أخبرتني مؤخراً مصرفية بريطانية، وهي أم لطفلين تعيش في هونغ كونغ منذ عام 2008، أن "عوامل الضغط تتراكم" وأنها "على وشك" المُخاطرة بالانتقال إلى أوروبا من أجل حياة أفضل لابنتها البالغة من العمر ثمانية أعوام، بعد أن انقطعت عن الدراسة لمدة عام.
مرحباً بكم في إعادة الضبط من قبل كوفيد-19.
لقد طرح هذا العام تساؤلات على المستوى الشخصي، حول أسلوب حياة المُغتربين طويل الأمد الذي أصبح بإمكانهم عيشه من خلال القدرة على الصعود والنزول من الطائرة. لكن في ظل مخاطر فيروس كورونا والقيود والحجر الصحي، لم يعد العيش في الخارج بهذه السهولة. حيث يتجه العديد من المرتحلين حول العالم إلى أوطانهم -أو على الأقل، يُفكرون في الأمر، ويبدّلون أنماط حياتهم الساحرة في كثير من الأحيان للعودة إلى الأساسيات في أوطانهم.
أوان المقايضة
بالنسبة للمصرفية وشريكها، كانت اضطرابات عام 2020 تعني نهاية رحلات العمل المُتكررة في جميع أنحاء آسيا، والإجازات في المنزل لرؤية العائلة، وعطلات نهاية الأسبوع الطويلة السريعة إلى بالي وسنغافورة. والآن، يتضمن التنزه رحلة بين التلال والغابات في مناطق هونغ كونغ الجديدة -وهي رحلة ذهنية أكثر منها رحلة جسدية.
وقد يعني تحقيق هذا الانتقال المُفاجئ كالعودة الكاملة إلى الوطن إنه سيتعيّن مُقايضة المباني الشاهقة بمنازل الضواحي ذات الساحات. وحتى إذا بقيت هذه العائلات في الخارج، فإن التغييرات التي طرأت على الوضع القائم -من تجميع الأميال الجوية خلال السفر إلى قضاء وقت مع الأطفال، والتحول من المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان إلى الطهي المنزلي خلال فترة العزلة- أدت إلى إعادة تقييم ما هو المهم.
أصبحت اللحظات عبر الهاتف و"فيس تايم" و"زوم" مع الأحباء أكثر فائدة. وغدا كأس الشراب على الأريكة في نهاية اليوم أثمن من مشروبات الحانات والكوكتيلات الفاخرة.
والعامل الرئيسي في هذا هو إعادة ضبط سيكولوجية الطموح. فعندما يتم توفير الظروف الخارجية المناسبة، يكون الناس على استعداد للوصول إلى جميع أنواع الفرص والخبرات، ودفع الثمن (وليس النقدي فقط) لتحقيقها.
بالنسبة للعديد من المُغتربين، أجبرهم التحول الزلزالي في جميع أنحاء العالم خلال هذا العام على إعادة تقييم: ما هي قيمة كل هذا السفر الدولي حقاً، ولأي غاية؟ ما شعرت به ذات مرة على أنه كمُغامرة يبدو الآن وكأنه اغتراب. تبدو فوائد الحياة الطبيعية أكبر بكثير: زيارة الجد والجدة بشكل متكرر، ووجبات غداء العائلة في عيد الميلاد، وقضاء عُطلة نهاية الأسبوع في الحديقة. يرجع الكثير من ذلك ببساطة إلى الوفرة في الوقت وقلة الخيارات. وكما هو الحال في كل مكان، فقد بعض كبار الموظفين السابقين وظائفهم ويواجهون خيارات صعبة.
وفي أماكن مثل هونغ كونغ، تبدلت رؤية أطفالك وهم يتوجهون في كل يوم إلى المدرسة بالاضطرابات الناجمة عن إغلاق الفصول الدراسية والتعليم المنزلي. حيث تجد العائلات نفسها مكدسة فوق بعضها بعضاً في شقق صغيرة. وتبدو فوائد الحديقة التي تبلغ مساحتها 50 قدماً مربعاً والملاعب المفتوحة أكثر جاذبية.
تُظهر الأبحاث أن جودة الحياة جُزئياً هي وظيفة للعلاقة العاطفية بين الفرد ومحيطه. لقد تغير هذا بشكل كبير مع قواعد التباعد الاجتماعي والمطاعم المُغلقة وعدم القدرة على التخطيط لجوانب الحياة المُستقبلية، حتى على سبيل المثال يوم فأر الأرض (يوم غراوندهوغ) في فبراير.
إعادة تقييم الذات
يقول المؤرخ "فرانك إم سنودن" في مقابلة مع مجلة "نيويوركر"، وهو مؤلف كتاب "الأوبئة والمجتمع من الطاعون الأسود إلى اليوم" إن الأوبئة "ترفع المرآة أمام البشر فيما يتعلق بمن نحن حقاً" و"تعكس علاقاتنا مع البيئة "، سواء كانت حضرية أم طبيعية.
إن الدرجات المُتفاوتة من الإغلاق تُغيّر البيئات وتقديرنا لما يحيط بنا. وتبدو المُحادثات في هذا الوجود الفقاعي أبطأ وتدور حول الأشياء الصغيرة في الحياة.
هناك المزيد من التقدير للأشخاص الذين يقومون بالوظائف التي أصبحت فجأة أكثر خطورة -ليس فقط الأطباء والممرضات، ولكن أيضاً جامعي القمامة وحراس الأمن والباعة في متجر البقالة. وفي ظل إغلاق الصالات الرياضية وعدم استعمال وسائل النقل بشكل مُنتظم، يبدو الوقت في الهواء الطلق ثميناً.
ولا تقتصر هذه التجربة على العمالة الوافدة، فوفقاً لأحد الاستبيانات، يقول حوالي 90% من الأمريكيين إن الوباء كان "وقتاً مُناسباً للتفكير فيما هو مهم بالنسبة لهم" ويتوقع ثمانية من كل 10 تغييراً للأفضل بعد نهاية كوفيد-19، حيث إن أكثر من 90% يتجهون إلى تحسين صحتهم، وعلى الأغلب أن هذه السلوكيات ستستمر.
لقد أصبح الناس أكثر تلامُساً مع أهدافهم. لكن بالطبع، أدى الاضطراب في كل مكان إلى إجهاد الصحة العقلية في ظل زيادة التوتر والقلق، وأصبح الشعور بالوحدة أكثر انتشاراً.
ومن المرجح أن يؤدي كوفيد 19-إلى تسريع التغيير المُستمر في القوى العاملة المُعولمة. حيث إن المدن التي تستضيف أعداداً كبيرة من المغتربين مثل هونغ كونغ وسنغافورة تُعد من بين أغلى المُدن في العالم. وإذا شعر الناس الآن أن ثمن ما يحصلون عليه من مغامرتهم الخارجية باهظ للغاية، فإن الشركات التي تدفع ثمنها كانت تعيد تقييمها منذ فترة. وقد لا تكون مُعدلات الضرائب المُنخفضة في بعض الأماكن كافية.
وغالباً لن يكون من الممكن تبرير وجود البؤر الاستيطانية للشركات بعد الآن في أماكن مثل هونغ كونغ، حيث يتفشى البيع بالتجزئة، أو في أجزاء من جنوب شرق آسيا، حيث تكون احتمالات ارتفاع الأسعار باهتة. ولم يعد عالم المال أمراً مؤكداً، حيث انخفضت عمليات إطلاق صناديق التحوط، كما انخفضت عمليات جمع الأموال لدى شركات الملكية الخاصة. وتتعامل البنوك مع نصيبها من المشاكل، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أصبحت الخيارات أكثر صعوبة على الجميع
أصبحت العائلات التي يعيش أفرادها في أماكن مُختلفة أكثر شيوعاً. وبالنسبة للبعض، يعني هذا العيش في أطراف الضواحي، أو أبعد من ذلك، في بلدانهم الأصلية مع شريك أو زوجة يتنقلون كل أسبوع إلى المدينة.
بالنسبة للآخرين، عاد المُعالون إلى ديارهم بينما يظل المُعيل في الخارج، مع محدودية الزيارات بشكل كبير. لكن عندما تتوفر اللقاحات في مكان ما قد تخفف من عمليات الفصل هذه.
كانت ابنة موظفة المصرف قد احتفلت بنهاية العام الدراسي عبر "زوم". حيث أشعل الأطفال شمعة وسُئلوا عن أكثر الأشياء المُمتنين لها وأكثر الأشياء التي شكلت لهم تحدياً. وأجابت الابنة على هذه الإسئلة بأنها كانت مع أصدقائها في المدرسة وتتطلع إلى أن تكون مع أسرتها بأكملها في عيد الميلاد. وكان والدها في أوروبا لفترة من الوقت، غير قادر على الدخول والخروج بسهولة من هونغ كونغ بسبب قيود الحجر الصحي.
وتقول الأم: "الأشياء البسيطة في الحياة هي الأشياء الأكثر أهمية للأطفال". إن هذا صحيح بالنسبة لمُعظمنا؛ سواء عدنا إلى حياة ما قبل الفيروس أو لا.