قبل عام واحد فقط، كانت "موديرنا" تُعَدّ شركة غير ربحية، وبلا منتجات تسوقها. وبينما كانت الشركة تمتلك تقنية واعدة، فإنها لم تكن مُثبتة الفاعلية بشكل تام، ولم يسبق لأي من أدويتها ولقاحاتها التجريبية أن أكملت تجربة واسعة النطاق على الإطلاق، كما كانت آراء الخبراء منقسمة حول مدى جودة لقاح "كوفيد-19" القائم على تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، الذي كانت الشركة على وشك بدء المرحلة الثالثة من التجارب السريرية عليه، وكان يتحتم عليه مواجهة إصدارات اللقاحات التي تعتمد التقنيات الأقدم والأكثر رسوخاً في تطويرها.
لكن الأمر اختلف هذا العام، إذ بات بإمكان "موديرنا" تقديم مليار جرعة من لقاحها المضاد لفيروس "كورونا"، وتحقيق إيرادات بقيمة 19 مليار دولار. وأصبحت التكنولوجيا الحيوية النادرة التي تمتلكها الشركة تحقق نجاحاً كبيراً، دون أن تقضي عليها شركة أكبر وأكثر رسوخاً، أو حتى تتقاسم الأرباح معها.
بلغت قيمة "موديرنا" السوقية 100 مليار دولار لأول مرة في 14 يوليو الماضي، لتتجاوز بذلك قيمة أقوى الشركات في المجال، مثل "باير" الألمانية التي اخترعت عقار الـ"أسبرين"، كذلك استطاعت أن تتفوق على مثيلاتها من الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية مثل "بايوجن" التي تأسست قبل ثلاثة عقود.
وسوياً، مع منافستها الرئيسية في تقنية "mRNA"، وهي الشركة الناتجة عن شراكة "فايزر" و"بيونتيك"، استطاعت "موديرنا" أن تسهم بشكل كبير في سرعة ابتكار اللقاح اللازم في الحرب الناشبة ضد الوباء. وفي ظل الفاعلية القوية لهذه اللقاحات، والإمداد الثابت من الشركة، وانعدام مخاوف السلامة التي تستدعي توقُّف الاستعمال (إذ يراقب المسؤولون بعناية الحالات الالتهابية النادرة في القلب التي ظهرت لدى المراهقين والشباب)، أصبحت اللقاحات التي تستخدم تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال هي اللقاحات المُفضلة، وذلك على الأقل في الدول التي تستطيع الحصول عليها.
هل أصبحت لقاحات "كورونا" أكثر من المطلوب؟
لكن بالنسبة إلى الرئيس التنفيذي لشركة "موديرنا" ستيفان بانسل، فإن لقاح "كوفيد-19" هو مجرد البداية. ولطالما وعد بانسل بأنه في حال نجاح تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال فإنه سيقود إلى صناعة دوائية عملاقة جديدة، ستكون قادرة على علاج كل شيء، من أمراض القلب إلى السرطان وحتى الحالات الوراثية النادرة. وحالياً تمتلك "موديرنا" عقاقير تخضع للتجارب السريرية لكل من هذه الأمراض الثلاثة.
ويقول بانسل إن شركته قد تصبح أيضاً صانع لقاح مهيمناً عالمياً، وهي تطور جرعات للفيروسات الناشئة مثل "نيباه" و"زيكا"، بالإضافة إلى الفيروسات المسببة للأمراض المعروفة التي يصعب استهدافها مثل فيروس نقص المناعة البشرية (HIV).
خلال الأعوام الأربعين الماضية، اكتُشف أكثر من 50 فيروساً جديداً يصيب البشر، توجد لثلاثة منها فقط لقاحات مضادة مصرح بها. من جهته يرى بانسل الأمر باعتباره فرصة، إذ كان قد قال خلال مقابلة أجراها في أواخر مايو في مقر "موديرنا":
"سنعيد تشكيل سوق اللقاحات بشكل كامل".
يقع مقر "موديرنا" في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وهو يستحوذ على مبنى من 10 طوابق، شمال حرم "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا". كما تمتلك شركة الأدوية السويسرية "نوفارتس" معملاً في أحد المباني المجاورة، وكذلك تمتلك كل من "فايزر" و"ميرك" مكاتب على بعد عدة مبانٍ فقط.
الجرعات المعززة
بانسل، ذو الـ48 عاماً، يرتدي قميصاً أزرق وبنطالَ جينز أزرقَ داكناً، وحزاماً أسودَ من علامة "هيرميس" التجارية. وهو عدّاء متمرّس، ويبدو في الواقع أكثر حماساً مما يظهر عليه في المؤتمرات الافتراضية المتكررة التي يعقدها. وخلال إحدى المقابلات كان بانسل يقف على قدميه بسرعة بين حين وآخر ليشرح، فيما يخطط على لوح أبيض السيناريوهات المختلفة التي يمكن أن يتطور بها تفشي الفيروس. وكان أحد المخططات التي استعرضها يتنبأ بحدوث موجات موسمية من هجمات الفيروس، تنخفض تدريجياً بمرور السنوات، ولكنها تبقى مؤثرة، في حين أن مخططاً آخر توقع فيه تراجعاً محتملاً لفاعلية اللقاح مع مرور الوقت، فجرعات اللقاح المعتمدة على الـ"mRNA" كالتي تنتجها شركته، تبدأ من مكان جيد، لكنها ستتراجع بالتأثير تدريجياً.
تتلخص الرسالة التي يمكن استخلاصها من ذلك، والتي تتماشى مع آفاق أعمال "موديرنا"، في أنه سيكون من الأفضل للبلدان تخزين الجرعات المُعززة من اللقاح قريباً. ويقول بانسل: "أمي تبلغ من العمر 72 عاماً، وهي مصابة بسرطان الدم.. لا أريدها أن تمضي حتى الحريق دون وجود جرعات معززة متوفرة".
جرعة سنوية خارقة
تعكف شركة "موديرنا" حالياً على تطوير لقاحات مضادة لعشرة فيروسات، وهذه اللقاحات إما في مرحلة التجارب البشرية وإما على وشك الخضوع لها. وهي تشمل ثلاثة أنواع من الجرعات المعززة للقاح المضاد لـ"كوفيد-19" لا تزال في مرحلة التجارب، ولقاح مضاد للإنفلونزا الموسمية، وقد بدأت أول اختبارات بشرية له في يوليو الماضي، ولقاحات مضادة لفيروس "HIV" ستبدأ تجاربها في نهاية العام الحالي.
وبجانب الجرعات المضادة لـ"كوفيد" فإن اللقاحات الأكثر تطوراً حالياً لدى الشركة هي الخاصة بمكافحة الفيروس المضخم للخلايا "CMV"، وهو فيروس شائع ينتشر عبر سوائل الجسم ويعتبر سبباً شائعاً للعيوب الخلقية عند الولادة، وسيدخل العقار مرحلة التجارب الثالثة هذا العام على النساء في سن الإنجاب.
على المدى الطويل، تستهدف "موديرنا" تطوير جرعة خارقة تعطى سنوياً ويمكنها محاربة عديد من أمراض الجهاز التنفسي، بما فيها فيروس "كوفيد" والإنفلونزا وغيرهما. عن ذلك يقول بانسل: "نهدف إلى إعطائك عدة جرعات من الحمض النووي الريبوزي المرسال في جرعة لقاح واحدة، يمكن تلقيها في الصيدليات المحلية أو لدى متخصص الرعاية الصحية، سنوياً كل شهر أغسطس أو سبتمبر من العام".
4 منهم على الطريق.. لماذا يجب الاستمرار في تطوير لقاحات جديدة ضد "كورونا"؟
الجزء الصعب من هذا الوعد هو إمكانية الوفاء به مع حفاظ "موديرنا" على تقدمها على كل الشركات حول العالم، التي تزيد من استثماراتها في تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال. ففي المستقبل لن تتلقى "موديرنا" المساعدة التي أخذتها من الجائحة، والتي سلّطت الضوء على المزايا الأكثر وضوحاً لتقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال مقارنة بالتقنيات القديمة، وهي السرعة والمرونة.
وسيكون على هذه اللقاحات أن تمر بعملية الموافقة التقليدية لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، ما يعني متابعة أطول لجمع البيانات وجداول زمنية للمراجعة تمتد من 6 إلى 10 أشهر. وهذا الإطار الزمني سيتيح مجالاً أكبر للمنافسة سواء للشركات التي تمتلك تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال، أو لتلك التي تعمل ضمن التقنيات القديمة.
من جهة أخرى، أصبحت شركة "فايزر"، جنباً إلى جنب مع شريكتها "بيونتيك"، تشكّل قوة تصنيع هائلة للقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبوزي المرسال. وتتوقع الشركة إنتاج 3 مليارات جرعة من هذه اللقاحات هذا العام، كما أنها هيمنت أيضاً على التوزيع الأجنبي للقاحات حتى الآن.
منافسة محتدمة
في الوقت نفسه، أصدرت شركة "كيورفاك" الألمانية لقاحاً آخر يسلك نهجاً مختلفاً تجاه الحمض النووي الريبوزي المرسال، لكنّ أداءه لم يكن ذا تأثير قوي، وأثبت فاعلية نسبتها 48% فقط في بيانات المرحلة التجريبية الثالثة التي صدرت في يونيو الماضي. كذلك يوجد لقاح آخر صادر عن شركة "والفاكس" الصينية للتكنولوجيا الحيوية، سيبدأ قريباً مرحلة الاختبارات الثالثة في 7 بلدان.
كذلك فإن الشركات التي تعتمد على التقنيات الأكثر رسوخاً وقدماً، تعمل على إعادة إثبات وفرض نفسها في الصناعة. ففي 14 يونيو الماضي قالت شركة "نوفافاكس" إن لقاحها القائم على تكنولوجيا البروتين المؤتلف كان فعالاً بنسبة 90% في تجربة شملت نحو 30 ألف شخص في الولايات المتحدة والمكسيك، مع بعض الآثار الجانبية القليلة نسبياً، وبذلك يكون قد قدّم نتائج تتطابق إلى حدٍّ ما مع أفضل أنواع جرعات الحمض النووي الريبوزي المرسال. كما أن عملاقَي اللقاحات "سانوفي" و"غلاكسو سميث كلاين" يُجْريان تجارب المرحلة الثالثة على لقاح "كوفيد" المعتمد على البروتين، الذي يمكن أن يصل إلى الأسواق بحلول نهاية العام الحالي.
من جهته، يصف ماني فوروهار، المحلل في شركة "إس في بي ليرينك"، إنجازات "موديرنا" في ما يتعلق بلقاح كورونا بأنها "باهرة حقاً"، لكنه يشير أيضاً إلى أن فكرة تمتع مثل هذه اللقاحات بمزايا فاعلية واضحة مع الأمراض الفيروسية الأخرى لا يزال أمراً لا يمكن تأكيده على الإطلاق.
كما أن الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه التقنية في علاج الأمراض غير المعدية، مثل السرطان، هو أمر غير معروف أيضاً. وعلى الرغم من التوقعات غير المحدودة من العامة اتجاه الشركة، فإن "فرصة تحقيق الإيرادات ليست كذلك"، حسب فوروهار.
تقنية نموذجية
بالنسبة إلى بانسل والآخرين ممن يضخون المال للاستثمار في تطوير سلاسل صغيرة من الحمض النووي المرسال، فإن الرد على هذه التوقعات غير المؤكدة يكمن في الميزتين الرئيسيتين اللتين تملكهما هذه التقنية، وهما السرعة والقدرة على التكيّف. ففي جوهرها، تعتبر اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال تقنية نموذجية، إذ تزود الخلايا بالشفرة الجينية التي تعلّمها كيفية صنع البروتين الفيروسي الذي يثير استجابة مناعية ضد الفيروس، وبالتالي فإن الخلايا تنجز معظم العمل الشاق من هذه المرحلة.
والآن، ومع تحوّل "موديرنا" لتصبح شركة مربحة، تمتلك نقداً بقيمة نحو 8 مليارات دولار (حصة بانسل الخاصة تبلغ نحو 7 مليارات دولار حسب مؤشر "بلومبرغ للمليارديرات")، فإن الشركة باتت قادرة على التحرك سريعاً وبقوة نحو تنفيذ عدة تطبيقات جديدة على تقنيتها للحمض النووي المرسال ببساطة، وذلك عبر تغيير الشفرة الجينية التي تضعها في جرعة الحمض النووي الريبوزي.
ومع أن جرعة لقاح "موديرنا" الحالية تبدو صامدة بشكل جيد أمام الحالات المتزايدة من الإصابة بفيروس "دلتا" المتحول، على سبيل المثال، فإنه يمكن للشركة إدماج طفرات الفيروس في اللقاح بشكل مباشر إذا لزم الأمر. وعن ذلك يقول بانسل: "ليس علينا إدخال تكنولوجيا جديدة أو عمليات جديدة"، متابعاً: "إنه الشيء نفسه بالضبط".
فكرة ثورية في الطب
قبل عقد من الزمن، عندما ترك بانسل منصب الرئيس التنفيذي في شركة التشخيص الفرنسية "بيو ميريو" (BioMérieux)، وانضم ليصبح الموظف الثاني في "موديرنا" (اسم الشركة يُدمج مصطلحَي "مُعدل" و"الحمض النووي المرسال")، كانت فكرة أن الحمض النووي الريبوزي المرسال (messenger RNA) يمكن أن يكون مفيداً طبياً، فكرة ثورية. ففي ذلك الوقت كان تطوير مركب لحمل مخططات البروتين من الحمض النووي في نواة الخلية، ليوصلها إلى الأجزاء التي تصنع البروتينات، أمراً يحمل سمعة بين علماء المختبرات بأنه هش وصعب التنفيذ. فعندما يُدخل الحمض النووي الريبوزي المرسال بشكل مصطنع في جسم الإنسان، يعتبره الجهاز المناعي للإنسان تهديداً ويهاجمه. ونظراً إلى أن وظيفة الحمض النووي الريبوزي المرسال مؤقتة، فإن الإنزيمات الموجودة في جميع أنحاء الجسم يمكنها تحطيمها، وبالتالي لن يقدم العقار أو اللقاح النتائج المرجوة منه.
لكن بدءاً من عام 2005، تمكّن الباحثان في "جامعة بنسلفانيا"، كاتالين كاريكو ودرو وايزمان، من تعديل الحمض النووي الريبوزي المرسال بشكل طفيف بحيث يؤدي إلى رد فعل مناعي أقل في الجسم. لم يلقَ هذا الاكتشاف سوى القليل من التقدير آنذاك، لكن اتضح في ما بعد أنه تقدم هام (جدير بالذكر أن كاتالين تركت "جامعة بنسلفانيا" لتنضم إلى "بيونتيك" في عام 2013).
وفي عام 2010، حصل ثلاثة من علماء "جامعة هارفارد" و"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" على تمويل من شركة المشاريع الرائدة "فلاغشيب بيونيرينغ"، ليؤسسوا شركة "موديرنا"، ثم انضم إليهم بانسل في العام التالي. ثم رخصت شركتا "موديرنا" و"بيونتيك" تكنولوجيا "جامعة بنسلفانيا" في وقت لاحق.
جوازات سفر التطعيم قد تكون بلا جدوى
التطوّر التدريجي للتقنية
يتذكر بانسل أنه أخبر زوجته قبل أن يغير وظيفته أن هناك فرصة بنسبة 5% لنجاح مفهوم الحمض النووي الريبوزي المرسال، لكن إذا نجح الأمر فسيكون عظيماً. وفي العام التالي عندما قدم بانسل عرضاً لستيفن هوغ، وهو الرئيس الحالي لـ"موديرنا"، قال هوغ إن رد فعله على العرض كان "إما إنه عبقري وإما أنه مجنون".
في ذلك الوقت، كان هوغ شريك في شركة "ماكنزي آند كو" وحاصل على درجة طبية، وكان مهتماً بفعل شيء له تأثير مجتمعي أكبر. لكن هوغ اقتنع ببطء بوجهة نظر بانسل التي تقول إن نجاح العلاج بالحمض النووي الريبوزي المرسال من شأنه "تغيير الطب بشكل فعليّ".
المفهوم الكامن وراء لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال بسيط، فعندما تعطي الجرعات الخلايا أوامر بصنع البروتين فإنها تحولها بفاعلية إلى مصانع لقاحات مجهرية بحد ذاتها، وهذا يسمح للمطورين بتبسيط ما يعتبر عادةً عملية تصنيع فوضوية.
عديد من لقاحات الإنفلونزا، على سبيل المثال، يُصنع داخل بيض الدجاج، وحتى اللقاحات الحديثة المعدلة وراثياً لا تزال تحتاج إلى بروتينات فيروسية متنامية داخل الخلايا الحية. وجدير بالذكر أن تخطي مثل هذه الخطوات يتيح لمصنّعي لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال تسريع اتجاهات التصنيع إلى حد ما. ويبدو أيضاً أنه من السهل نسبياً بالنسبة إلى هذه الشركات تصنيع لقاحات معقدة وتتضمن بروتينات فيروسية متعددة.
لقاحات بسيطة قدر الإمكان
عن ذلك، يقول بارني غراهام، وهو نائب مدير مركز أبحاث اللقاحات بالمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية (NIAID)، الذي يتعاون مختبره رسمياً مع "موديرنا" منذ عام 2017: "كل شيء باستخدام الحمض النووي الريبوزي المرسال يكون أبسط.. بالنسبة إليّ فإن صنع لقاحات بسيطة قدر الإمكان هو الطريقة الأفضل للمضي قدماً".
وأوضح غراهام أن الجرعات المعتمدة على الجينات مثل لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال مناسبة بشكل خاص للتصدي للفيروسات، لأنها تبدو بارعة في إنتاج ما يسمى بالخلايا "T" القاتلة، التي تدمر الخلايا المصابة بالفيروس.
لكن قبل أن تتمكن "موديرنا" من إنتاج عقار يعتمد على الحمض النووي الريبوزي المرسال، كان عليها حل مشكلة كيفية حماية المُركب المنتج من الأنظمة الدفاعية لجسم الإنسان. وبالتالي عدل الباحثون بـ"جامعة بنسلفانيا" الحمض النووي الريبوزي، ليكتشفوا بذلك كيفية تثبيط الاستجابة المناعية التي دائماً ما توجد في حالة تأهب، لكن نهجهم سيكون عديم الفائدة إذا فككته الإنزيمات قبل وصول المركب إلى الخلايا.
تبين أن مفتاح حل هذه المشكلة يكمن في إضافة جسيمات نانوية دهنية واقية لإحاطة جزيئات الحمض النووي الريبوزي المرسال، التي تؤدي في الأساس إلى تكوين "كرات من الدهن تحيط بأجزاء صغيرة من الحمض النووي الريبوزي"، وذلك حسبما تقول كيري بينيناتو، الكيميائية التي تركت "أسترازينيكا" للانضمام إلى "موديرنا" في عام 2014.
عندما بدأت "موديرنا" العمل على هذا النهج في عام 2013، كانت التجربة تجرى في الغالب على أنواع أصغر بكثير من جزيئات الحمض النووي الريبوزي، وكانت هناك مخاوف بشأن الآثار الجانبية لهذه التقنية.
ويقول هوغ: "لقد قرر الناس أن هذه الجسيمات سامة"، فالجسيمات النانوية تحتوي على دهون صناعية، وفي الإصدارات المبكرة للجرعات يميل بعض هذه الدهون إلى التراكم في الخلايا، ويتراكم بمرور الوقت، وقد يدمر الكبد أو يحدث آثاراً جانبية أخرى.
مجال جديد وغير مستكشف
كانت مهمة كاري بينيناتو الرئيسية هي ابتكار جسيمات نانوية يمكنها حمل الحمض النووي الريبوزي المرسال بشكل آمن وفعال إلى الخلايا، وتحرير الحمولة، ثم الانقسام سريعاً.
عندما بدأت بينيناتو المهمة، كانت الكيمياء المضافة في عملية استخدام الجسيمات النانوية مع الحمض النووي الريبوزي المرسال غير مستكشفة، لدرجة أنه لم يكن هناك سوى القليل من الأوراق العلمية المنشورة لتوجّه عملها. وبالتالي أجرت هي وفريق عملها تعديلاً تلو الآخر، وحددت التغييرات التي حسنّت القدرة على التحمل دون الإضرار بقدرتهم على توصيل الحمض النووي الريبوزي.
بحلول عام 2015 حققت "موديرنا" تقدماً كبيراً، إذ عثرت على سلسلة من مركبات الدهون تتناسب مع أهدافهم. وتتذكر بينيناتو الأمر قائلةً: "هكذا انطلقنا في السباق"، إذ حصلوا على براءة اختراع لهذه التركيبات وبدؤوا في تطبيقها في اللقاحات.
في أعوامها الأولى، ركزت "موديرنا" على البرامج العلاجية، مثل برامج السرطان وأمراض القلب وغيرها من المجالات المربحة، ثم تحولت الشركة تدريجياً إلى اللقاحات، فقد أدرك بانسل أنها ستكون أفضل طريقة لإثبات نجاح تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال، إذ يتعين عليك الحصول على جرعتين فقط لتحفيز رد الفعل المناعي طويل الأمد ضد الفيروس المستهدف.
وباء كورونا يعيد تشكيل نظم التعليم في كليات إدارة الأعمال
توسيع نطاق الإنتاج
بالتعاون مع فريق عمل غراهام في المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، بدأت "موديرنا" في إعداد لقاح مضاد لـ"كوفيد" بالتزامن مع إطلاق العلماء الصينيين لتسلسل الحمض النووي الريبوزي لفيروس كورونا في بداية يناير 2020. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، سأل بانسل مدير قسم التصنيع لديه عما يتطلبه الأمر لصنع مليار جرعة لقاح في عام 2021. ويتذكر بانسل رد فعل الرجل، قائلاً: "لقد نظر إليّ وكأنني مجنون"، خصوصاً أن مصنع "موديرنا" لم ينتج أكثر من 100 ألف جرعة من أي شيء سنوياً.
ثم وافقت الحكومة الأمريكية على دفع 955 مليون دولار لتجارب اللقاح والإنتاج الأولي على نطاق ضيق، لكن بانسل يقول إنه لم يتمكن في البداية من إقناع أي دولة بالدفع مقابل توسيع النطاق بشكل كامل. وبدلاً من ذلك جمعت "موديرنا" ما يصل إلى 1.3 مليار دولار في طرح أجرته لأسهمها في مايو 2020 من أجل هذا الغرض. وهذه الخطوة سمحت للشركة بالظهور على المسرح العالمي ووضع الأساس لما هو قادم.
تنتج "موديرنا" جزيئاتها النانوية والحمض النووي الريبوزي المرسال في مصنع "بولارويد" السابق بضاحية نوروود ببوسطن، الذي يقع على بعد 15 ميلاً (الميل= 1,609 كم) جنوب مقرها الرئيسي. هذا المصنع، الذي افتُتح في يوليو 2018، يعمل على مدار الساعة منذ نوفمبر، ويبدو وكأنه مزيج بين شركة تقنية ناشئة ومختبر بيولوجيا جزيئية أكثر من كونه مصنعاً. وعشرات العاملين في العمليات ومراقبة الجودة، ممن يرتدون ملابس غير رسمية، يشغلون مجموعة كبيرة من المكاتب ذات التصميم المفتوح في واجهة المبنى.
كما أن اللقاحات المضادة لـ"كوفيد" تُنتَج في غرف نظيفة، بعضها يمكن رؤيته خلف الألواح الزجاجية في الجزء الخلفي من المبنى. وهذه الغرف المخصصة لصنع اللقاح يبلغ عددها 9 غرف، بعدما ارتفعت من 3 غرف فقط في ديسمبر، ومن المقرر إدخال 6 غرف أخرى للعمل بحلول نهاية العام. كما أن الأجنحة، التي تبلغ مساحة كل منها نحو 1000 قدم مربع ( القدم المربع= 0.9 متر مربع)، شُيدت لتكون مرنة، إذ مُزجت أوعية التفاعل وأدوات الكروماتوغرافيا وغيرها من المعدات على عجلات بحيث يمكن إعادة تنظيمها بسهولة.
العمليات المخبرية
تبدأ العملية بجزيئات من الحمض النووي تسمى البلازميدات، وهي جزيئات تُحضرها "موديرنا" من الشركة المصنعة المتعاقد معها. وتحتوي هذه البلازميدات على المخطط الجيني للبروتينات الشوكية المرتبطة بـ"كوفيد-19". وفي مجموعة واحدة من الغرف النظيفة، يُجمع الحمض النووي للبروتينات الشوكية في الحمض النووي الريبوزي المرسال باستخدام تقنية تسمى الاستنساخ المختبري، وهي في الأساس النسخة المختبرية للعملية التي عادةً ما تحدث في نواة الخلية.
يقول سكوت نيكرسون، نائب الرئيس الأول الذي يشرف على الموقع، إن حل الحمض النووي الريبوزي المرسال يمكن أن يحدث في غضون ساعات، ثم يستغرق الأمر عدة أيام لتنقية الإنزيمات غير المتفاعلة وغيرها من المواد الدخيلة. بعد ذلك يتجه الحمض النووي الريبوزي المرسال المنقّى إلى مجموعة منفصلة من الغرف النظيفة، إذ يقضي العمال بضعة أيام أخرى في إعداده باستخدام الجسيمات النانوية الدهنية.
وبعد ذلك يُجمَّد المنتج النهائي في أكياس معالجة حيوية معقمة، ومغلفة بغلاف واقٍ، ثم تُشحن في شاحنات ذات إمكانية تتيح التحكم في درجة حرارتها إلى مصنع شركة "كاتالنت" في بلومنغتون بولاية إنديانا الأمريكية. وهناك يُخفف اللقاح ويوضع في قوارير صيدلانية ويصنف ويُشحن.
اتفاقيات عالمية
عندما بدأت "موديرنا" في تصنيع لقاح "كوفيد" بكميات تجارية العام الماضي، كانت تستغرق العملية ما يصل إلى 19 يوماً لإكمالها، لكن الأمر بات يستغرق الآن 10 أيام فقط لإعداد دفعة لشحنها إلى "كاتالنت".
ومع اتساع نطاق الشركة مرتين، وقّعت "موديرنا" في مايو الماضي صفقة مدتها 10 أعوام مع "لونزا غروب" التي يُتوقع أن تنتج الجزء الأكبر من إمدادات الشركة الأوروبية في مصانع بسويسرا وهولندا.
كما أبرمت "موديرنا" اتفاقيات هذا العام مع شركات "سانوفي" و"سامسونغ بيولوجيكس" و"ثيرمو فيشر ساينتفيك" من أجل تعزيز قدرة تعبئة القوارير الصيدلانية التي توفرها حالياً شركتا "كاتالنت" و"لابوراتوريز فارماسيوتيكوس روفي" في إسبانيا.
وستصبح زيادة ما يسمى بقدرة التعبئة، التي يمكن إنهاؤها بكفاءة، أمراً هاماً مع تحصين نسبة أكبر من السكان في العالم، وصعوبة عثور الأطباء على عدد كافٍ من المرضى لاستخدام القوارير الطبية الأكبر المستخدمة الآن، والتي تضم ما بين 10 و15 جرعة.
ومع ذلك فإن إنتاج "موديرنا" لهذا العام، الذي يتراوح بين 800 مليون جرعة ومليار جرعة، سيعادل نحو ثلث إنتاج شركتي "فايزر" و"بيونتيك". ويقول بانسل إن "فايزر" كان لديها "مئة ضعف من الأشخاص العاملين" في بداية الوباء، بجانب المصانع الموجودة التي يمكن إعادة تجهيزها لإنتاج اللقاح، في حين أن عدد العاملين في "موديرنا" قد تضاعف تقريباً منذ العام الماضي ليصل إلى 1500 فرد.
إنتاج عام 2022
خلال العام المقبل، مع توسيع نطاق القدرة الإضافية لـ"موديرنا" واحتمالية توجيه جزء كبير من إنتاجها إلى الجرعات المعززة وتركيبات الأطفال التي تستخدم جرعات أقل، تتوقع الشركة وشركاؤها إنتاج ما يصل إلى 3 مليارات جرعة، في حين أنه من المتوقع أن تسجل شركتا "فايزر" و"بيونتيك" 4 مليارات جرعة في عام 2022.
وإذا حققت "نوفافاكس" أهدافها الإنتاجية، فإن لقاح "سانوفي" القائم على البروتين يؤدي الغرض أيضاً. كما أن شركات مثل "جونسون آند جونسون" و"أسترازينيكا" تعمل على حل اختناقات التصنيع، ففي مرحلةٍ ما من العام المقبل يمكن أن يتحول العالم من نقص شديد في جرعات "كوفيد" إلى فائض كبير.
مستقبل سوق اللقاحات
خلال الأعوام المقبلة، مع استقرار الفيروس لتصبح أخطاره أكثر قابلية للإدارة، فإن مبيعات لقاح "كوفيد" قد تنخفض، وقد يكون ذلك بوتيرة حادة.
عن ذلك تقول كارين أندرسن، المحللة في شركة "مورنينغ ستار"، إن هذه السوق قد تصل قيمتها إلى 72 مليار دولار في جميع أنحاء العالم هذا العام، ثم تنخفض إلى 65 مليار دولار في عام 2022، ثم إلى 8 مليارات دولار في العام التالي. وسيعتمد مدى التراجع في الطلب على عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى الجرعات المعززة وعدد المرات التي يحتاجون إليها فيها، وما إذا كان كل من "موديرنا" و"فايزر" والآخرون يستطيعون رفع الأسعار للتعويض عن السوق الأصغر حجماً.
وجدير بالذكر أن العلم الذي يتعلق بالجرعات المعززة لا يزال غير مستقر، فلم يتضح بعدُ عدد الجرعات أو حتى ما إذا كانت هناك حاجة إلى تلك الجرعات بأعداد كبيرة.
وحالياً، لدى "موديرنا" ثلاثة أنواع من الجرعات المعززة في تجارب المرحلة الثانية، بما في ذلك نسخة ذات جرعة أقل من لقاحها الحالي، كما خُصصت إحدى الجرعات المعززة للتصدي لمتحول "بيتا" الذي رُصد لأول مرة في جنوب إفريقيا، أما الجرعة الثالثة فتجمع بين الاثنين السابقين. ويمكن إضافة مزيد من الأنواع إذا لزم الأمر.
الطفرات المتحولة
سارت عملية تصنيع الجرعات المعززة ضد متحول "بيتا" بشكل أسرع من الجرعات الأصلية. فقد بدأ العمل في تصميم الجرعة في 22 يناير، إذ استبدلت "موديرنا" في النهاية ببعض "الرموز" الكيميائية في لقاحها الأصلي القائم على تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال، بحيث تتوافق مع البروتين الشائك في متحول "بيتا". ثم بدأ التصنيع بعد ثلاثة أيام فقط، وأُعطيت أول جرعة تجريبية في 10 مارس، أي إن الأمر استغرق 47 يوماً فقط، وذلك بالمقارنة مع 65 يوماً لإنتاج اللقاح الرئيسي.
وتعمل "موديرنا" بالفعل على إبرام صفقات تشمل الجرعات التعزيزية المحتملة، بما في ذلك طلبية أجرتها الولايات المتحدة في يونيو للحصول على 200 مليون جرعة إضافية، في أواخر عام 2021 وأوائل عام 2022. ورغم الحاجة غير المؤكدة إلى الجرعات المعززة، فإن فكرة بانسل تشير إلى أنه من الأفضل أن يكون هناك استعدادات لمواجهة الفيروس المتطور. وفي مؤتمر للمستثمرين في أوائل يونيو، أخبر الجميع أن "الدول الذكية تقول لنفسها: من الأفضل أن أتقدم شهرين في الوقت على أن أتأخر شهرين".
لقاحات متنوعة
بعيداً عن "كوفيد"، يظل معظم اللقاحات التجريبية التابعة لـ"موديرنا" في مراحل مبكرة من التجارب البشرية. ويُستثنى من ذلك الجرعة المضادة للفيروس المضخم للخلايا، إذ يفتقر العالم إلى وجود لقاح لهذا الفيروس حتى الآن، ويمكن أن تتحول هذه الجرعة في حال نجاحها إلى منتج بمليارات الدولارات. وتخطط "موديرنا" أيضاً لإجراء تجارب بشرية هذا العام على لقاح مقاوم لمسبب مرضي معقد آخر، وهو فيروس "إبشتاين-بار"، الذي يسبب كثرة الوحيدات المعدية في الدم.
كذلك تُعَدّ الإنفلونزا هدفاً واضحاً، إذ يمكن إدماج جرعة مخصصة لهذا الغرض مع الجرعات المعززة ضد "كوفيد"، وطرحها في السوق السنوية الحالية. وفي ظل تحالف "فايزر-بيونتيك" المقرر أيضاً لبدء التجارب على لقاح الإنفلونزا في وقت لاحق من هذا العام، يأمل الباحثون في أن تسهم لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال في تحسين الإصدارات الحالية، التي أحياناً ما يتعين عليها بدء الإنتاج قبل ستة أشهر بناءً على تقييم الخبراء للسلالات التي من المرجح أن تنتشر.
من الناحية النظرية، فإن الفترات الزمنية الأقصر اللازمة لصنع جرعات الحمض النووي الريبوزي المرسال يمكن أن تتيح لمسؤولي الصحة مطابقة سلالات الإنفلونزا بشكل أوثق وتحسين معدلات الفاعلية النموذجية لها بنسبة تتراوح بين 40% إلى 60%.
الأمراض التنفسية
ومن جانبه يقول أندرو بيكوس، عالم الفيروسات بكلية "جونز هوبكنز بلومبرغ" للصحة العامة: "اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال من المحتمل أن تكون أفضل من اللقاحات القائمة على البيض التي نستخدمها الآن". كما أنه أشار إلى أن فترات التنفيذ الأقصر يمكن أن تخفض مدة عملية تطوير اللقاحات بمقدار أشهر عدة. لكنه يرى أن هناك سؤالاً لا يزال مطروحاً، وهو يتعلق بمدى الجدوى الاقتصادية للقاحات الإنفلونزا المستندة إلى الحمض النووي الريبوزي المرسال، في حال تبيّن أنها أكثر تكلفة وأفضل بشكل متواضع من اللقاحات القديمة.
تستهدف "موديرنا" أيضاً عدداً قليلاً من الفيروسات السيئة التي تصيب الجهاز التنفسي والتي لا يوجد لقاحات للتصدي لها حتى الآن. وتشمل هذه الفيروسات "الميتابينوموفيروس" (metapneumovirus) الذي قد يؤدي إلى دخول الأطفال الرضع إلى المستشفى، والفيروس "المخلوي التنفسي" الذي يتسبب في أكثر من 175 ألف حالة دخول إلى المستشفى سنوياً لدى كبار السن بالولايات المتحدة، ونحو 50 ألف حالة إضافية لدى الأطفال الصغار. وفي هذه الحالة سيتنافس لقاح "موديرنا" مع الجهود التي تبذلها كل من "جلاكسو سميث كلاين" و"جونسون آند جونسون" التي تعتمد على تقنيات أخرى في المجال وتتقدم فيه.
ويقول هوغ إن "موديرنا" يمكن أن تجمع ما يصل إلى عشرة سلالات فيروسية أو أكثر في جرعة لقاح واحدة، والهدف من ذلك هو صُنع لقاح موسمي "يقضي على غالبية التهابات الجهاز التنفسي الفيروسية التي نعاني منها جميعاً". وأوضح أيضاً:
الطريقة الوحيدة التي سنحصل بها حقاً على مناعة جماعية جيدة وواسعة النطاق ضد فيروسات الجهاز التنفسي هي إذا كان بإمكاننا جعلها تشعر وكأنها مجرد لقاح إنفلونزا
هذا المفهوم منطقيّ على الورق، حسب توني مودي، وهو طبيب وباحث في "معهد ديوك للقاحات البشرية"، يعمل على لقاحات الإنفلونزا القائمة على الحمض النووي الريبوزي. ويقول إن اللقاحات الجامعة تُعَدّ "إحدى نقاط القوة في هذه التقنية". كما أنه يقدر أن الأمر لن يكلف سوى بضعة دولارات إضافية لكل جرعة لإضافة الحمض النووي الريبوزي المرسال الضروري لاستهداف فيروسي معين.
ويضيف: "إذا كان بإمكانك الحصول على جرعة جامعة تمنحك درجة حماية ضد كثير من الفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي، أعتقد أن ذلك سيلقى طلباً". من المؤكد أن الأمر لن يكون سريعاً أو سهلاً، وسيتعين على الباحثين أولاً إثبات أن اللقاحات الفردية تعمل، ثم إجراء دراسات تظهر أن اللقاحات الجامعة لا تضر بالفاعلية أو تؤدي إلى آثار جانبية مزعجة.
وحتى تستطيع تحقيق رؤيتها، سيتعين على "موديرنا" التحرك بشكل سريع، خصوصاً أن المنافسين يستثمرون بكثافة للحاق بالركب. فعلى سبيل المثال، قالت "سانوفي" في أواخر يونيو إنها تعتزم إنفاق 400 مليون يورو (475 مليون دولار) سنوياً على الأبحاث المتعلقة بالحمض النووي الريبوزي المرسال، مع التركيز على اللقاحات المستقرة ذات الآثار الجانبية القليلة.
هل تعرض لقاح "أسترازينيكا" للتشويه لعدم استهدافه الربح؟
وفي ظل عدم احتمالية الحصول على تصاريح طارئة بالمستقبل، فإن الاعتبارات مثل الآثار الجانبية والملاءمة ستحتل مكانة بارزة جديدة، إذ تعمل "موديرنا" على التخلص من متطلبات التبريد المعقدة الخاصة بجرعات كوفيد التابعة لها. كما سيتعين على المنتجات المستقبلية أيضاً إيجاد طرق للحد من ارتفاع معدلات الشعور بالإجهاد والصداع وآلام العضلات الناتجة عن أخذ الجرعة. وبالنسبة إلى الجرعات المعززة فإن الشركة تجري اختبارات لإنتاج جرعات أقل، يمكنها أن تساعد.
ولا يزال يتعين علينا رؤية إلى أي مدى يمكن أن تتوسع الجرعات القائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال على نطاق واسع إلى ما بعد اللقاحات في سوق العلاجات الأكبر حجماً والأكثر ربحاً. ومن المؤكد أن عقبات تقنية أخرى ستظهر من أجل التغلب عليها، فحتى تتمكن الشركات من علاج الأمراض المزمنة، على سبيل المثال، سيتعين عليها إثبات قدرتها على تقديم العلاجات لأجهزة الجسم المستهدفة وإمكانية إدارة الحمض النووي الريبوزي بأمان.
لقاحات السرطان
ولتطوير لقاحات السرطان، سيتعين على الباحثين المتخصصين في الحمض النووي الريبوزي المرسال حل المشكلة الشائكة المتمثلة في تعليم الجهاز المناعي التمييز بين الأورام المحددة والخلايا السليمة. ومع ذلك فقد فشل في ذلك عديد من الأساليب السابقة.
والخبر السار هو أن قابلية الحمض النووي الريبوزي المرسال للتكيف تُسهّل أيضاً من إمكانية تجربة الاحتمالات المختلفة. ففي غضون بضعة أعوام، يمكن أن يكون لدى "موديرنا" ما يصل إلى 60 عقاراً ولقاحاً، إما في مرحلة التجارب البشرية وإما في مرحلة قريبة من ذلك، حسبما قال بانسل.
وإذا نجح الأمر بالطريقة التي يأملها بانسل، فإن الحمض النووي الريبوزي المرسال سيجعل اختراع اللقاحات والأدوية أشبه قليلاً بخلق البرمجيات. وعن ذلك يقول بانسل: "نستخدم نفس الشفرة المكونة من أربعة أحرف" لكل لقاح وعقار. وأضاف: "يمكننا زيادة عدد المنتجات قيد التطوير بوتيرة لم يسبق لها مثيل".