كان جاستن ترودو أكثر التزاماً بالاقتراض من أيِّ زعيم آخر تقريباً في العالم المتقدِّم، فقد حاول شق طريقه للخروج من أزمة "كوفيد-19" العام الماضي، وهي خطوة ساهمت في التخفيف من تداعيات الوباء، لكنَّها آثارت في الوقت نفسه بعض الأسئلة الصعبة عن جدوى هذا الإنفاق الضخم بالنسبة لكندا.
وسجَّل اقتصاد كندا انكماشاً بنسبة 5.4% خلال العام الماضي، وهو أكبر انخفاض سنوي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما واصل تسجيل أداء دون مستوى نظيره الأمريكي للعام الثالث على التوالي، بحسب ما قالت هيئة الإحصاء الكندية مؤخراً. ويأتي ذلك الانخفاض برغم أنَّ البيانات الرسمية تشير إلى أنَّ الشعب الكندي تلقَّى 20 دولاراً كندياً في شكل تحويلات حكومية مقابل كل دولار فقدوه من دخلهم.
كثير من الإنفاق قليل من الإنجاز
غالباً ما كان يتجه الشعب الكندي إلى ادخار تلك المنح الحكومية النقدية الضخمة التي قُدِّمت العام الماضي، الأمر الذي أتاح المجال لانتقاد سياسة حكومة ترودو، التي أهدرت أموالاً كثيرة على برامج تُسارع بضخِّ الأموال في الاقتصاد، لكن دون فاعلية. و قال أحد المشرِّعين المعارضين: "لقد أنفقت الحكومة كثيراً، لكنَّها حقَّقت القليل".
وبدا أنَّ الادخار ظاهرة تتسم بها دول أخرى أيضاً، مثل الولايات المتحدة، فقد عزَّز الشعب الأمريكي مدَّخراته بمقدار 1.7 تريليون دولار، بحسب بيانات "بلومبرغ إيكونوميكس"، لكنَّ القلق في كندا يُعدُّ أكثر حدَّة، لأنَّ الأموال التي اقترضتها الحكومة لتمويل برامج التحفيز ساهمت في واحدة من أكبر الارتفاعات المسجَّلة في مستوى الديون بين الاقتصادات المتقدِّمة العام الماضي. وأفادت بيانات جمعتها "بلومبرغ" أنَّ إجمالي الدَّين العام والخاص ارتفع بنحو 50% ليصل إلى 353% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية الربع الثالث من عام 2020.
ويتجاهل المسؤولون الحكوميون، والعديد من الاقتصاديين الانتقادات الموجَّهة إليهم، بدعوى أنَّها تغفل المغزى الأساسي لبرامج التحفيز الحكومي. وتشير تلك الانتقادات، على سبيل المثال، إلى أنَّ صانعي السياسة كانت لديهم رفاهية الانضباط في شهري مارس وأبريل الماضيين، في حين كانوا يتَّخذون خطوات سريعة لتفادي الكساد.
وعندما اندلعت الأزمة، قال محافظ "بنك كندا" ستيفن بولوز ساخراً في ذلك الوقت: "لم يُنتقد أي رجل إطفاء قط لاستخدامه الكثير من الماء".
القدرة المالية
لم تكن الخطوة الأساسية الأولى التي اتخذتها الحكومة هي شيك بقيمة 2,000 دولار أمريكي لمرة واحدة، بل كانت دفعة شهرية بقيمة 2,000 دولار كندي (1,586 دولاراً أمريكياً) لأولئك الذين فقدوا وظائفهم، أو دخلهم بسبب الوباء. كما عرض ترودو أموالاً أيضاً على الطلاب الذين يعانون من ضعف فرص العمل الصيفية، والمتقاعدين والسكان الأصليين، والفنانين وغيرهم.
وبرغم أنَّ الاقتصاديين أثنوا على ردِّ فعل رئيس الوزراء السريع للنجاة من الأزمة، إلا أنَّ النتيجة النهائية كانت الإسراف في الإنفاق.
وارتفعت التحويلات الحكومية إلى الأسر بمقدار 119 مليار دولار كندي (94 مليار دولار أمريكي) في عام 2020 مقارنة بعام 2019، مقابل انخفاض قدره 6 مليارات من الدولارات الكندية فقط في الدَّخل العادي.
ولا يزال هناك احتمال أن تعود بعض المدَّخرات الفائضة إلى الاقتصاد مرة أخرى في وقت أقرب مما كان متوقَّعاً، مما يؤدي إلى تعافٍ اقتصادي قوي في عام 2021.
وكان النمو في الربع الرابع أقوى مما كان متوقَّعاً، مما عزَّز التفاؤل بشأن انتعاش يتغذى جزئياً على ارتفاع أسعار النفط، أهم صادرات البلاد، وبرغم ذلك، فقد كشفت البيانات الرسمية بعض المشاكل الأساسية، إذ لا تزال بيانات كل من الاستثمار في الأعمال التجارية، والاستهلاك الأسري ضعيفة.
وقال جان فرانسوا بيرولت، كبير الاقتصاديين في بنك "نوفا سكوتيا" الكندي (Bank of Nova Scotia)، عبر الهاتف: "من الواضح أنَّهم أصبحوا يدركون الآن أنَّ هذا سيحدث، ولولا ذلك ما كانوا ليصبحوا كرماء، لكنَّه كان قراراً في وقت صعب. هل كان هذا هو العمل الصائب، أعتقد أنَّ الإجابة-أو جزءاً منها- ستتضح في الأشهر القليلة المقبلة".
ودافع ترودو عن حجم العجز بالموازنة قائلاً ، إنَّ الحكومة خفَّفت الضغط الواقع على الأسر التي تحمل بعضاً من أعلى مستويات ديون الأسر في العالم، مضيفاً: "لو لم تستجب الحكومة بإجراءات سريعة، ماذا كان سيفعل الكنديون؟ كانوا سيحملون بطاقاتهم الائتمان بمزيد من الديون". وبدلاً من ذلك، فإنَّ حالات التعثُّر الشخصي تُعدُّ الأدنى منذ نحو عقدين من الزمن.
لكنَّ الموازنة ستُظهر ذلك بطرق أخرى، وفقاً لما ذكره الاقتصادي ويليام روبسون، الرئيس التنفيذي لمعهد "سي.دي. هاو" في تورنتو. وقال روبسون، في مقابلة أجريت معه: "قدرة الحكومة على تقديم خدمات مستقبلية تدهورت بشكل مفاجئ". وأوضح أنََ ذلك يشمل القدرة على التصدي لأيِّ انتكاسات اقتصادية مستقبلية، أو تمويل التحديات طويلة الأجل، مثل: تقادم البنية التحتية، وتغير المناخ، كما أنَّ الزيادات الضريبية أمر شبه مؤكَّد.
خفض مستوى التوقعات
على أرض الواقع، يُظهر الليبراليون الحاكمون في عهد ترودو مزيداً من ضبط النفس عند تحديد توقُّعات الإنفاق. وحتى مع تمديد برامج الطوارئ، يبدو أنَّ هناك إقبالاً قليلاً على إقرار حزمة تحفيز إضافية، تقترب في القيمة من حزمة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن البالغ قيمتها 1.9 تريليون دولار.
وتمتلك وزيرة المالية الكندية كريستيا فريلاند خططاً لمزيد من الإنفاق، لكنَّها تعهَّدت بالحفاظ على أيِّ زيادة إضافية عند نسبة متواضعة، تتراوح من 1% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن الواضح أنَّ ارتفاع معدَّل الادخار، الذي كان لا يزال مرتفعاً بنسبة 12.7% في الربع الرابع، تشغل بال فريلاند، إذ قالت، إنَّ الشعب الكندي سيتجه لإنفاقه في نهاية المطاف بمجرد تحسُّن الثقة. وللتأكيد على هذه النقطة، أعادت فريلاند تصنيف جهود الحكومة العام الماضي، لأنَّها "تحفيز مسبق".
وهناك مشكِّكون لهذه النظرية، بدءاً من بنك كندا، الذي قال في السابق، إنَّه لا يعتمد على المدَّخرات المتراكمة التي يمكن إطلاقها بسرعة، وقد يتشبث الكنديون بدلاً من ذلك بالمال، أو يستخدمونه لسداد ديونهم الكبيرة، ولن تكون هذه نتيجة بسيطة أيضاً.
وتقول فرانسيس دونالد، كبيرة الاقتصاديين العالميين، ورئيسة الاستراتيجية الكلية في شركة "مانولايف إنفستمنت مانجمنت"، إنَّ استخدام البيانات الاقتصادية قصيرة الأجل لقياس فعالية التحفيز المالي، يعدُّ أمراً مضللاً.
وبالنسبة لدونالد، ما يهم حقاً هو الضرر الذي استطاع الإنفاق تفاديه، فقد ساهم في الحدِّ من الندبات طويلة الأجل في سوق العمل، ومنع حالات الإفلاس والفقر، مما ساعد البلاد على تجاوز الوباء بشكل أفضل. وقالت إنَّ: "قيمة الدعم المالي ستظهر عندما يتوافر اللقاح، ويعاد فتح الاقتصاد".
مخاوف اللقاح
ومع ذلك، لا يزال ترودو عرضة للخطر، فقد كانت هناك مخاوف من بعض المطَّلعين في وزارة المالية من استخدام حكومته لمستوى منخفض من التحليل الاقتصادي لتوجيه الإنفاق الوبائي.
ويمكن أن يُنهي ترودو برامج الطوارئ بشكل أسرع، إذا كان لدى كندا ما يكفي من اللقاحات، لكن هذه الحملة كانت بطيئة. فقد أوضح مؤشر تعقُّب اللقاحات الخاص بـ"بلومبرغ" (Bloomberg Vaccine Tracker) أنَّ كندا تعطي 5 جرعات فقط لكل 100 شخص، وبالتالي لا يتمُّ تلقيح سوى 1.4% من السكان بالكامل.
وتعدُّ اللقاحات المشكلة السياسية الأكبر التي يواجهها ترودو حالياً، والسبب الرئيسي وراء انخفاض معدَّل شعبيته إلى 45% في استطلاع حديث أجراه معهد "أنغوس ريد" (Angus Reid Institute)، وهو معدَّل قرب أدنى مستوياته منذ اندلاع الوباء. ووعد رئيس الوزراء بتسريع وتيرة إعطاء اللقاح، وحصول جميع السكان المؤهلين الذين يريدون التطعيم عليه مع حلول سبتمبر.
وقال دوغ بورتر، كبير الاقتصاديين في بنك "مونتريال"، في مقابلة هاتفية: "لن أتمادى وأقول، إنَّ هناك قدراً كبيراً من التحفيز بالنظر إلى ارتفاع معدَّل البطالة عن 9%.
ما أود قوله، إنَّ توقُّعات وجود موجة كبيرة أخرى من التحفيز، قد تشير في مرحلة ما إلى أنَّنا قد نتطلَّع بشكل أكثر من اللازم".