أثار قلق أميركا اللاتينية التي تعاني بدرجة أقل من نزاعات إقليمية مقارنةً بالشرق الأوسط وآسيا. كما يكشف هذا الموقف عن استعداد ترمب لانتهاك المعاهدات، وإثارة غضب الحلفاء لخدمة المصالح الأميركية. إضافة إلى ذلك، يمثل تصعيداً ضد الصين، التي زعم ترمب، على نحو غير صحيح، أنها تدير قناة بنما.
ما هي قناة بنما؟
تعد قناة بنما ممراً مائياً حيوياً يمر عبره نحو 3% من التجارة البحرية العالمية. أحدثت ثورة في قطاع الشحن البحري منذ افتتاحها في عام 1914، إذ اختصرت مسافات الرحلات البحرية، وألغت الحاجة إلى الإبحار حول رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، أو عبر مضيق ماجلان، وهو ممر ضيق يقع في أقصى جنوب أميركا الجنوبية، ويربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ.
تتجه نحو 75% من الشحنات التي تعبر قناة بنما إلى الولايات المتحدة أو تأتي منها، ما يجعلها المستفيد الأكبر بفارق شاسع عن الدول الأخرى، من هذا الممر الملاحي الاستراتيجي.
تعمل قناة بنما من خلال نظام من الأهوسة (الأقفال المائية) التي تضبط مستوى المياه لتسهيل عبور السفن عبر الممر، وهو تصميم يُنظر إليه على أنه إنجاز هندسي مذهل. في عام 2016، شهدت القناة آخر عملية توسعة رئيسية، حيث تمت إضافة مجموعة ثالثة من الأهوسة، ما أدى إلى مضاعفة قدرتها الاستيعابية.
قبل أن تفاقم تصريحات ترمب خطر اندلاع صراع، كانت القناة تعاني بالفعل من ضغوط بسبب التغير المناخي. يعتمد نظام الأهوسة على المياه العذبة من بحيرة غاتون، التي انخفض منسوبها إلى مستويات حرجة خلال الجفاف الذي ضرب المنطقة في عام 2023، ما أجبر القناة على رفع رسوم العبور وتقليص عدد السفن المسموح بمرورها لنحو عام كامل. تُعد هذه البحيرة الاصطناعية أيضاً أكبر مصدر لمياه الشرب في بنما.
اقرأ أيضاً: قناة بنما.. ما هي ولماذا هدد ترمب بالسيطرة عليها؟
ما هو تاريخ قناة بنما؟
يُعد برزخ بنما، وهو شريط بري ضيق يفصل بين البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، ممراً تجارياً حيوياً منذ الغزو الإسباني للأميركتين في أوائل القرن السادس عشر. قاد المستكشف الإسباني فاسكو نونييث دي بالبوا أول بعثة أوروبية لعبور البرزخ في عام 1513، وسرعان ما أصبح طريقاً يعبره الغزاة الإسبان لجلب الذهب والفضة المنهوبة من حضارة الإنكا جنوباً.
في عام 1534، أمر تشارلز الأول ملك إسبانيا بإجراء أول دراسة جدوى لإنشاء قناة في المنطقة، لكنه رأى أن المشروع غير قابل للتنفيذ.
جاءت أول محاولة رئيسية لشق ممر مائي في عام 1881، عندما بدأت شركة "كومباني يونيفيرسيل دو كانال إنترأوسيانيك" (Compagnie Universelle du Canal Interoceanique) الفرنسية، بقيادة فرديناند ديليسبس، المهندس الذي أشرف على حفر قناة السويس في مصر، بأعمال البناء. غير أن المشروع انتهى بالفشل بعد وفاة أكثر من 20 ألف عامل بسبب تفشي الأمراض، مثل الملاريا والحمى الصفراء، خلال تسع سنوات من العمل.
بعد فشل المحاولة الفرنسية، أبدت الولايات المتحدة اهتماماً بالمشروع، وفي عام 1903، وقّعت معاهدة تضمن استقلال بنما عن كولومبيا، التي انفصلت عنها حديثاً، وذلك مقابل حصولها على حقوق دائمة لبناء وتشغيل القناة.
بموجب الاتفاقية، مُنحت واشنطن الحق في استخدام والتحكم في شريط أرضي بعرض 10 أميال لإنشاء الممر المائي، وذلك مقابل دفعة مالية قدرها 10 ملايين دولار، بالإضافة إلى دفعات سنوية بقيمة 250 ألف دولار.
بحلول الستينات من القرن الماضي، أثار استمرار السيطرة الأميركية على القناة حالة من الاستياء في بنما والمنطقة الأوسع. وفي عام 1975، حذّر هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، من "اندلاع أعمال شغب في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية" ما لم يتم إعادة التفاوض بشأن معاهدة القناة.
في عام 1977، وقّعت إدارة الرئيس جيمي كارتر اتفاقيات "تورّيخوس-كارتر" التي نصّت على نقل إدارة القناة والمنطقة المحيطة بها إلى بنما بحلول نهاية عام 1999.
خلال السنة المالية 2024، حققت القناة إيرادات بلغت نحو 5 مليارات دولار، أي ما يعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي لبنما.
اقرأ المزيد: رئيس بنما يرد على ترمب: سيادتنا على القناة غير قابلة للتفاوض
لماذا يريد ترمب استعادة السيطرة الأميركية على القناة؟
يبدو أن ترمب يسعى إلى التعبير عن استيائه من فقدان الولايات المتحدة السيطرة على القناة، إلى جانب الضغط على بنما لخفض تكاليف الشحن. فقد وصف تخلي واشنطن عن القناة بأنه كان "تصرفاً أحمق"، واعتبر الرسوم الحالية لعبورها "سخيفة" و"غير عادلة على الإطلاق".
بالنسبة لترمب، تمثل القناة أيضاً جزءاً من التنافس الأميركي مع الصين، إذ زعم، بشكل غير صحيح، أنها تخضع لإدارة الجيش الصيني وسيطرته.
هل شكاوى ترمب مبررة؟
تدير هيئة قناة بنما الممر الملاحي منذ أكثر من 25 عاماً، وأشرفت على مشروعات التوسعة المختلفة. في عام 2023، رفعت الهيئة الرسوم على جميع المشغلين بغض النظر عن جنسياتهم، وذلك استجابةً للجفاف الذي أجبرها على تقليص حركة العبور.
في أواخر 2023، دفع بعض شركات الشحن ما يصل إلى 4 ملايين دولار في مزادات للحصول على أحد المواقع المحدودة للمرور عبر القناة، لكن مع تحسن مستويات المياه، انخفضت تكلفة العبور بحلول منتصف 2024 إلى نحو 200 ألف دولار، كما أُلغيت غالبية الرسوم الإضافية المرتبطة بشح المياه العذبة.
رغم أن الصين لا تلعب أي دور في تشغيل قناة بنما، إلا أن مجموعة "سي كيه هتشيسون هولدينغز" (CK Hutchison Holdings Limited)، ومقرها في هونغ كونغ، تمتلك موانئ على جانبي القناة، في المحيطين الأطلسي والهادئ، وبإمكانها أيضاً استخدام خط السكك الحديدية العابر للبرزخ. تزايد نفوذ الصين في أميركا اللاتينية عبر مشاريع بنية تحتية كبرى كان مصدر قلق للإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري.
اقرأ أيضاً: بنما تدرس إلغاء اتفاقية إدارة الموانئ مع "هوتشيسون" تجنباً لتهديدات ترمب
كيف ردت بنما على مطالب ترمب؟
أكد رئيس بنما خوسيه راؤول مولينو على سيادة بلاده الكاملة على القناة، نافياً أي دور صيني في تشغيلها.
بدوره، أوضح الرئيس التنفيذي لهيئة قناة بنما، ريكاورتي فاسكيز، أن شركات أميركية وتايوانية، إضافة إلى "هتشيسون"، تدير موانئ على طول القناة. وأشار إلى أن معاهدة الحياد تمنع منح أي طرف معاملة خاصة في ما يتعلق بالرسوم، محذراً من أن أي استثناءات ستؤدي إلى حالة من الفوضى.
لكن بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى بنما في 2 فبراير، أعلنت هيئة القناة أنها ستعمل على "تحسين أولوية العبور" لسفن البحرية الأميركية. كما أكّد مولينو لروبيو أن السفن الحربية الأميركية ستتمتع بحق المرور المجاني، وفقاً لمسؤول أميركي.
في خطوة أخرى تُعتبر تنازلاً لواشنطن، أعلن مولينو أنه لن يجدد مشاركة بلاده في مبادرة الحزام والطريق، المشروع الصيني الطموح الذي يهدف إلى توسيع نفوذ بكين التجاري والبنية التحتية عالمياً.
ما هي أوراق الضغط لدى ترمب؟
تمتلك الولايات المتحدة نفوذاً اقتصادياً كبيراً على بنما، كونها أكبر شريك تجاري لها وأهم مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر.
على الرغم من أن ترمب لم يستبعد التدخل العسكري، فإن من غير المرجح أن ينتهك المعاهدات الدولية لاستعادة السيطرة على القناة بالقوة. لدى ترمب سجل طويل في إطلاق تصريحات مثيرة للجدل لجذب الانتباه إلى قضية معينة وبدء مفاوضات حولها.
إضافة إلى ذلك، قد يكون ترمب يسعى لاستخدام المسألة كوسيلة ضغط لمواجهة الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة؛ إذ تُعد بنما ممراً رئيسياً للمهاجرين القادمين من فنزويلا وهايتي والإكوادور، حيث يعبرون منطقة دارين غاب، وهي غابة كثيفة على الحدود بين بنما وكولومبيا، في طريقهم إلى أميركا.
صرّح توم هومان، الذي يشغل منصب مسؤول ملف الحدود في إدارة ترمب الثانية، بأنه يريد التعاون مع السلطات البنمية لإغلاق ممر دارين لمنع تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة.