مع رفع قيود الوباء إلى حدٍّ كبير في المملكة المتحدة، باتت المكاتب أكثر ازدحاماً، لكن الكثير منها لا تزال فارغة بالرغم من ذلك.
فبالرغم من ثبات أو انخفاض أعداد الإصابات بفيروس كوفيد-19 في المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومعظم أنحاء أوروبا، لا يزال العديد من الموظفين يختارون العمل من المنزل، وذلك على الأقل في بضعة أيام من الأسبوع. وبالتالي، أصبح من الصعب على المدراء بشكل متزايد الإدعاء بأن مكاتبهم ستعود لتكون ممتلئة من جديد مع انحسار الفيروس.
نموذج العمل الهجين
حالياً، تتبنى الشركات، سواء كبيرة أو صغيرة، أنماط عمل هجينة لا تشبه أنظمة العمل السابقة للجائحة، وجميعها تقضي تماماً على فكرة الدوام المكتبي لخمسة أيام في الأسبوع.
لم يكن هذا التحول الكبير في العمل متوقعاً، إلّا من قِبل عدد قليل من الأشخاص، حتى عند تفشى الوباء. حيث تقول الكاتبة جوليا هوبسباوم: "الجميع كان يتوقع أن يعود كل شيء إلى طبيعته في الحقيقة. أعتقد أنه بات من الواضح الآن أن هذا لن يحصل".
هوبسباوم هي مؤلفة كتاب "مكتب اللامكان: إعادة ابتكار العمل وبيئة العمل في المستقبل" الذي سيُنشر في المملكة المتحدة هذا الشهر وفي الولايات المتحدة في أبريل القادم.
تواجه الشركات أو مدراؤها الذين يفكرون في إعادة الموظفين إلى المكتب للعمل بدوام كامل واقعاً مربكاً، فبدون حوافز أجور كبيرة - التي لا تقدمها سوى الشركات الأكثر ثراء ً- سيبحث الموظفين عن مطالبهم في مكان آخر على الأرجح، وفقاً لما يقوله الخبراء. بينما ستحتاج الشركات إلى إدخال تغييرات كلية على ثقافة مكان العمل لجذب أفضل المواهب والاحتفاظ بهم.
القطاع المالي
قبل عام من الآن تقريباً، وصف ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لمجموعة "غولدمان ساكس"، العمل من المنزل باعتباره "انحراف"، وما زال المصرف الذي يترأسه متمسكاً بموقفه. وتتوقع "غولدمان ساكس" أن يعمل الموظفون من المكتب، بحسب شخص على دراية بالمسألة، رفض ذكر اسمه بالمقال.
بينما تتبع المصارف الأخرى سياسات أكثر دقة. فعلى سبيل المثال، يتوقع مصرف "جيه بي مورغان" أن يعمل الموظفين المقيمين في المملكة المتحدة في المكتب لبضعة أيام على الأقل في الأسبوع. كما يمتلك "سيتي غروب" خطط مماثلة. في حين أن كل من "ستاندرد تشارترد" و "إتش إس بي سي" يتبنيان استراتيجيات عمل هجينة دون فرض أي شروط للحضور للمكتب. وبالمثل، تتوقع "ناتويست" (NatWest Group) أن يقسم 87% من الموظفين مهام عملهم بين المنزل والمكتب على المدى الطويل.
وفقاً لأحدث استطلاع فصلي أجرته مجموعة البحوث "فيوتشر فوروم" (Future Forum) شمل نحو 11 ألف عامل من ذوي المهارات المعرفية في كلاً من: أستراليا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ظهر أن أكثر من ثلثي الأشخاص (أي ما يعادل 68% منهم) يفضلون نموذج العمل الهجين. في حين أن 30% فقط من المشاركين يعملون يومياً من المكتب بالوقت الحالي. بالإضافة إلى ذلك، يرغب 95% من المشاركين في التمتع بالمرونة أثناء العمل مستقبلاً.
مرونة مشروطة
من جانبه، لا يزال سولومون، من "غولدمان ساكس"، متفائلاً بشأن عودة الموظفين إلى العمل من المكاتب. ولم يقدم البنك أي تفاصيل بشأن القدر الذي سيسمح به للموظفين العمل عن بُعد، إن وجد من الأساس، مشيراً فقط إلى التعليقات التي أجراها سولومون خلال مكالمة الأرباح خلال العام الماضي.
حيث قال سولومون في مكالمة الأرباح التي أجريت في أبريل 2021: "اسمحوا لي أن أوضح أن تحقيق هدف إعادة زملائنا إلى المكاتب لا يتعارض مع الرغبة في تزويد موظفينا بالمرونة التي يحتاجونها لإدارة حياتهم الشخصية والمهنية، وهي الطريقة التي لطالما أدرنا بها هذه الشركة".
بكم ستُضحي من راتبك للاستمرار في العمل من المنزل إلى الأبد؟
تقول كلير مكارتني، كبيرة مستشاري السياسة في معهد "تشارترد" (Chartered Institute of Personnel and Development) بالمملكة المتحدة، إن معظم الشركات ستعاني إزاء مثل هذه التوجهات. وتابعت: "إذا أجبرت المنظمات الأشخاص على العودة إلى المكتب دون مبررات منطقية واضح، سيؤثر ذلك على دوافع العمل بالنسبة للموظفين، ويؤدي في النهاية إلى رحيلهم".
تقول الكاتبة هوبسباوم، إن القطاع المالي سيكون من القطاعات التي ستحاول فرض عودة الموظفين إلى المكاتب بشكل كبير، وتنجح بذلك بشكل جزئي. أما في أماكن أخرى، فهي تعتقد أن بريطانيا والولايات المتحدة تخضعان حالياً لـ"إعادة تقييم عظيمة" ستعمل على تحوّل ثقافي عميق في طبيعة العمل.
مضيفة: "لن يكون هناك عودة كاملة للمكاتب الباقية".
مستويات أقل
في لندن، يتسارع معدل عودة الموظفين إلى المكتب، مع ذلك فإن رحلات مترو الأنفاق في المدينة لم تبلغ سوى 58% من مستويات عام 2019، بحسب الأرقام الحكومية الصادرة مؤخراً. ويظهر مؤشر "بريت" (Pret Index) التابع لـ"بلومبرغ" أن المعاملات في المناطق المالية في لندن ترتفع بشكل أسرع من أي مكان آخر في المملكة المتحدة، لكن حجمها مع ذلك لم يبلغ سوى 68% من مستويات ما قبل الوباء.
تنتهز بعض الشركات لحظة العمل الهجينة لإعادة ابتكار طريقة عمل خاصة بها. ففي ألمانيا، تخطط شركة "فولكس واغن"، وهي واحدة من أكبر الجهات الموظفة في البلاد، لتوفير "أقصى قدر من المرونة" للموظفين بعد الوباء، بالإضافة لخطط تدريب للمسؤولين التنفيذيين والمدراء.
كذلك، تركز شركة الرعاية الصحية "بوبا" (Bupa) على المدراء. فهي تسعى لعقد عدد أقل من الاجتماعات الطويلة بينما تشجع على إجراء مراجعات قصيرة ومتكررة لأداء فرق العمل والأفراد، بالإضافة إلى تدريب المدراء الحاليين على كيفية وضع أهداف واضحة ثم قياس الأداء عليها، وهي خطوة تشعر "بوبا" أنها ستفيد فقط قوتها العاملة البالغ عددها 84 ألف فرد بشكل.
تقول جولي ستيفنز، مديرة الرفاه والصحة والسلامة في "بوبا": "صدقاً، ربما كان يجب أن يتمتع المدراء دائماً بمثل هذه القدرات التي ندربهم عليها الآن".
الموظفون الأصغر سناً
من جهة أخرى يحاول آخرون، خاصة تلك الشركات التي توظف نسبة كبيرة من الأشخاص الأصغر سناً، اتخاذ خطوات مصممة لتناسب الجيل "زي"، مع الحفاظ على استراتيجية التوازن الصعبة التي تحاول "غولدمان ساكس"فعلها.
ومن هؤلاء، شركة تجارة التجزئة عبر الإنترنت بالمملكة المتحدة "أسوس" (Asos)، التي تُعرف بمنتجات الأزياء السريعة. حيث أعربت الشركة عن رغبتها في أن يعمل موظفوها البالغ عددهم 3 آلاف و800 موظف ومعظمهم من فئة الشباب، "من المكتب أكثر مما يعملون من خارجه". وأوضحت أن العديد من موظفيها قد "فوتوا الكثير من ثقافة مكاتبنا". وبينما تقول "أسوس" إن "التواصل المكتبي ذو المعنى" يحقق أفضل النتائج، فإنها تؤكد أن سياستها ليست عبارة عن "قياساً واحداً للجميع".
يجمع نهج "أسوس" بين الالتزام بالمرونة والتذكير بمدى أهمية أولويات العمل، ما يعكس المعضلة التي تواجهها العديد من الشركات. بينما يميل الموظفون الأصغر سناً بشكل خاص نحو أصحاب الأعمال الذين يظهرون النزاهة ويكون لديهم أهداف واضحة.
تقول ماري أسانتي، مديرة "إتش أر إندبندنتس" (HR Independents)، وهي منظمة تدعم موظفي الموارد البشرية: "عندما يتعلق الأمر بالوظائف المهنية ذات المهارات العالية، فإنها سوق يتحكم بها العمال. فهم يملون الشروط التي يحتاجون إليها".
مكاتب مختلفة
في الوقت نفسه، تتغير المكاتب لتتجاوز فكرة طاولات لعبة تنس الطاولة والأطعمة المجانية. حيث تنفق "سيتي غروب" أكثر من 100 مليون جنيه إسترليني (136 مليون دولار) لتجديد ناطحة سحاب مبنى "كناري وارف"، مع التركيز على كفاءة الطاقة ومساحات العمل المشتركة، واستكمال الحدائق الشتائية والصحية.
العمل من المنزل بات جزءاً دائماً من تأدية الأعمال
جدير بالذكر أن "سيتي غروب" تريد من موظفيها التعلم والتدريب والابتكار وحل المشكلات معاً. هذا النهج الحديث، يقارنه جيمس باردريك، مدير "سيتي غروب" بالمملكة المتحدة، بأوقات أخرى. حيث يقول: "تعلمت معظم ما أعرفه منذ أن بدأت العمل من 35 من عاماً، عبر مشاهدة الأشخاص ذوي الخبرة من حولي والاستماع لهم، سواء كنت أدوّن الملاحظات أو أعد الشاي".
وفي الوضع الراهن، تواجه الشركات التي تولي اهتماماً للحياة المكتبية مثل "سيتي غروب" اختباراً حقيقياً يتمثل بإمكانية وضع سياسات عمل هجينة تتسم بالمرونة الكافية لإبقاء الموظفين سعداء، وإعادتهم إلى المكاتب في الوقت ذاته.
حفلات ومنتجعات
في الوقت نفسه، تتبع بعض الشركات نهجاً أبعد من إعادة تصميم المباني. فعلى سبيل المثال، تلتزم شركات التكنولوجيا المالية، مثل "ريفولوت" (Revolut) و "إيجين تكنولوجيز" (Eigen Technologies)، بالسماح لموظفيها بالعمل بدوام كامل من أي مكان.
في مقابلة، قال لويس ليو، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "إيجين تكنولوجيز": "هذه الخطوة كانت أحد أصعب القرارات التي اضطررت إلى اتخاذها على الإطلاق". وتابع: "أحد الأمور التي تخسرها عندما تعمل بشكل تام عن بُعد، هو أحد دوافعك للعمل من الأساس".
وحتى تضمن استمرارية انخراط موظفيها سوياً، تعمل "إيجين" على تشجيعهم على حضور حفلات الجبن والنبيذ التي تقيمها في المكتب، كما أنها تنظم دورات تخطيط خارج مقار العمل في مواقع مثل فندق "مونكي آيلند ستيت" الفاخر الذي يقع في باركشير، خارج حدود لندن.
على نحو مماثل، أعاد بنك الاستثمار "بيل هانت" (Peel Hunt) الموظفين إلى العمل من المكاتب بشكل كامل لمدة أسبوعين خلال العام الماضي، بهدف إعادة التواصل بينهم وبين الشركة.
عن ذلك، يقول الرئيس التنفيذي للبنك، ستيفن فاين: "لقد حققنا نجاحاً مطلقاً. أعتقد أنه كان هناك 90% من الموظفين المؤهلين موجودون، وهم عادوا بعد ذلك إلى فعل المهام التي تجعل مدرائهم سعيدين".
مبانٍ مهجورة
مما لا شك فيه أن طبيعة التغيير ستنتج عن بعض الخسائر. وبالتالي، يعمل سوق التأمين العريق "لويدز أوف لندن" (Lloyd’s of London) على إعادة النظر في احتياجاته العقارية، الأمر الذي يؤجج التكهنات بإمكانية مغادرته مقره الرئيسي في لندن.
يشعر عمدة مدينة لندن فنسينت كيفيني، وهو شريك في شركة المحاماة "دي إل إيه بيبر" (DLA Piper)، بالقلق على مقاهي ومطاعم وأطباء الأسنان والأطباء وصالات الألعاب الرياضية المتواجدة في الحي المالي، قائلاً: "نحن بحاجة إلى عودة الناس لدعم هذه الأعمال التجارية".
بينما يتكلم آخرون عن شعورهم بالانجراف والاضطراب. حيث وجد أحد مديري الصناديق في لندن، بعد أن خاطر بالذهاب إلى مكتبه، أن هناك خمسة أشخاص آخرين غيره فقط في المكتب. وقال آخر إن التغييرات المستمرة في الأنظمة أربكت فريق عمله، وهو يعتقد الآن أن إعادة الموظفين إلى المكتب سيكون أمراً صعباً. بينما أشار مدير ثالث إلى أن العديد من الموظفين يختارون العمل من المنزل يومي الإثنين والجمعة في الوقت الحالي، وأعرب عن أسفه للافتقار المتزايد في التواصل وجهاً لوجه مع موظفيه.
تقول هوبسباوم، التي تتحدى نظريتها "مكتب اللامكان" الثقافة التي هيمنت دائماً على اقتصاد مهارات المعرفة لأعوام قبل تفشي الوباء: "لابد من تحديد هيكل أيام العمل، لكن ذلك سيحصل في مكان تلو الآخر".
مضيفة: "أنا أتعاطف تماماً مع "غولدمان ساكس" ومع أي منظمة تحاول تحقيق التوازن بين احتياجاتها اليومية، لكن ما أود قوله لجميع قادة الأعمال وصناع السياسات هو: من فضلكم، انظروا حولكم. من فضلكم حاولوا أن تشعروا بما يدور في رؤوس الموظفين".