يتحدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجهود الغربية التي تستهدف عزله دولياً، حيث التقى بأكثر من 20 من قادة العالم منذ مايو. لكن الشركات الروسية ليست على القدر نفسه من الحظ.
فالولايات المتحدة فرضت قيوداً جديدة في يونيو لتقليص القدرة على دعم الحرب التي يقودها الكرملين في أوكرانيا، ما فاقم مخاطر العقوبات الثانوية على البنوك المحلية في البلدان التي ترتبط بمعاملات تجارية مع روسيا، ويؤخر أو يعطل المدفوعات من وإلى أماكن مثل الصين وتركيا. هذا يجعل من الصعب، وأحياناً من المستحيل، تنفيذ المعاملات، خاصة مع الصين، التي تُعد الشريك الاقتصادي الأهم لروسيا منذ بداية الحرب في عام 2022.
على الرغم من تراجع المشكلات المتعلقة بنقل الأرباح من شريك تجاري رئيسي آخر، وهو الهند، منذ السنوات الأولى من الحرب، إلا أنها لم تُحل بشكل تام، لأن الروبية ليست قابلة للتحويل بالكامل، فيما يشكل التعامل من خلال الدول الثالثة أمراً مكلفاً، بحسب ما ذكر شخص مقرب من الحكومة الروسية رفض الكشف عن هويته لأن المعلومات ليست علنية.
تهدد هذه الصعوبات بعرقلة تجارة روسيا مع الشركاء الاقتصاديين الذين اعتمدت عليهم منذ أن فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات غير مسبوقة قلصت بشكل كبير من العلاقات التجارية عقب الحرب على أوكرانيا. سجلت التجارة مع الصين رقماً قياسياً بلغ 240 مليار دولار في عام 2023.
في يونيو، وسعت الولايات المتحدة معايير تحديد ما إذا كانت ستفرض عقوبات ثانوية، من خلال توسيع تعريف القاعدة الصناعية العسكرية لروسيا. بدأت الواردات إلى روسيا من الصين في التزايد مجدداً بعد أن انهارت أحجامها عندما هددت الولايات المتحدة البنوك الخارجية بعقوبات في ديسمبر، لكن الخطوة الأخيرة تنذر بتعقيد الوضع بشكل خطير.
وكلاء بجمهوريات سوفييتية
في كثير من الحالات، تكون المعاملات مع الصين ممكنة فقط من خلال وكلاء في الجمهوريات السوفييتية السابقة، بحسب ما قال تنفيذيون كبار في أربع شركات تصدير للسلع، رافضين الكشف عن هوياتهم لحساسية المعلومات.
بالنسبة إلى هذه الصفقات، لا تصل العملة الأجنبية، بما في ذلك اليوان، إلى روسيا. بينما يدفع العملاء الصينيون باليوان للوكلاء في الدول الثالثة، يتلقى المصدّرون في كثير من الأحيان الروبل في موسكو، وفقاً لأشخاص مطلعين قالوا إن العديد من البلدان الوسيطة لديها قيودها الخاصة على تحركات العملة.
أصبحت تسويات العملات المشفرة من خلال هونغ كونغ أكثر انتشاراً أيضاً، ولكن حتى في تلك الحالات، يُضطر الروس لاستخدام وسطاء في دول مثل أوزبكستان أو كازاخستان، حسبما قال اثنان من المصدرين وأحد المشاركين في مدفوعات العملات المشفرة. حاولت الشركات الروسية حتى استخدام صفقات المقايضة أو مقايضات العملة مع المستوردين في البنوك نفسها، وفقاً لثلاثة من الأشخاص المطلعين.
ذكرت صحيفة "فيدوموستي" يوم الخميس، أن بعض البنوك الروسية زادت الرسوم على المعاملات باليوان وسط متاعب مع المدفوعات الروسية الصينية الناجمة عن العقوبات.
ومن المؤكد أن بعض المُصدرين يقولون إنهم لم يواجهوا مشكلات في تنفيذ المدفوعات، وقال مُصدر طاقة رئيسي واحد على الأقل إن معاملاته المقومة باليوان من الصين هذا الشهر سارت بسلاسة.
وقال أشخاص مطلعون إنه في حين أن المدفوعات مع الصين تمثل أكبر مشكلة بالنسبة لموسكو، فقد واجه الروس صعوبات مماثلة في تركيا. وقالوا إن الوضع هناك أقل خطورة بكثير، لأن بعض البنوك فقط أوقفت عملياتها مع روسيا.
وأضافوا أن التجارة مع تركيا تتم في الغالب بالروبل. وتظهر إحصاءات البلاد أن حصة الصادرات التركية بالروبل ارتفعت بنسبة 50% في الفترة من يناير إلى مايو.
حسابات الروبية
بالنسبة إلى المعاملات مع الهند، فإن الضغط على البنوك يواجه تعقيدات بسبب تهديد العقوبات، وحقيقة أن الروبية ليست قابلة للتحويل بالكامل. في ظل تزايد التجارة بين البلدين بعد غزو روسيا لأوكرانيا، تراكمت لدى روسيا مليارات الدولارات بالروبية في الهند.
ولكي تتمكن روسيا من استخدام الروبية المتراكمة، وضع البنك المركزي الهندي قواعد في يوليو 2022 تفيد بأنه يمكن استثمار الأموال في مشاريع أو أوراق مالية هندية، وكذلك لتسوية مشتريات السلع والخدمات في فترة ما في المستقبل، وفقاً لمسؤولين مطلعين على التفاصيل. عادة ما تشتري روسيا الهواتف الذكية والسلع الإلكترونية الأخرى والمواد الكيميائية والأدوية والمنتجات الغذائية والأدوات الزراعية والمنسوجات من الهند.
شدّد البنك المركزي الهندي على أن تلك الاستثمارات ستكون خاضعة للإرشادات والقيود، مما يشير إلى أنه لم يكن مستعداً لفرض قواعد خاصة لروسيا. كرر كبار المسؤولين الهنود مراراً أن الهند لن تفعل أي شيء ينتهك العقوبات الغربية. هذه الاستثمارات أيضاً خاضعة لفترات حجز، وليست قابلة للتحويل، مما يجعل من الصعب على روسيا تسييلها، وفقاً لأشخاص مطلعين على القواعد.
بعد هذا التوضيح، وافق البنك المركزي الهندي على ما لا يقل عن 34 طلباً من البنوك الروسية لفتح حسابات في الهند، وتم فتح ما لا يقل عن تسعة حسابات "فوسترو" خاصة لتسهيل التجارة.
الدفع بالدرهم الإماراتي
يتم دفع ثمن النفط، وهو سلعة التصدير الروسية الرئيسية إلى الهند، بشكل رئيسي بالدرهم الإماراتي، الذي يرتبط بالدولار الأميركي. ومع ذلك، تُستخدم الدولارات واليورو أيضاً، وفقاً لأشخاص مطلعين. قال هؤلاء الأشخاص إن بعض المصافي الخاصة تستخدم اليوان أيضاً. تفضل شركات إنتاج الأسمدة والفحم الروسية أيضاً العملات القابلة للتحويل، ولا تتعامل بالروبية، بحسب تصريحات مسؤولين في عدة شركات.
رفضت شركة "ألروسا" (Alrosa PJSC)، المملوكة للدولة والمتخصصة في تعدين الألماس في روسيا، التعليق بشأن العملة المستخدمة في عملياتها في الهند، ولم ترد شركة "روسوبورون إكسبورت" (Rosoboronexport) المملوكة للدولة لتصدير الأسلحة فوراً. كثيراً ما تمر التجارة مع الهند عبر دول وسيطة مثل الإمارات وبعملات غير الروبية، مما يجعل العملية مكلفة، وفقاً لشخص مقرب من الحكومة الروسية.
"تحدٍّ رئيسي"
قال ألكسندر بوتافين، محلل في مؤسسة "فينام" (Finam) بموسكو: "أصبحت مشكلة المدفوعات عبر الحدود في عام 2024 تحدياً رئيسياً للمعاملات التجارية الروسية. في الغالبية العظمى من الحالات، تواجه الشركات تأخيرات كبيرة في تنفيذ المدفوعات. والآن يستغرق منها الأمر نحو 10-16 يوماً في المتوسط".
لفت بوتافين إلى أن بنك روسيا "يشجع الآن على استخدام العملات المشفرة" للالتفاف على العقوبات الغربية، وتسهيل نقل العملات إلى الخارج.
المدفوعات تتصدر اجتماعات بوتين
تصدرت قضايا المدفوعات جدول الأعمال خلال لقاء الرئيس بوتين مؤخراً بالرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. وبينما قدمت روسيا مقترحات لإيجاد طرق بديلة للدفع، فإن تنفيذها سيستغرق وقتاً.
لم ينعكس تأثير كل هذه التحديات بعد في إحصاءات الصادرات والواردات، ولكن تقريراً عن الوضع الاقتصادي في الربع الثاني من البنك المركزي الروسي، نُشر في 18 يوليو، يبرز المشكلة. وفقاً لما ورد بالتقرير، انخفضت الواردات في الربع الثاني، وفي الوقت الذي ارتفعت فيه القيمة الإجمالية للصادرات، تراجعت الأحجام الفعلية بسبب القيود الغربية على المعادن الروسية.
قالت ناتاليا زوباريفيتش، المتخصصة في شؤون المناطق الروسية في جامعة موسكو الحكومية: "الصعوبات في المدفوعات بين الدول تجعل الوضع أسوأ، وخاصة مع الواردات". أضافت: "السوق الاستهلاكية في روسيا تزداد من سيئ إلى أسوأ"، في حين ستتدهور واردات المكونات تدريجياً.
قال فلاديمير تشيستيوخين، النائب الأول لمحافظ البنك المركزي الروسي، في منتدى عُقد في يونيو: "يتعين القيام بما يلزم من أجل استمرارية الأمور"، بما في ذلك الطرق التي كانت تُعتبر سابقاً غير شائعة، مثل المقايضات أو استخدام العملات المشفرة. وأضاف: "بدون وجود دفعات طبيعية للسلع، فإن ذلك يدمر بلدنا الذي يعتمد على الصادرات والواردات".