أصبحت مكافأة التوقيع على عقد العمل التي كانت في السابق محصورة بكبار اللاعبين الرياضيين والمديرين التنفيذيين، في متناول الجميع اليوم. ففي ظلّ أكبر شحّ في اليد العاملة منذ سنوات في سوق العمل، بدأت شركات مثل "أمازون" تقديم آلاف الدولارات مسبقاً لسائقي الشاحنات وجامعي النفايات وعمّال المستودعات وغيرهم من العمّال، الذين ارتفع الطلب على خدماتهم.
اقرأ أيضاً: "مايكروسوفت" تثير صداماً محتملاً بعد أن استقطبت مديراً تنفيذياً من "أمازون"
تتمتع هذه الأداة التوظيفية بتاريخ طويل، إلا أن مكافآت التوقيع تطورت كثيراً عبر الزمن، محدثة تحولاً في الحوافز التي كانت في الماضي تحدّد أطر العلاقة بين صاحب العمل والعمّال. وسيساعدنا التاريخ على شرح طريقة عمل هذا التكتيك، وكيف يمكن هذه المرّة أن يخذل أصحاب العمل المستميتون لاستقطاب العمالة.
أول صاحب عمل قدّم مكافآت عند التوقيع كان الجيش، فالإمبراطورية الرومانية منحت الجنود الجدد مكافأة عند الالتحاق بالجيش تُعرَف باسم "فياتيكوم" (viaticum)، تألفت عادة من بضع قطع ذهبية. وقد مكّنت هذه الاستراتيجية الرومان من تجنيد متطوعين يذهبون إرادياً للقتال ضدّ البرابرة لفترة محددة من الوقت.
زمن الثورة الأمريكية
وإبان الثورة الأمريكية أصدر الكونغرس القاري قراراً يقضي بتقديم "مكافأة" نقدية من أجل تشجيع الشبّان على المشاركة في حرب جاءت أطول بكثير من المتوقع. في البدء كانت هذه المكافآت متواضعة نسبياً، إذ لم تتجاوز ثلاثة دولارات، أي ما يوازي 100 دولار اليوم. ثمّ خلال الحرب الأهلية عرض الاتحاد مكافآت مالية أكثر سخاءً من أجل جذب الجنود.
اقرأ أيضاً: معاناة العالم مع نقص العمالة تزيد الضغوط على أسعار الغذاء
للأسف أدت هذه الممارسة إلى ظاهرة تمثلت بقبض المكافأة ثمّ الفرار، فكان المجنّدون يقبضون المكافأة ويختفون، ثم يعيدون الحيلة نفسها في مكان آخر.
وهكذا، لم تعُد مكافأة التجنيد محببة في الجيش، وسرعان ما انتقلت إلى مجال آخر هو دوري البيسبول للمحترفين. فبحلول ثمانينات القرن التاسع عشر بدأت الدوريات الأكثر نجاحاً تتنافس من أجل جذب اللاعبين الأفضل.
أول لاعب نال مكافأة قيّمة كان تشارلي بينيت، وهو متلقٍّ اشتهر برفضه ارتداء المعدّات الواقية، حتى أنه في إحدى المرّات استمر في اللعب في المباراة، وفي كلّ المباريات التي تلتها، بعد أن مزقت كرة ابهامه حتى ظهرت العظام. فهذا التفاني الجنوني دفع فريقه "بوسطن بينيترز" إلى منحه مكافأة توقيع بقيمة 6 آلاف دولار، وهو مبلغ كان يُعَدّ ثروة صغيرة في حينها. وفي عام 1914 دفع فريق "بوسطن ناشيونالز" المستميت لضمّ لاعب القاعدة الثاني جوني إيفرز، مكافأة ضخمة بقيمة 20 ألف دولار، أي ما يوازي 500 ألف دولار اليوم.
انتشرت لاحقاً مكافآت التوقيع في عديد من الرياضات الاحترافية خلال القرن العشرين، وباتت هذه الممارسة منتشرة جداً ومكلّفة جداً لدرجة أنه في الستينيات، كانت لعبة البيسبول وحدها تقدّم مكافآت بقيمة 7.5 مليون دولار للاعبين لم يُجرَّبوا بعد. إلا أن هذه الممارسة، مثل نظام المكافآت المعتمد قديماً في الجيش، كانت تُلزِم اللاعبين البقاء ضمن فريق معيَّن لفترة محددة من الوقت.
مكافآت الرؤساء التنفيذيين
ثمّ في الثمانينيات والتسعينيات، ظهرت المكافآت غير الملزمة. وكان الرؤساء التنفيذيون أول من تَلقَّى مثل هذه المكافآت عقب انتقالهم من شركة إلى أخرى. فهذا "الترحيب الذهبي" وفق توصيف الصحافة المالية، كان يشمل أموالاً نقدية أو أسهماً أو يشملهما معاً. وعلى عكس المكافآت في السابق، فإن متلقي هذه العطايا السخية لم يكونوا مُلزَمين تعاقدياً تجاه الشركة التي وظفتهم.
وفي التسعينيات اتسع نطاق مكافآت التوقيع، إذ استُخدمت لجذب الموظفين بلا اضطرار إلى رفع الرواتب الفعلية. على سبيل المثال، أظهر استطلاع أُجريَ عام 1997 وشمل متخرجين جدداً من كليات الأعمال الـ11 الأولى، أن 80% منهم تلقوا مكافآت توقيع، فيما كانت هذه النسبة 62% قبل ثلاث سنوات فقط. وبلغ معدّل قيمة هذه المكافآت نحو 10 آلاف دولار، وقد حصل بعض المتخرجين على مبالغ أعلى حتى.
ومع تراجع أعداد العمّال بدأت مجموعة واسعة من أصحاب العمل تقدم مكافآت لتحفيز الموظفين. فسلسلة مطاعم "برغر كينغ" استقطبت المديرين من المنافسين من خلال تقديم شيكات بقيمة 5 آلاف دولار، فيما وعدت مقلّبي الهامبرغر بـ150 دولاراً. وبحلول عام 1997، أظهر استطلاع أن 39% من الشركات كافة، لجأت إلى مكافآت التوقيع لجذب الموظفين، إذ استفاد الجميع من هذه الممارسة، من مهندسي البرامج الإلكترونية إلى اللحَّامين.
وقد ترسخت هذه الممارسة في التاريخ من خلال وزارة العمل الأمريكية، سلطة التوظيف العليا في الولايات المتحدة، التي لجأت إلى هذه المكافآت لجذب الخبراء الاقتصاديين.
المكاسب لمن يسبق
سرعان ما اكتشفت الشركات أن مكافآت التوقيع غير الملزمة تنجح في ظلّ شروط محددة جداً. فالشركات التي تسبق المنافسين إلى تقديم مثل هذه المكافآت في مجال معيّن، عادة ما تحقّق المكسب الأكبر، فتحصل على أفضل الموظفين وتحافظ عليهم أيضاً. في المقابل اكتشف المقلدون أنه من الصعب شراء الولاء حين يكون الآخرون قد سبقوك إلى ذلك.
استبقت هذه الأمثلة السردية الدراسات البحثية حول مكافآت التوقيع التي تراكمت منذ ذلك الحين، إذ وجد الباحثون على سبيل المثال أن مكافآت التوقيع قد تكون فعّالة حين يتواصل صاحب العمل بنجاح مع الفرد ليشرح له أنه ملائم للشركة. إضافة إلى ذلك، حين تكون المكافآت نادرة نسبياً بسبب التخمة في أعداد العمّال، فإن تأثير هذه الإغراءات يصبح أكبر. ولكن حين يقدّمها الجميع بتسرُّع جنوني لملء الشواغر، فهي تخسر فاعليتها.
تُظهِر هذه الاستنتاجات أن الاندفاعة الحالية نحو المكافآت هي أمر حتمي، ولكن من المستبعد أن تسهم في تحسين الأداء أو زيادة الولاء، فحين تصبح المكافآت أمراً شائعاً، تتحول إلى مجرد معاملة روتينية ولا تعني إلا بضعة دولارات إضافية.
يعلّمنا التاريخ إذاً أن المكافآت غير الملزمة لن تبقى أمراً ثابتاً في مجال التوظيف لمدّة طويلة، ففي نهاية المطاف ستتراجع سوق العمل، كما حصل بعد طفرة "الدوت كوم"، وحين يحصل ذلك، لن يتلقى مكافآت التوقيع إلا الأشخاص المعتادون أنفسهم، أي كبار المديرين التنفيذيين والرياضيين المحترفين والأفراد النادرين جداً الذين يستمرّ الطلب على خدماتهم مهما حصل في الاقتصاد.