لا يعدُّ ظهور اللقاحات الأولى ضد كوفيد -19 مجرَّد علامة بارزة في جهود مكافحة الجائحة، بل هي نقطة انطلاق لتقنية غير تقليدية أيضاً، يمكن أن تهزم يوماً ما الأمراض الأخرى التي استعصت على الأطباء، بداية من السرطان إلى أمراض القلب.
وتستخدم الجرعات من شركة "موديرنا"، و الشراكة بين "فايزر وبيونتيك" مادة وراثية تسمى الحمض النووي الريبوزي لتحويل خلايا الجسم بشكل فعَّالٍ إلى مصانع لقاحات. ولم يتم استخدام هذا النهج أبداً خارج التجارب السريرية، وأذهل مدى نجاحه ضد فيروس كورونا حتى بعض مؤيديه الأكثر حماساً له.
الآن، بعد أن حصل أحد اللقاحات على تصريح من الولايات المتحدة، والآخر سيجري اعتماده قريباً، يمكن أن يفتح التحقُّق من نجاح العلاج في مكافحة الجائحة مجالاً جديداً تماماً في الطب.
قال ديريك روسي، عالم أحياء الخلايا الجذعيَّة السابق في جامعة هارفارد، الذي ساعد في تأسيس شركة "موديرنا" في عام 2010: "نحن ندخل الآن عصر علاجات الحمض النووي الريبوزي، ولقد شهد العالم بأسره هذا، وستكون هناك زيادة في الاستثمار والموارد ".
بطريقة ما، كان الوباء العالميُّ بمثابة أرضية إثبات مثالية للتكنولوجيا الجديدة، إذ أصبح الداعمون الأثرياء - بما في ذلك شركة "فايزر "أكثر استعداداً للمخاطرة. لكنَّ هذا الجهد كان ممكناً فقط، لأنَّ شركَتي "بيونتيك وموديرنا" قد عملتا على الحمض النووي الريبوزي لسنوات.
توجِّه هذه التقنية الخلايا البشرية لتصنيع أيِّ نوع من البروتين، وتحويلها إلى خطوط إنتاج صغيرة للأدوية أو اللقاحات. وتتحدد أحد العوائق الرئيسية في أنَّ الحمض النووي الريبوزي، يجب أن يصل إلى الخلايا قبل أن يكسرها الجسم. وفي لقاح فيروس كورونا، يجري ذلك باستخدام شكلٍ معدَّلٍ من الحمض النووي، وتغطيته بالجسيمات النانوية (أجسام مستقلَّة متناهية الصغر) الدهنية.
بدأ الرئيس التنفيذي لشركة بايونتيك "أوغور شاهين"، دراسة تطبيق هذه التقنية العلاجيَّة في مجال السرطان منذ حوالي عقدين من الزمان مع زوجته "أوزليم توريسي"، عالمة المناعة التي شاركت في تأسيس الشركة. ويقول "شاهين" إنَّ
ما مكَّن فريقه من التحرك بسرعة في مشروع كوفيد جاء من خلال تسخير ما تعلموه من تطوير لقاح مضاد للسرطان.وقال شاهين في مقابلة، إنَّ القدرة الناتجة على تقييم عدة لقاحات مرشحة متوازية، كانت جميلة حقاً.
وبحسب ما ذكره "شاهين"، قد يشهد مجال السرطان أول تصاريح إنتاج عقار مضاد للسرطان قائم على تقنية الحمض النووي الريبوزي في غضون عامين أو ثلاثة أعوام. وفي غضون ذلك، يتوقَّع "روسي" أن تستخدم جميع لقاحات الأمراض المعدية تقريباً هذه التقنية في غضون عقد أو عقدين، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّها أسرع بكثير، وأرخص تكلفة. ولا يزال العالم السابق بجامعة هارفاراد يمتلك أسهماً في شركة "موديرنا"، لكنَّه لم يعد تابعاً لها.
الكل أو لا شيء
ليس هناك ما يضمن أنهم على حق، إذ يتعلَّق خطر الفشل بكل ممارسة علمية، ولكن إلى جانب السرطان ، تعمل الشركات التي تستخدم تقنية الحمض النووي الريبوزي، مثل موديرنا، وبيونتيك، و ترانسليت بايو، وغيرها على تسخير التكنولوجيا في لقاحات الإنفلونزا، وعلاج قصور القلب، والتليُّف الكيسي (مرضٌ وراثيٌّ يصيب الغدد الخارجية، فتنتج مخاطاً يسدُّ قنوات الأمعاء، والبنكرياس، والشعب الهوائية)، والفيروس المضخم للخلايا، وربما كان التحدي الأكبر للجميع؛ هو فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، الذي استعصى على الباحثين في مجال اللقاحات لمدة أربعة عقود.
يتذكَّر "ستيفان بانسل"، الرئيس التنفيذي لشركة موديرنا ، تحذير زوجته-عندما ترك شركة تشخيص للأمراض قائمة منذ ما يقرب من عقد من الزمان- من أنَّ صاحب العمل الجديد لديه فرصة أقل من 5% للنجاح. لكنه قال لها "إذا فعلنا ذلك، فإنَّ الاتجاه الصعودي سيكون هائلاً ".
يتذكَّر قوله في مقابلة هاتفية: "لن تكون شركة دواء واحدة". "إما أن نفشل وتكون النتيجة صفراً ، أو ننجح وتتحوَّل لصناعة كاملة."
قد يكون أحد المكاسب السريعة نسبياً للحمض النووي الريبوزي التوصُّل للقاحات أفضل للإنفلونزا الموسمية، إذ تقتل الإنفلونزا ما يصل إلى 650 ألف شخص كل عام، وغالباً ما تكون اللقاحات الحالية فعالة جزئياً فقط؛ لأن الإنتاج يجب أن يبدأ قبل حوالي ستة أشهر، بناء على التخمينات القائمة علي الخبرة العلمية لمسؤولي الصحة حول السلالات التي من المرجَّح أن تنتشر في تلك المرحلة.
يمكن أن يبدأ الإنتاج لاحقاً، ويعتمد على قدر أقل من التخمين بفضل استخدام تقنية الحمض النووي الريبوزي. وقال "ماتياس كروماير" ، شريك في شركة " إم أيى جي أيه جي MIG AG "، الداعم المبكر لرأس المال الاستثماري لشركة بيونتيك: "إذا تعرفت عن قرب بما يظهره لقاح فيروس كورونا، سترى أنَّ ذلك بمثابة تطور كبير".
وإذا احتاج الناس إلى جرعات معزَّزة دوريَّة ضد كوفيد-19 ، فيمكن دمج لقاحات الإنفلونزا مع معزز لفيروس كورونا للقضاء على جميع المخاوف الفيروسية التنفسية الشتوية في طلقة واحدة، وفقاً لما ذكره "بانسل" .
والأهمُّ من ذلك، أنَّ الحمض النووي الريبوزي قد يساعد في إنتاج لقاحات ضد الفيروسات التي أفلتت من الأساليب التقليديَّة. ويأتي بعد لقاح كوفيد، برنامج شركة "موديرنا" الأكثر تقدُّماً لإنتاج لقاح ضد الفيروس المضخم للخلايا، الذي يمكن أن يسبِّب تشوهات خلقية عند انتقالها من الأم الحامل إلى الجنين. ويحاول العلماء تطوير لقاح مضاد لهذا الفيروس منذ 50 عاماً ، لكنَّ شركة موديرنا تعتقد أنَّ تقنية الحمض النووي الريبوزي تمنحه ميزة. وتعدُّ النتائج المبكرة من المرحلة الوسطى للتجارب واعدة، وقد تبدأ تجارب المرحلة النهائية خلال العام المقبل.
اهتمام شركات الأدوية الكبرى
إلى جانب شركة"ميرك Merck"، تشارك في هذه المحاولات شركات الأدوية الكبرى الأخرى بداية من شركة " أسترازينيكا بي إل سي "AstraZeneca Plc إلى شركة " روش هولدينج أيه جي Roche Holding AG ". وليس هناك شكٌّ في أنَّ الحمض النووي الريبوزي سيكون وسيلة مهمة للمضي قُدماً ، وفقاً لـ"سيفيرين شوان" ، الرئيس التنفيذي لشركة "روش" . وتعمل شركة "روش"، إحدى أكبر الشركات المصنِّعة لأدوية الأورام في العالم ، مع شركة "بيونتيك" على تطوير لقاحاتٍ مخصَّصة للسرطان.
وتعمل الشركة أيضاً على دواء السرطان مع شركة الأدوية "ميرك" في دراسة قُدِّمت في نوفمبر، وساعد عقار "موديرنا" مع عقار المناعة الرائد "كيترودا" Keytruda)) من شركة "ميرك" في تقليص الأورام في كل 5 من بين 10 مرضى مصابين بسرطان الرأس، والرقبة المتقدم.
قال "شوان" في مقابلة "جرى فتح الباب هنا". وتابع: "أعدنا تأكيده الآن عبر كوفيد-19 لأنَّ هذه بيانات لتجارب سريرية حقيقية. وهذا سببٌ وجيه لضخِّ مزيد من الاستثمار ".
إلى جانب كوفيد-19، تظلُّ جميع العقاقير واللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبوزي تقريباً في المراحل المبكرة من التجارب على البشر. وفي حين أنَّ النجاح الأخير قد يبشِّر بالخير بالنسبة للقاحات الأمراض المعدية الأخرى، فإنَّ الآثار المترتبة في علم الأورام أقل وضوحاً، لأنَّ السرطان قد طوَّر دفاعات عديدة للتهرُّب من جهاز المناعة.
يقول "شاهين" : "لا يمكننا أن نقول ببساطة أنَّ أيَّ لقاح آخر قائم على تقنية الحمض النووي الريبوزي سينجح أيضاً لمجرد أننا رأينا التحقق من كفاءته في مجال اللقاح القائم على الحمض النووي الريبوزي ." وأضاف: "كلُّ نهجٍ يجب أن يعالج تحديات بيولوجية، وطبية مختلفة."
علاج السرطان
تركِّز معظم أبحاث "بيونتيك" بعيداً عن كوفيد-19 على السرطان، و لاتقوم فكرتها على منع المرض، ولكن معالجته. وتجرِّب الشركة العديد من الأساليب المختلفة ، بهدف إيجاد تسلسلات تدلُّ على ورم الشخص، وتجري عملية ترميز الحمض النووي الريبوزي لإخبار الخلايا المناعية بكيفية مهاجمة تلك الخلايا السرطانية.
وسيمكِّن التدفق النقدي من نجاح لقاح فيروس كورونا هذه التكنولوجيا الحيوية الألمانية من دفع تجارب مرضى السرطان للتقدم أيضاً. وأثار أحد لقاحات بيونتيك للسرطان استجابات قوية، وفي بعض الحالات قلَّص الأورام لدى مرضى سرطان الجلد المتقدِّم في تجربة شملت 89 شخصاً جرى نشرها في صيف هذا العام. وقد تظهر بيانات الفعالية الأوليَّة من دراسات المرضى في مرض السرطان في أقرب وقت مع نهاية العام المقبل، أو أوائل عام 2022 ، وفقاً لما ذكره الرئيس التنفيذي.
وتعمل شركة بيونتيك أيضاً مع مؤسسة "بيل جيتس آند ميلندا" على نهج الحمض النووي الريبوزي ضد فيروس نقص المناعة البشرية، الذي استعصى على الباحثين في مجال اللقاح حتى الآن، لأنَّ الفيروس قادر على الاختباء داخل الخلايا، لكن التجارب على البشر لم تبدأ بعد في هذا المشروع.
الخيال العلمي
يجري استخدام الحديث عن بعض المستقبل المحتمل؛ وكأنَّه يشبه إلى حدٍّ ما الحديث عن الخيال العلمي في الوقت الحالي. وتُجري شركة "بيونتيك" بحثاً مبكِّراً حول ما إذا كان يمكن استخدام الحمض النووي الريبوزر لإعادة برمجة الخلايا من أجل طبِّ التجديد (يختص بإعادة هندسة الخلايا، والأعضاء المتضررة لتعود لطبيعتها). في المستقبل، قد يتمكَّن العلماء أيضاً من تصميم جسيمات نانوية (جسيمات مستقلَّة متناهية الصغر) موجهة، و تتراكم في أنواع معينة من الأنسجة مثل نخاع العظام ، كما قال "درو وايزمان"، عالم المناعة في جامعة بنسلفانيا الذي ساعد في تطوير تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال، والمستخدمة في تصنيع لقاحات كلٍّ من "فايزر- بيوإنتك و موديرنا" . ويمكن أن يسمح ذلك للأطباء بعلاج الأمراض الوراثية، مثل فقر الدم المنجلي بحقن بسيط في الوريد من علاج قائم على تقنية الحمض النووي الريبوزي الموجَّه.
قال وايزمان: "تجربة الحمض النووي الريبوزي لديها إمكاناتٌ هائلةٌ، ولا يمكنني حتى إعداد قائمة بعدد الأشياء المختلفة التي يمكن استخدامها من أجلها".