كان ويليام توميتا، وهو شاب جذاب متلهف للفوز من وول ستريت، يلعب البولو في "كونيتيكت غولد كوست" حتى زمن قريب، لكنه بدا رجلاً متوتراً يمد يده ليتناول حبة "زاناكس" (Xanax) في 22 أبريل قبل مثوله أمام محكمة فيدرالية ليعترف بدوره في كارثة تداول "آركيغوس" (Archegos) وينقلب على بيل هوانغ، مديره لفترة طويلة. كان توميتا مضطرباً حيال التحدث علناً وقال للقاضية إن ذلك اضطره لتناول العقار المضاد للتوتر.
قبل وصوله إلى محكمة مانهاتن، جاء زميله سكوت بيكر من مسكنه في "غوشان"، وهي بلدة هادئة في نيويورك استمدت اسمها من الأرض الوفرة التوراتية. أتى بيكر أيضاً ليعترف وينقلب رسمياً على هوانغ، المستثمر الغامض المتهم بتدبير مخطط إجرامي واسع لتضليل البنوك والتلاعب بالأسواق.
أمريكا وأوروبا تدرسان قواعد جديدة للوساطة المالية بسبب "آركيغوس"
لم يكن توميتا وبيكر معروفان في أوساط المال حتى ذلك اليوم، أقله خارج النطاق المعزول لشركة "آركيغوس كابيتال مانجمنت"، التي أسسها هوانغ، وهما يلعبان الآن دوراً رئيسياً في قضية الادعاء ضد هوانغ وباتريك هاليغان، المدير المالي السابق لشركة الاستثمار المشبوهة، وقد يصبح المساعدان الموثوقان أبرز شهود القضية.
كان قلة آخرون قريبين من هوانغ مهنياً لفترة أطول من توميتا كبير متداوليه وبيكر مدير المخاطر لديه. تمكّن هوانغ عبر وجودهما بجانبه من جمع ثروة عظيمة بسرية قبل أن يخسرها في فضيحة علنية اتسمت بالتهور والغطرسة وانطوت حسب زعم الادعاء على احتيال وغيره من التهم. وقّع توميتا وبيكر اتفاقيات مع الادعاء بهدف تجنب السجن أو على الأقل تقصير أمده، ودفع هوانغ وهاليغان بأنهما بريئان من مجموعة تهم وُجّهت لهما منها التآمر بغرض الابتزاز التي يعاقب عليها القانون وعادة ما ارتبطت هذه التهمة بزعماء المافيا.
سيرة الشاهدين
من هما هذان الشخصان المطّلعان من داخل "آركيغوس" اللذان انقلبا على بيل هوانغ؟ ظلّ توميتا وبيكر يعملان بسرية لعدة سنوات كما كان حال رئيسهما، وقد أمضى كلا الرجلين، الذين يبلغ عمرهما 38 عاماً، جميع فترات حياتهما المهنية تقريباً بالعمل مع هوانغ، بداية من "تايغر آسيا مانجمنت" (Tiger Asia Management)، حيث بدأت متاعب هوانغ، ثم في "آركيغوس"، التي تسبب انهيارها العام الماضي بموجات صدمة اعترت قطاع التمويل العالمي.
رغم لعب الأدوار الرئيسية في "آركيغوس"، التي جمعت في وقت ما كماً مذهلاً من الأسهم قيمتها 160 مليار دولار، وفقاً للادعاء العام، إلا أن سيرتهما الذاتية العامة غير متاحة ولا يبدو أن لدى أي منهما حسابات نشطة على موقع "لينكدإن"، كما أن البحث في "غوغل" لا يظهر أي شيء تقريباً بشأنهما قبل انهيار "آركيغوس" الذي تصدر عناوين الصحف حول العالم. ولم يجب محاموهما على المكالمات ورسائل البريد الإلكتروني لطلب التعليق.
الاحتياطي الفيدرالي: انهيار "أركيغوس" يكشف "نقاط ضعف" في البنوك العالمية
احتمالية حدوث مشهد درامي في قاعة المحكمة حافل بالاتهامات والخيانات أثار اهتمام وول ستريت، فالادعاء يعتمد على الرجلين للإدلاء باعترافات داخلية تفيد بوجود أكاذيب وخداع مفترض. يكاد يكون حتمياً أن الدفاع سيتساءل لماذا انقلب توميتا وبيكر على رئيسهما السابق، الذي سيمثل أمام المحكمة مجدداً وكذلك وهاليغان.
قال جاكسون آر شارمان الثالث، وهو محامي دفاع من ذوي الياقات البيضاء، إن إحدى استراتيجيات الدفاع تعتمد على الزعم بأن الشاهدين المتعاونين يحاولان فقط التستر على أخطائهما أو التهم الموجّهة إليهما، وأنه رغم أن هوانغ ربما فقد ثروة، إلا أنه لم يتعمد ارتكاب أي جرائم. أما الدفاع المحتمل، وفقاً لشارمان فهي أنه: "لا يوجد دليل قاطع أو بصمات".
شهادة حاسمة
أدت كارثة "آركيغوس" لانقطاع الصلات بين هوانغ وبعض موظفيه السابقين، الذين كافحوا لتحصيل تعويضات مؤجّلة مرتبطة بالشركة، حسب تقرير من "بلومبرغ". أُلزم عديد من موظفي "أركيغوس" باستثمار 25% أو أكثر من مكافآتهم في الصندوق وخسروا بشكل جماعي ملايين الدولارات، وفقاً لوثائق القضية. قالت لجنة الأوراق المالية والبورصات أن بيكر وتوميتا اختارا تأجيل جزء "كبير" من مستحقاتهما.
قال جاستن دانيلويتز، الشريك في شركة "سول إيوينغ أرنشتاين آند لير" (Saul Ewing Arnstein & Lehr) والنائب العام المساعد السابق بالولايات المتحدة، إن شهادة الثنائي ستكون حاسمة لدى جهة الادعاء لإدانة هوانغ، لأن الأدلة في لائحة الاتهام المتعلقة بانتهاكه للقانون متعمداً وعن قصد "تزداد ضعفاً"، وستكون "مهمة الحكومة أصعب" بلا إثباتات مستقلة مفصلة.
على صوت أجراس الإنذار المدوية.. هكذا سقط "كريدي سويس" في فضيحة "آركيغوس"
لدى توميتا وبيكر كثير من الاعترافات حتماً، فقد أمضى الاثنان ما يقرب من عقد ونصف يعملان مع هوانغ. تخرّج توميتا، وهو نجل جراح بارز في شيكاغو، من جامعة "نورث وسترن" في 2006 حيث حصل على شهادة في الاقتصاد والدراسات الدولية. توجّه للعمل في صندوق التحوط التابع لشركة "تايغر آسيا مانجمنت" التي أسسها هوانغ بعدما عمل لفترة وجيزة قضاها في البنك الاستثماري "ليمان براذرز" (Lehman Brothers) قبل انهياره في 2008. أقرّت الشركة بعد بضع سنوات بضلوعها في احتيال إلكتروني متعلق بتداول غير القانوني في الأسهم الصينية وأُغلقت أعمالها.
رغم أن سلطات الولايات المتحدة لم توجّه تهمة إلى توميتا، إلا أن الجهات التنظيمية في هونغ كونغ اتهمته بمساعدة هوانغ في الالتزام بالتداول بناءً على معلومات داخلية. أعلنت تبرئته في 2013 وقالت الجهات التنظيمية حينها إنه كان مجرد موظف صغير يتصرف بناءً على تعليمات هوانغ.
لم يتخلَّ عنه
رغم تعرضه لخطر الإدانة في ذلك العام، بقي توميتا بجانب رئيسه حين افتتح شركة عائلته "أركيغوس".
أخذ هوانغ زمام المبادرة، حسب تأكيدات المدعين، واعتمد على توميتا لتنفيذ الصفقات. كان توميتا أيضاً أحد نقاط الاتصال الأساسية لهوانغ عند التواصل مع حوالي عشرة أطراف، وفقاً للحكومة.
حين لم يكن توميتا منشغلاً بالتداول في "آركيغوس" كان غالباً ما يمضي وقته يلعب بالمركز الثاني في ملاعب البولو بما في ذلك مركز في "كونيكتيكت" في غرينتش وكانت لعبته النموذجية في هذه الرياضة مع براعته العالية فيها، هي صناعة الأهداف للاعب الأول وتسديد الرمية عنه إن فشل.
قال أحد اللاعبين الذين تدربوا مع توميتا إنه بدا عليه أنه مهذب ومحترم، وهو أمر غير عادي تقريباً في رياضة معروفة باللعب العدواني وحتى الخطير. قال هذا الشخص، الذي أدلى بتصريحاته شريطة عدم كشف هويته، إن توميتا تجنب المخاطر الكبيرة في الملعب. بعدما لعب توميتا محل هذا اللاعب في إحدى المباريات أردف بإرسال رسالة شكر شخصية له.
بيل هوانغ قام برهان مصرفي "ضخم وسرّي" قبل انهيار "أركيغوس"
كذلك شوهد توميتا في ملاعب البولو بالقرب من "بالم بيتش" بولاية فلوريدا، حيث يمتلك منزلاً أبيض اللون من منتصف القرن متوارياً خلف سياج طويل يبعد بضع عشرات من الأمتار عن المحيط. لم يرد أحد لدى طرق بابه هذا الشهر.
لقد أقرّ توميتا بأنه مذنب في خمس تهم، بما فيها التآمر والاحتيال والتلاعب بالسوق، وفقاً لسجلات المحكمة. يعاقب القانون على كل جريمة من هذه الجرائم بالسجن مدة أقصاها 20 سنة. توميتا حر بضمانة سند بقيمة 500 ألف دولار.
اعترف توميتا أمام القاضية لورا تايلور سوين تحت القسم في جلسة استماع في أبريل بأنه، بصفته متداولاً رئيسياً خلال الفترة من مارس 2020 إلى مارس 2021، قام بصفقات استهدفت بناء قوة سوقية في أسهم بعينها واستخدم المشتقات المالية لإخفاء حجم مراكز "أركيغوس" عن متداولين آخرين وأطراف منافسة.
كما أدلى ببيانات مضللة للبنوك والوسطاء الذين سمحوا لشركة "أركيغوس" بالتداول بالهامش وأقنعهم بدخول اتفاقيات مقايضة مع الصندوق.
اعترافات بجنايات
قال توميتا واقفاً وهو يقرأ من بيان مسبق الإعداد: "اتفقت مع بيل وآخرين على تنفيذ أعمال (آركيغوس) من خلال نمط التلاعب بأسعار الأوراق المالية وخداع النظراء".
أقرّ بيكر في اليوم السابق بارتكاب ثلاث تهم جنائية بالتآمر والاحتيال، كما اعترف بيكر، الذي تخرج بامتياز مع مرتبة الشرف من كلية مانهاتن بشهادة في مجال المحاسبة والتمويل، أمام القاضية سوين أنه بدأ العمل ضمن فريق عمليات هوانغ في "تايغر آسيا" في 2007. أقر أمام القاضية أنه كذب على مؤسسات مالية أخرى بشأن ممتلكات "أركيغوس" كجزء من مخطط لحملها على تقديم الائتمان أو المشاركة بمقايضات.
بعد انهيار "آركيغوس".. هل تحتاج مكاتب العائلات لتنظيم أكثر تشدداً؟
قال بيكر للقاضية: "قدمتُ على سبيل المثال في 2021، عرضاً مضلّلاً لمؤسسات مالية معينة يفيد بأن أكبر مراكز (أركيغوس) كان حوالي 35% من صافي قيمة أصولها، بينما كنتُ أعلم في الواقع أن المركز الأكبر قد نما لأعلى من ذلك بكثير، أي إلى نسبة أعلى بكثير من هذه النسبة".
سألته القاضية سوين: "عندما فعلت هذه الأشياء، هل كنت مدركاً أن ما فعلته كان خطأً وغير قانوني؟" أجاب: "نعم". بيكر طليق بضمانة سند بقيمة 300 ألف دولار.
بينما حقق توميتا نجاحات كبيرة في عدة ملاعب بولو، يبدو أن بيكر عاش حياة أكثر هدوءاً في "غوشان"، التي تبعد 75 دقيقة بالسيارة شمال مانهاتن. يقع منزله المكوّن من طابقين وله مصاريع حمراء ويقبع فوق تلّة خضراء تنتشر فيها نباتات الهندباء الربيعية. لدى عودته إلى منزله عقب جلسة الاستماع بالمحكمة، رفض بيكر التحدث عن خلفيته الثقافية، أو "آركيغوس" أو القضية المرفوعة ضد هوانغ وهاليغان.
قال وهو ينظر إلى الخلف فيما ولج منزله: "أطفالي صغار فمن فضلك لا تعُد إلى هنا".