تضمّن تقرير الوظائف الأميركية لشهر أغسطس إشارات لزيادة طال انتظارها بشأن الأيدي العاملة المتاحة. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بالنسبة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هو ما إذا كان يمكن أن يستمر هذا الوضع، حتى في الوقت الذي يحاول فيه اتخاذ التدابير اللازمة لاحتواء التباطؤ الاقتصادي.
قفز معدل مشاركة القوى العاملة إلى 62.4% الشهر الماضي، مما دفع معدل البطالة إلى 3.7% مع تراجع نسبة الذين ينضمون إلى سوق العمل ويتمكنون من إيجاد وظائف.
لكن تدفق الأميركيين الباحثين عن عمل لا يزال يأتي في سياق استمرار خلق فرص عمل قوية، والتي كانت تاريخياً عنصراً ضرورياً لجذب الناس للبحث عن عمل.
يمثل ذلك انكماشاً جديداً بالنسبة إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي في وقت يواجه فيه أعلى معدل تضخم منذ ما يقرب من أربعة عقود. فقد تخلّى إلى حد كبير هذا العام عن انتظار زيادات في المعروض من السلع والخدمات والعمالة، وكلها تم كبحها بسبب الوباء، من أجل الضغط على أسعار المستهلك وأجور الموظفين. وبدلاً من ذلك، حوّل تركيزه إلى خفض الطلب عن طريق الزيادات السريعة في أسعار الفائدة.
مسار أقل تشدداً
إذا استمرت حالات المشاركة في الارتفاع، فقد يتبع بنك الاحتياطي الفيدرالي مسار تشديد أقل حدّة ويزيد ذلك من فرص "الهبوط السلس" للاقتصاد الأميركي. ولكن مع توفر البيانات لشهر واحد فقط حتى الآن، فلا يزال هذا "شرطاً" كبيراً. يقول جوليان ريتشرز، الخبير الاقتصادي في "مورغان ستانلي" (Morgan Stanley) في نيويورك: "ما تعرفنا عليه في التقرير اليوم هو أنه ليس من الجنون التفكير في أننا يمكن أن نكون في بيئة لا نزال نرى فيها هذا التوسع في الأيدي العاملة المتوفرة، وهذا يسمح لنا "بسلامة الهبوط"، إذا جاز التعبير. هذا بالتأكيد يسهم في التفاؤل بأنهم قادرون على إدارة هبوط سلس".
بعد نشر تقرير وزارة العمل الشهري يوم الجمعة، خفّف المستثمرون توقعاتهم بشأن حجم الزيادة في سعر الفائدة الذي سيختاره مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي في اجتماع السياسة في 20-21 سبتمبر، مما أدى إلى محو كل التشديد الإضافي الذي عوّلوا عليه في أعقاب الخطاب المتشدّد لرئيس الاحتياطي الفيدرالي باول الذي ألقاه في 26 أغسطس في "جاكسون هول".
قال باول حينها: "من الواضح أن هناك مهمة يجب القيام بها في تعديل الطلب لمواءمة العرض بشكل أفضل"، مضيفاً أن العملية "ستجلب بعض الألم للأسر والشركات"، وهو ما فسره المستثمرون على أنه توقع زيادة أخرى بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية للسعر المرجعي للبنك المركزي، بعد زيادة بنفس الحجم في كل من اجتماعيه الأخيرين.
ما تقوله "بلومبرغ إيكونوميكس" ...
"إن نقطة واحدة في البيانات لا تشكّل اتجاهاً، فلا نزال متشكّكين بأن القوة العاملة المتوفرة ستستمر في التزايد بهذه الوتيرة القوية. وحتى قبل الوباء، كان المسنّون بالولايات المتحدة يضغطون باتجاه هبوطي على معدل المشاركة في القوى العاملة".
- آنا وونغ ويلينا شولياتيفا وأندرو هوسبي، خبراء اقتصاد
الأمر يبدو حالياً أشبه بالتأرجح بين ذلك وبين زيادة بمقدار نصف نقطة، وفقاً للعقود الآجلة الفيدرالية. التقرير الآخر لوزارة العمل حول أسعار المستهلك لشهر أغسطس المقرر صدوره في 13 سبتمبر، من المحتمل أن يكون حاسماً.
والسؤال المتبقي من العام هو ما إذا كانت زيادة المشاركة في أغسطس لها أثر لمرة واحدة مرتبط بانحسار الوباء، وما إذا كان يمكن استمرارها حتى في مواجهة تباطؤ نمو الوظائف، وهو ما تشير إليه العديد من التوقعات. نرى أن أسعار الفائدة المرتفعة تبدأ في التأثير على الاقتصاد.
قالت نيلا ريتشاردسون، كبيرة الاقتصاديين في شركة "أوتوماتيك داتا بروسيسينغ" (Automatic Data Processing) في روزلاند، نيو جيرسي: "هل يمكنك تقليص الطلب وزيادة العرض في الوقت نفسه؟ ربما تكون هناك زيادة إذا كان الناس مستعدين للعودة إلى العمل، وكان ذلك بمثابة تغيير سلوكي أو معنوي، ونحن على مشارف عام دراسي جديد، وقد حان الوقت لإنهاء فترة التوقف الناجمة عن الوباء والعودة إلى "سوق العمل".
أضافت ريتشاردسون: "المشكلة هنا فيما إذا بدأت الشركات في التوقف مؤقتاً، أو كانت أكثر تحفظاً في توظيفها مع قدوم المزيد من الأشخاص. كان هناك عدم تطابق في التوقيت طوال هذا الوقت: أولاً، كانت الشركات جاهزة ولم يكن العمال كذلك. الآن، قد يكون الموظفون مستعدين وقد تتوقف الشركات مؤقتاً ".
زيادة متواضعة
قفزت مشاركة القوى العاملة للأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عاماً لتصل إلى 82.8% الشهر الماضي، من 82.4% في يوليو الماضي، مما جعلها زيادة متواضعة للغاية مقارنة بمستوى فبراير 2020 البالغ 83%. كما ارتفعت مشاركة الأميركيين الأصغر سناً، والذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً، ولكن مستوى 55.7% لا يزال بعيداً عن معدل ما قبل الوباء البالغ 57%. وبالنسبة للأميركيين الذين تبلغ أعمارهم 55 عاماً أو أكبر، فقد انخفضت المشاركة فعلياً إلى 38.6%، أي أقل بكثير من مستوى فبراير 2020 البالغ 40.3%.
ربما يكون المزيد من المعروض من العمالة قد ساعد أيضاً في إحداث ضغط أدى إلى هبوط الأجور، حيث ارتفع متوسط الدخل في الساعة بـ0.3% فقط في أغسطس الماضي، مسجلاً أبطأ وتيرة زيادة منذ فبراير الماضي. وأظهر تقرير منفصل لوزارة العمل نُشر في وقت سابق من الأسبوع أن النسبة المئوية للأميركيين الذين تركوا وظائفهم في القطاع الخاص في يوليو الماضي انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من عام، مما قد يساعد في تخفيف ضغوط الأجور أيضاً.
ومع ذلك، اتسمت بعض التفاصيل من بيانات المشاركة بأنها كانت أقل تفاؤلاً. وأظهر تقرير يوم الجمعة أن مشاركة الأميركيين البيض ارتفعت بنسبة عُشر نقطة مئوية في أغسطس، بينما انخفضت مشاركة الأميركيين السود بالمقدار نفسه. وشكّل ذلك الشهر الثالث على التوالي من حيث الانخفاضات في معدل مشاركة السود.
وبالنسبة إلى ويليام سبريغز، أستاذ الاقتصاد بجامعة "هوارد" وكبير الاقتصاديين في "إيه إف إل – سي آي آو" (AFL-CIO)، فإن هذا ينذر بأشياء قادمة.
أضاف سبريغز: "السود يمثلون المؤشر المبكر لما هو قادم من مخاطر. فعندما ترى مشاركة السود في القوى العاملة تتراجع بهذا الشكل، فهذا يعني أنهم يجدون صعوبة بالغة، ولا يجد الكثير منهم سوى أن يقول: انسوا الأمر".