في حال دخولك لمنشأة تحليل التسلسل الجيني التابعة لمختبر الاستجابة للوباء في حيّ كوينز بمدنية نيويورك الأمريكية، سيكون من المستبعد بالنسبة لك أن تجد مكاناً للوقوف فيه بدون التسبب بأي أضرار. ففي هذا المكان قد تتسبب أي خطوة في الاتجاه الخطأ بعرقلة عاملة تقنيّة مثلاً أثناء عبورها وهي مرتدية زيّها الخاص لتحمل صفيحة تحوي "الحمض النووي الريبوزي" (RNA) مجموعة من 384 عينة من فحوصات فيروسات "كوفيد -19"، وهي في طريقها نحو آلة تجري اختبارات "تفاعل البلمرة المتسلسل"، المعروفة اختصاراً باسم (PCR). فهذه الآلة تحدد العينات الإيجابية وتقوم باستخراجها بواسطة ذراع آلية. كذلك قد يمر باحثٌ آخر، في عجلة من أمره بالمكان، وهو ينقل المزيد من عينات الحمض النووي الريبوزي، ولكن هذه المرّة نحو الآلة التي تحوّله إلى حمض نووي (DNA).
"كوفيد" ليس الأسوأ.. احذروا الوباء المزدوج
وفي إحدى الزوايا تقع آلات لتحليل التسلسل الجيني، عن طريق جمع أجزاء الحمض النووي لتحديد أي من فيروسات "سارس–كوف–2" يعاني المريض.
وقد مرّت على هذا المختبر كافة السلالات المتحولة من الفيروس التي سبق وسمعت بها، حيث يعتبر المختبر جزءاً من الجهود الوطنية والدولية الرامية لتحليل التسلسل الجيني للفيروسات، وكشف المتحولات الجديدة والخطرة، والعمل على الحدّ من تفشيها.
السلالة المتحولة "دلتا"
تجري الأمور بسرعة هائلة داخل هذا العالم. ففي بداية العام، كان الخوف ينصب على السلالة المتحولة "ألفا"، التي رُصدت للمرّة الأولى في المملكة المتحدة، وبدا أنها تنتشر بسرعة أكبر من فيروس كورونا الأصلي. ولكن مع نهاية شهر أبريل الماضي، رصد مختبر الاستجابة للوباء، المعروف اختصاراً باسم (PRL) السلالة المتحولة "دلتا"، التي ظهرت للمرّة الأولى في الهند، وتميزت بتغيرات طرأت على الشيفرة الجينية للفيروس، أسهمت في تغيير سلوكه.
تضمّ سلالة "دلتا" أكثر من عشرين متغيراً في تركيبتها الجينية، والبعض من هذه المتغيرات يجعل بروتين الفيروس الشوكي أكثر قدرة على الالتصاق بالخلايا البشرية، ممّا يمكّن الفيروس من تفادي الأجسام المضادة.
وكان تحليل التسلسل الجيني قد أظهر أن سلالة "دلتا" تشكل 70% من إصابات "كوفيد" في مدينة نيويورك، فيما يرجح مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، أن تكون "دلتا" مسؤولة عن 83% من الإصابات بفيروس كورونا على صعيد البلاد.
دراسة تطور الفيروس
في نهاية شهر يونيو الماضي، بدأ مختبر (PRL) (يلفظ اسمه المختصر "بيرل")، بالاستعداد لإجراء مسح للعينات بحثاً عن السلالة المتحولة "دلتا بلس"، والتي هي مزيج من السلالات التي تم رصدها للمرة الأولى في الهند وجنوب إفريقيا. وقال هنري لي، مدير قسم علم الجينوم في (PRL): "يمكن أن تتغير تعريفات هذه السلالات المتحولة بين أسبوع وآخر".
حين يحصل ذلك، لا بدّ من تحديث البرامج الإلكترونية وإعادة تحليل العينات، كما يتوجب على السلطات أن تحدد طرق الاستجابة التي ستعتمدها.
وقد شبّه لي الأمر بمشاهدة حريق غابات مستعر ولكنه هذه المرة من إصابات "كوفيد"، حيث يتم اكتشاف مصدر جديد للاندلاع، لتتم مراقبته والتخطيط للاستجابة له، ثمّ يتم اكتشاف مكان آخر، وهكذا يتكرر الأمر، على أمل أن تكون الاستجابة القادمة أكثر فعالية من سابقتها.
قرارات الحفاظ على السلامة
ولاتخاذ الإجراءات اللازمة، يقوم مختبر لي بإرسال بيانات تحليل التسلسل الجيني إلى إدارة الصحة في مدينة نيويورك، حيث يستخدمها علماء الأوبئة هناك من أجل دراسة مسائل مختلفة، مثل ما إذا كانت الحالة تعود لشخص أصيب بالعدوى مرة ثانية، أو لمعرفة ما إذا حصلت العدوى لدى شخص متلقٍ للقاح. وهكذا، يتم تقييم مدى خطورة السلالة المتحولة المعنية، بما يشمل سرعة تفشيها المتوقعة، وشدتها المحتملة، وفعالية اللقاحات ضدها.
عندها، يتخذ مسؤولو الصحة العامة القرارات المناسبة للحفاظ على السلامة، والتي قد يكون من بينها قرارات تلزم بارتداء الكمامات أو بالحجر الصحي. كذلك، يمكن للبيانات حول التسلسل الجيني أن تسهم في الجهود المبذولة على المدى الطويل للقضاء على الوباء، بما أنها تساعد شركات الأدوية على تطوير جرعات اللقاح المُعززة.
نقص التمويل
مع ذلك، وعلى الرغم من الأهمية الكبرى للتسلسل الجيني، إلا أن مختبر الاستجابة للوباء لم يتلق أي تمويل كي يبدأ القيام بهذا العمل. وقد تم تأسيس "PRL" في الأصل كمركز لإجراء اختبارات كورونا بتمويل من المدينة في الخريف الماضي، ثمّ مرّت أشهر كان لي وزملاؤه ينتظرون خلالها إرشادات حول كيفية القيام بتحليل التسلسل الجيني للعينات الإيجابية.
ويتذكر جون برينان بادال، 35 عاماً -وهو الرئيس التنفيذي لشركة "أوبنترونس لابووركس" التي أنشأت "PRL"- كيف أجرى اتصالات متواصلة مع المسؤولين في المدينة للبحث في كيفية نقل العينات إلى مختبر آخر لهذا الغرض. ويقول: "وصلت المحادثات إلى حائط مسدود، مع تبين أننا سنحتاج للكثير من الأموال للقيام بذلك".
حتى أن شركات التأمين لم تقبل بتوفير التغطية بما أن تحاليل التسلسل الجيني نادراً جداً ما تساعد في علاج حالة معينة، هذا إذا ساعدت أصلاً. لذا، قرر مختبر "PRL" بدء القيام بهذا التحليل بالمجان للعينات الإيجابية. وأضاف برينان بادال: "إنه قرار غير تقليدي في مجال الأعمال، في حال كنت تهتم فقط بقيمة حقوق المساهمين".
تتمتع شركة "أوبنترونس" بترف كونها شركة ذات ملكية خاصة، وهي تملك رأس المال والأجهزة اللازمة. كما أن نشاطها التجاري الأساسي يتركز على توفير نوع أجهزة الروبوتات المستخدمة في "PRL" والمنشآت الطبية الأخرى التي شهدت ضغطاً كبيراً على خدماتها في فترة الوباء.
وسرعان ما وسّع المختبر أعماله نحو المدن الأخرى. ففي مارس، أعلنت "أوبنترونس" عن إنشاء أربعة مراكز وطنية لاختبارات "كوفيد" في لوس أنجلس ونيويورك وسياتل والعاصمة واشنطن، وذلك بهدف المساعدة في إعادة التلاميذ إلى مدارسهم. وستقوم الشركة بتسعير إجراء الاختبار بـ 25 دولاراً، حيث تقوم بإعادة شحن العينات بعد جمعها من المدن إلى مختبرها في كوينز، لإجراء تحاليل التسلسل الجيني، وسيكون هذا الجزء من العمل مجدداً على نفقة "PRL" الخاصة.
ويقول برينان بادال: "اتبعت هذا النهج بسبب عدم وجود أي أحد مستعد للدفع مقابل هذا الأمر، ولكن الجميع سعيد بالحصول عليه". ويضيف: إذا سألتهم هل أنتم مستعدون لدفع دولار إضافي مقابله؟ فستراهم مترددين بذلك.
منظومة مبعثرة وبصيص أمل
وفي هذا الإطار، يرغب العلماء ومسؤولي الصحة العامة على امتداد البلاد برؤية المعلومات التي تنتجها "أوبنترونس" مجمّعة بكميات ضخمة ومُدخّلة ضمن منظومة تتبع وطنية شاملة وسريعة. ولكن على امتداد فترة الوباء، ظلّ تحليل التسلسل الجيني مجزأً بين إدارات الصحة في الولايات والمختبرات الأكاديمية، والمنظمات غير الربحية وشركات "يونيكورن" مثل "PRL".
وهو ما شكّل منظومة مبعثرة جداً، لدرجة أنه بالكاد يمكن تسميتها بالمنظومة. فضلاً عن ذلك، فإن لدى المختبرات أولويات مختلفة بالنسبة لطريقة التعامل مع هذه البيانات. كما أن بعض المختبرات تقوم بعملها بشكل سريع، بينما تستغرق الأخرى وقتاً أطول، كما أن البعض منها يواجه صعوبة في الحصول على العينات، وذلك في ظلّ القواعد الناظمة الضبابية، التي تتسبب بالكثير من التأخير والمشكلات أيضاً.
وفيما يمكن وصفه بأكبر بصيص أمل، فإن إحراز تقدم على هذا الصعيد في الولايات المتحدة، يتمثل بإعلان إدارة الرئيس جو بايدن في أبريل الماضي عن عزمها تخصيص 1.7 مليار دولار لدعم تحاليل التسلسل الجيني.
ومع ذلك، لم يرتق هذا الإعلان إلى مستوى إحداث تحوّل جذري بعد، على الرغم من مناشدات العلماء الداعين إلى إصلاح منظومة العمل في غضون أسابيع وليس أشهر، وبالطبع ليس سنوات. من جهته، علّق إيريك توبول، مدير ومؤسس معهد "سكريبس" للبحوث التحويلية الذي يتولى القيام بأحد أكبر عمليات تحاليل التسلسل الجيني لفيروس كورونا، قائلاً: "لا أفهم لماذا لا يجري الأمر كما يجب. يتعين أن يسير الأمر بسرعة كبيرة جداً، ولكن هذا لا يحصل".
خرائط النشاط الفيروسي
يطرح كيني بيكمان، مدير مركز علم الجينوم في "جامعة مينيسوتا"، رؤية حول مستقبل مكافحة الأوبئة في الولايات المتحدة. فهو يدعو مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، إلى إنشاء أداة تعقّب متينة، سهلة الاستخدام تتيح تتبع السلالات المتحولة في الوقت شبه الحقيقي، في طريقة مشابهة لعمل المركز الوطني للأعاصير في تعقب العواصف.
وبناء على هذا النظام المقترح، يقوم العلماء العاملون في المختبرات العامة والخاصة بإدخال التسلسلات الجينية التي يجمعونها، لإنشاء خرائط واضحة للنشاط الفيروسي يمكن للجميع الاطلاع عليها، ابتداءً من الخبراء الصحيين إلى الأشخاص العاديين الذين يشعرون بالفضول فحسب، بحيث يمكنهم جميعاً رؤية السلالات التي تنتشر في محيطهم.
يقول بيكمان إنه يمضي الوقت وهو يتصفح خرائط الأعاصير على الرغم من أنه يعيش في سان بول. لذلك يرى أن على مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، إنشاء نظام فعّال وجذاب بالقدر عينه، لتتبع فيروس كورونا.
تصنيفات واسعة
في الواقع، يخصص المركز بالفعل صفحة إلكترونية لتعقب الفيروس، تعرض النتائج الإيجابية والسلالات المتحولة المتصلة بها، إلا أنه يقسّمها إلى 10 فئات جغرافية واسعة جداً لدرجة تكاد تكون مضحكة، إذ يجمع الموقع مناطق تفصل بينها مساحات شاسعة مثل أريزونا وغوام. كما أن البيانات المتوفرة حتى منتصف شهر يوليو، تعود لنحو شهر سابق. وعلى الرغم من أن المركز يقدم توقعات حول نشاط السلالات المتحولة الحالية، إلا أن هذه التوقعات تقوم على التقديرات. هذا وليس من الواضح بعد كيف ستساعد أداة التعقب هذه أي شخص على اتخاذ قرارات تستند إلى أسس مستنيرة.
يقول بيكمان: "على مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها أن يعمل كمركز التأهب الوطني لمواجهة فيروس كورونا".
تتبع التهديدات الفيروسية
كذلك، فإن مهمة هذه المنصة قد لا تبقى محصورة بفيروس كورونا. ففي حال تطبيقها بالشكل الملائم، يمكن استخدامها لمعالجة كافة أشكال التهديدات من أنواع الفيروسات الأخرى إلى الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، وحتى مسببات الأمراض المنقولة بالغذاء. يضيف بيكمان: "كل التقنيات المتعلقة بهذا النوع من تحاليل التسلسل الجيني، وهذا النوع من علم الجينوم، هي أمريكية في أساسها.. الولايات المتحدة هي الدولة الرائدة في صناعة هذه التقنيات، لذا من المروّع أننا لسنا رائدين في استخدامها".
لا أحد يدرك ذلك أكثر من زميل بيكمان، داريل غوهل، الذي يدير مركز علم الجينوم في "جامعة مينيسوتا". ففي مارس 2020، وبالتزامن مع انتشار فيروس كورونا المستجد، انكب غوهل وفريقه على العمل بالتعاون مع كلية الطب في الجامعة، لتطوير فحص "بي سي آر" الخاص بالفيروس. وكان المختبر يعمل أيضاً على الجيل المقبل من تقنيات تحليل التسلسل الجيني.
لذلك قدم غوهل في الشهر التالي، طلباً للحصول على التمويل عبر الجامعة و"مايو كلينيك"، من أجل إجراء بحوث حول السلالات المتحولة من "سار س–كوف-2". إلا أن طلبه قوبل بالرفض. ويقول غوهل عن ذلك: "مراقبة التسلسل الجيني لم تكن تشكّل أولية".
تحديات كبيرة
حاول غوهل بعد ذلك اللجوء إلى التمويل الجماعي، وشارك في مسابقة في مجال علوم الحياة تحمل اسم "واليي تانك" (Walleye Tank) وهي تعنى بدراسة الأجناس الحية، ومستوحاة من برنامج تلفزيون الواقع لتمويل المشاريع "شارك تانك". سبق لغوهل أن فاز بمنافسة في مينيسوتا، ولكن الحظ لم يحالفه هذه المرة، فلم يحصل إلا على 1395 دولارا، وهو مبلغ بالكاد يكفي لتحليل التسلسل الجيني لنحو 30 عينة.
في ذلك الوقت، كانت الولاية تسجل 600 إصابة جديدة يومياً بفيروس كورونا. يضيف غوهل: "كان لدينا هذه الوسيلة الجيدة، ولكن لم يتوفر لدينا المال من أجل القيام بأي تحليل للتسلسل الجيني".
عاد غوهل للتقدم بطلب للتمويل من مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها خلال فصل الصيف، ولكن بسبب خطئ إداري، لم يحظ مقترحه حتى بالمراجعة. كرر المحاولة مع الجامعة و"مايو كلينيك"، وقوبل بالرفض مجدداً. وفي الوقت الذي بدأت بعض المختبرات الأخرى تستخدم هذه التنقية، لم يستطع فريق غوهل أن يقوم بنفسه بأي عدد يذكر من تحاليل التسلسل الجيني.
العامل الزمني
حتى أن عمليات تحليل التسلسل الجيني الأفضل في البلاد التي كانت تجري على بعد ولايتين، في ميشيغان، وكانت تواجه هي الأخرى صعوبة في التعامل مع التحديات الناجمة عن فيروس كورونا.
فمنذ عام 2014، تعمل إدارة الصحة في الولاية على بناء منظومة قادرة على تعقب سلالات الانفلونزا وتفشي مرض السلّ، ومسببات الأمراض المنقولة من خلال الطعام. ثمّ في غضون بضعة أسابيع من اكتشاف أول إصابة بفيروس كورونا في ولاية ميشيغان خلال مارس من العام الماضي، بدأت الولاية تجري تحليل التسلسل الجيني لعينات الاختبارات الإيجابية. وعن ذلك، تقول مارتي سوهنلين، رئيسة قسم الأمراض المعدية في إدارة الصحة بالولاية: "كنّا نقوم بتعليم الولايات الأخرى ما يجب أن تفعله".
سلالة "ألفا"
إلا أن ميشيغان واجهت عقبات كبرى أيضاً. فبعض مواقع الاختبارات كانت ترسل العينات يومياً من أجل إجراء تحليل التسلسل الجيني، فيما كانت مواقع أخرى ترسلها مرة أسبوعياً، كما أن بعض المسائل اللوجستية مثل العواصف الثلجية كانت تتسبب بالمزيد من التأخير في العمليات. يضاف كل ذلك إلى الأيام الخمسة اللازمة كحدّ أدنى من أجل القيام بتحليل التسلسل الجيني، وهو ما يعني أن المسؤولين يستغرقون ما يصل إلى أسبوعين حتى يحصلوا على المعلومات التي يحتاجون إليها.
وفي يناير الفائت، اكتشف مختبر الصحة العامة في الولاية وصول السلالة المتحولة "ألفا". وفي إحدى المراحل خلال فصل الربيع، حين أصبحت ميشيغان إحدى البؤر العالمية لانتشار فيروس كورونا، كانت الولاية تسجل ثاني أكبر عدد من الإصابات بالسلالة المتحولة "ألفا" في البلاد، وحلّت مباشرة خلف فلوريدا، بحسب بيانات مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها. (ربما يعود ارتفاع عدد الإصابات في ميشيغان إلى مساعي الولاية الحثيثة للبحث عن السلالات المتحولة).
في هذا الصدد، تقول أنيت ميركاتانت، مسؤولة الصحة الطبية في مقاطعة سانت كلير، التي كانت من المناطق الأشدّ تأثراً بالفيروس في الولاية: "في البداية، كنّا نأمل أن تساعدنا المعلومات حول الطفرات على تعقب المخالطين بشكل أفضل، وتحديد وسائل الاختلاط هذه من أجل الحدّ من التفشي".
ثمّ سرعان ما بدأت التقارير حول التسلسلات الجينية تتدفق على ميركاتانت وفريقها، وما كان إلا أن صبوا اهتمامهم على تعقب المخالطين الذين يحملون السلالة المتحولة من الفيروس. إلا أن البيانات الجينية لم تصلهم بالسرعة الكافية، وفي النهاية، بات عدد الحالات كبيرا جداً ولم يعد بوسع فريقها مواكبته.
معايير الوقاية
أعطى تتبع السلالات المتحولة ميركاتانت حججاً لإقناع الجمهور بالتزام أقصى معايير الوقاية، وربما تكون هذه أهم مساهماته على الصعيد العملي. فقد نجحت ميركاتانت في التصدي لمحاولة إدارات المقاطعات المدرسية تقصير مدة الحجر الصحي من 14 يوماً إلى 7 أيام. وقالت: "بالنسبة لنا، هذا الأمر بديهي. لن نقوم به الآن". إلا أن نصائحها الأخرى، بما فيها الدعوى لالتزام التباعد الاجتماعي غالباً ما تمّ تجاهلها، إذ تُرك الأمر لارتفاع معدلات التلقيح ودفء الطقس من أجل التخفيف من انتشار السلالة المتحولة "ألفا".
يعمل فريق مارتي سوهنلين حالياً على توسيع مختبر الولاية باستخدام الأموال الفدرالية التي حصلوا عليها في العام الماضي. كما أنهم يأملون في التوصل إلى طريقة يعرضون من خلالها بيانات التسلسل الجيني للفيروس، بشكل يمكّن فرق الصحة العامة المحلية من الاطلاع عليها بفعالية أكبر، ربما على شاكلة خرائط الأعاصير سابقة الذكر. إلا أن سوهنلين أشارت إلى أن "القيام بذلك لن يكون سهلاً في القريب العاجل".
وهنا يأتي دور إدارة بايدن نظرياً. فالحزمة التمويلية بقيمة 1.7 مليار دولار التي أعلن عنها في أبريل الماضي، خصصت 240 مليون دولار للولايات وغيرها من التقسيمات الإدارية، مع استثمار ما يصل إلى مليار دولار مع الوقت. كما سيتم تخصيص 400 مليون دولار من أجل إنشاء ستة مراكز للتميّز في علم الأوبئة، تقوم على البحوث الجينية، وهي عبارة عن شراكات بين إدارات الصحة في الولايات وبين الجامعات. أمّا الـ300 مليون دولار المتبقية فسيتم تخصيصها من أجل إنشاء بنية تحتية وطنية للمعلوماتية البيولوجية، من شأنها أن توفر طريقة موحدة لتشارك البيانات حول تطورات التسلسل الجيني للفيروسات وتحليلها.
جهود عالمية
من جهته، أعلن مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها أنه قام بتعزيز قدراته على إجراء تحاليل التسلسل الجيني، وقد أبرم عقوداً في هذا الشأن مع شركات مثل "لابكورب" و"كويست دياغنوستيك". وقد مكّن ذلك الولايات المتحدة من التقدم من المرتبة 45 في يناير الماضي، إلى المرتبة 36 اليوم على صعيد نسبة الحالات التي أُخضعت لتحاليل التسلسل الجيني، وقُدمت إلى قاعدة البينات الدولية للسلالات المتحولة (GISAID).
كذلك فإن تصنيف الولايات المتحدة على هذا الصعيد قد تحسن بفعل التمويل الذي قدمته المنظمات غير الربحية، وكان من بينها مشروع "تشان-زوكربيرغ بيو هاب"، و"مبادرة تشان–زوكيربيرغ" الممولة من مؤسس شركة "فيسبوك" مارك زوكربيرغ، وزوجته بريسيلا تشان، والذي يتضمن القيام فعلياً بعمليات تحاليل التسلسل الجيني. وبحسب تقديرات مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، فإن الولايات المتحدة تجري اليوم تحاليل التسلسل الجيني لـ10% من إجمالي الإصابات بفيروس كورونا عالمياً.
أهداف تحاليل التسلسل الجيني
يحدد مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها أولوياته الخاصة بشأن طريقة استخدام البيانات التي يتم التوصل إليها. حيث يقول غريغ أرمسترونغ، وهو مدير برنامج الكشف الجزيئي المتقدم في المركز: "من المهم أن نحدد مسبقاً ما هي أهداف تحاليل التسلسل الجيني"، مشيراً إلى أن هذه الأهداف "تختلف على الصعيد الوطني عمّا هي عليه على الصعيد المحلي".
تقوم الأهداف الوطنية على تحديد السلالات المتحولة القادرة على تفادي اللقاحات، والتي لا تستجيب إلى العلاجات المتوفرة حالياً، وتتفشى بسرعة كبيرة. فهذا النوع من المعلومات هو الذي يساعد شركات الأدوية على تحديث لقاحاتها. كما من شأنه أن يساعد الحكومة الأمريكية على تخصيص مواردها بشكل أفضل. ففي يوليو، أعلنت الحكومة عن إرسال فرق استجابة للتفشي الفيروسي إلى المناطق التي تشهد انتشاراً سريعاً لسلالة "دلتا".
انتقادات إدارة الأزمة
نظراً للانطلاقة المتعثرة لعملية تتبع انتشار فيروس كورونا خلال العام الماضي، شكك بعض الخبراء بمدى قدرة مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها على إنشاء منظومة تسهم فعلاً في القضاء على الوباء. وبحسب ريك برايت، وهو نائب الرئيس الأعلى للوقاية من الأوبئة والاستجابة لها في "مؤسسة روكفلر"، فإن المركز قد فشل في إدراك أهمية تحاليل التسلسل الجيني. وقال برايت: "لم يبد أن هناك مناصرا لهذا الأمر، بدأ وكان يتعامل معه وكأنه مشروع جانبي أو هواية لدى مجموعة حسنة النيّة داخل مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها".
يُذكر أن برايت كان قد دخل في نزاع مع إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب حول الطريقة التي تعاملت بها الإدارة مع الوباء. وكان برايت يحتل منصب رئيس هيئة البحث والتطوير الطبي الحيوي المتقدم. يتابع برايت:
لا يوجد اعتراف كامل بقيمة بيانات علم الجينوم حتى داخل مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، حتى في يومنا هذا.
كذلك الأمر، فإن العديد من العاملين في المجال الصحي يوجهون انتقادات للمركز بسبب المدة الطويلة التي يستغرقها في نشر البيانات المتعلقة بفيروس كورونا، ومستوى التفاصيل التي يقدمها. فعلى سبيل المثال، عند رصد سلالة متحولة تثير القلق، لا يكشف المركز إلا عن اسم الولاية التي جرى فيها الاختبار، وهذا لا يساعد الباحثين في مجال الصحة العامة على تعقب انتشار السلالة المتحولة.
كذلك، لفت جيرمي كاميل، الاختصاصي الفيروسي في كلية الصحة في "جامعة لويزيانا" في مدينة شريفبورت، إلى أن المركز يستغرق أسابيع كذلك من أجل توفير البيانات حول أمراض مثل الانفلونزا أيضاً، وأضاف كاميل: "هم يحبون أن يكون العمل مركزياً وأن يبقوا هم المسيطرون".
وقال: "نملك التكنولوجيا لتغيير هذا الواقع، ولكننا نصطدم بحائط مسدود". بالنتيجة، بحسب ستاسيا وايمن، وهي كبيرة الباحثين في معهد علم الجينوم الابتكاري في "جامعة كاليفورنيا، بيركلي" فإن مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها "يزيد من الأرقام التي يقدمها بشكل كبير، ولكنه لا يعزز بالضرورة قابلية استخدامها وفائدتها للصحة العامة".
من جهتها، قالت جايد فولشي، المتحدثة باسم المركز، إن المركز لا يستطيع تقديم بيانات تفصيلية أكثر حول السلالات المتحولة من فيروس كورونا، لأن تحليل التسلسل الجيني للعينات الإيجابية ليس إلزامياً. كما أوضحت أن المركز يستخدم مناطق جغرافية واسعة في أداة التعقب الخاصة به، بما أنه لا يصله ما يكفي من المعلومات من بعض الولايات والتقسيمات الإدارية الأخرى.
كذلك، أوضحت فولشي أن المركز أنشأ تجمعاً من العلماء الذين يقومون بتحليل التسلسل الجيني أيضاً، وقالت إن المشروع الأكثر فعالية المتمثل بالبنية التحتية الوطنية للمعلوماتية البيولوجية، هو مشروع يمتد على عدة سنوات، ولم يبدأ إلا للتوّ.
وبهدف تبني تحاليل التسلسل الجيني على نطاق واسع، لا بدّ من إشراك شركات التأمين. فحالياً، لا تغطي شركات التأمين تكلفة تحليل التسلسل الجيني، بما أن تحديد السلالة المتحولة لا يغير في الخطة العلاجية للمريض. وقال جيمس كروفرد، نائب الرئيس الأعلى للخدمات المخبرية في "نورثويل هيلث" وهي أكبر مقدم لخدمات الرعاية الصحية في ولاية نيويورك، إن تحليل التسلسل الجيني "غير موافق عليه كنشاط صحي طبي"، مضيفاً: "لم نسدّ هذه الفجوة بعد".
خطة علاجية أفضل
وفيما يخصّ كورونا، فإن العلاجات المتوفرة هي قليلة بالأصل. وبالتالي، فإن إيجاد علاجات مصممة خصيصاً للسلالات المتحولة سيكون أصعب بكثير على المدى القصير، خاصة أن القوانين الفيدرالية تمنع المختبرات من إبلاغ الطبيب إذا ما كان المريض مصابا بسلالة متحولة ما، إلا في حال كان هذا المريض يشارك في دراسة.
ولكن في حال التمكن من تجاوز هذه العقبة، وزيادة تحاليل التسلسل الجيني بشكل واسع، فإن ذلك سيساعد العلماء على تطوير تدخلات علاجية محددة الهدف، ما سيعطي شركات التأمين سبباً لتغطية تحاليل التسلسل الجيني. ومن شأن ذلك أن يمنح للأطباء والعلماء وخبراء الصحة العامة والشركات التي تطور العلاجات واللقاحات، بحراً جديداً من البيانات. يضيف كروفرد:
ما علينا القيام به يتجاوز توليد المعلومات، علينا توليد المعرفة.
من جهته، فإن غوهل، الباحث في "جامعة مينيسوتا"، والمرشح لمسابقة "وايلي تانك"، كان قد اكتشف في مايو الماضي أنه حصل بالفعل في نهاية المطاف على بعض الأموال من مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، وذلك لإجراء تحاليل التسلسل الجيني بما يكفي لتحليل 6 آلاف عينة.
وعلى الرغم من تراجع عدد الإصابات الإجمالية والتخفيف من القيود الصحية الخاصة بالوباء، فإن المخاوف تتصاعد حول السلالات المتحولة، وبالأخص سلالة "دلتا" المتحولة. حيث إن كثيرا من الأشخاص لا يزالون عرضة للإصابة بفيروس كورونا، مثل الأطفال، والأشخاص ضعيفي المناعة، يضاف إليهم الأشخاص المترددون في تلقي اللقاح.
سيجري مختبر غوهل تحاليل التسلسل الجيني للعينات الإيجابية من مينيسوتا وأيضاً من الولايات المجاورة، مثل داكوتا الجنوبية وأيوا. كما أن ولايتيْ ميسوري وأركنساس اللتان تشهدان ارتفاعاً جديداً في عدد الإصابات، طلبتا العون أيضاً. يقول غوهل: "يجعلني ذلك أشعر بالسعادة لأننا حافظنا على إصرارنا"، فهذا العمل مهم في سياق الصحة العامة، وقد بدأ متأخراً جداً.
المستقبل والتهديدات الجديدة
على المدى الطويل، ستضطر الولايات المتحدة للعمل على الصعيد الدولي من أجل التصدي للتهديدات الجديدة. فحتى بداية يونيو الماضي، كانت 14 دولة فقط، جميعها من الاقتصادات المتقدمة، تجري تحاليل التسلسل الجيني لـ5% أو أكثر من الحالات المسجلة لديها، وتتشارك هذه المعلومات من خلال قواعد البيانات الدولية، بحسب "مؤسسة روكفلر".
في هذا الإطار، تسعى المؤسسة لسدّ، ولو جزء صغير من هذه الفجوة، من خلال استثمار أكثر من 20 مليون دولار لدعم جهود تحليل التسلسل الجيني في الهند وإفريقيا جنوب الصحراء، فيما تواصل السلالات المتحولة التي تثير قلق الولايات المتحدة، تفشيها في المناطق، حيث لا تزال حملات التلقيح محدودة. في الواقع، تم رصد سلالة "دلتا بلس" للمرة الأولى لدى مسافرين من نيبال حيث تلقى 6.3% فقط من السكان اللقاح، بحسب أرقام "متعقب اللقاح من بلومبرغ".
وقد حذر برايت من أنه في حال وصول سلالة متحولة أخرى إلى الولايات المتحدة، "فإننا مهددون بأن لا نتمكن من رصدها قبل فوات الأوان". وأضاف: "نحن نملك الموارد الآن، ونملك العلم والتكنولوجيا. لدينا إرادة مذهلة ضمن النظام الجامعي والقطاع الخاص. كلّ ما علينا فعله هو توفير الأموال من أجل دعم هذه المجموعات، والحصول على المعلومات في أسرع وقت ممكن".