حلّق ريتشارد برانسون إلى الفضاء ويتبعه جيف بيزوس قريباً. لقد قام أثرياء بمثل هذه الأمور من قبل، لكن برانسون وبيزوس لم يدفعا تعرفة تذكرة، بل ثمن السفن الفضائية بأسرها. لم يعد الأفراد، إن كانوا بالقدر الكافي من الثراء، يدينون بفضل لمركبة حكومية عندما يريدون مغادرة الكوكب لفترة قصيرة.
أطلقت هاتان الرحلتان العنان للآراء، حيث احتفى البعض بالهندسة والمثابرة وراء نقل مجموعة من البشر إلى الفضاء وإعادتهم بأمان، والإعجاب بتوسيع نطاق الممكن. لكنها كانت فرصة لا تقاوم لدى غالبيتهم، للتنفيس عن الإحباط من قيام المليارديرات بأمور لا يقوم بها إلا رهطهم، بدل تركيز ثرواتهم على الوباء، أو تغيّر المناخ، أو أي من الأزمات المستمرة الأخرى هنا على الأرض. الناس يموتون. الكوكب محطم. ربما يتعين على هؤلاء الرجال وزميلهم الملياردير المتحمس للفضاء إيلون ماسك، ترك هوسهم الفضائي لعقدين، والتركيز على بعض اهتماماتنا الأشد إلحاحاً.
كانت البدايات الأولى لشركات الفضاء الخاصة بأولئك الثلاثة مطلع هذا القرن تعتبر دليلاً على أن حديثي الثراء يحلمون بأكبر مما يجب. لكن الآن، رغم بضعة حجج مشروعة حول معدلات الضرائب الفعالة ومن يرسم السياسات العامة، يبدو أن المنتقدين هم أصحاب التفكير الضيق. إن رحلات مرح المليارديرات في الفضاء ليست سوى أجساماً أكثر بريقاً ولمعاناً في مجال أوسع من ذلك بكثير.
الفضاء سلعة
بعد عقود شهدت بدايات لم تكتمل، شرعت عشرات الشركات الخاصة بالاتجار بمدار الأرض وما وراءه بسرعة مذهلة. يتعدى استعداد برانسون وبيزوس للصعود في مركباتهما الفضائية، كونه محض مصادقة على أن سفنهما غدت آمنة بما يكفي حتى يجربوها بأنفسهم. كانت تمثل بشكل أكثر تحديداً إيذاناً بأن الفضاء بات مفتوحاً للنشاط التجاري. حتى لو أن بيزوس قرر التراجع عن رحلته في 20 يوليو، لواصل آخرون التحليق إلى الفضاء، ربما بالآلاف ولأطلقت عشرات آلاف الآلات المصممة لمزيد من تحويل الفضاء إلى سلعة مدرة. ما يحدث فوقنا سيكون أحد أهم القصص الاقتصادية والتكنولوجية في العقد المقبل، سواء استقر ماسك على المريخ أم لا.
ثمة قصص حديثة أقل شهرة عن صناعة الفضاء الخاصة، أولها كان إدراج أسهم شركة "أسترا سبيس" (Astra Space) التي قامت، بدعم من أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية، ببناء صاروخ مداري فعّال في غضون بضع سنوات فقط. كانت تهدف لإرسال أقمارٍ صناعية إلى المدار كل يوم. بعد فترة وجيزة من طرح "أسترا" للاكتتاب العام بقيمة 2.1 مليار دولار، أعلنت شركة "بلانيت لابز" (Planet Labs) لصناعة الأقمار الصناعية، التي تستخدم مئات العيون في السماء لتصوير اليابسة بأكملها يومياً، عن خطط مماثلة بقيمة 2.8 مليار دولار. لدى "فايرفلاي إيروسبيس" (Firefly Aerospace) صاروخ على منصة في كاليفورنيا في انتظار الحصول على تصريح لإطلاقه.
تقوم كل من "ون ويب" (OneWeb) و شركة ماسك "سبيس إكس" بإطلاق أقمار صناعية بانتظام بهدف توفير تغطية للكوكب بأكمله بالإنترنت عالي السرعة. تخطط "روكيت لاب" (Rocket Lab) في نيوزيلندا، التي كانت تخلو من المركبات الفضائية، للقيام باطلاقات إلى القمر والزهرة.
تجار على خطى العسكر
كان جنون شركات الاستحواذ للأغراض الخاصة لطيفاً بشكل خاص تجاه صناعة الفضاء الخاصة، بما في ذلك بعض الشركات المذكورة آنفاً. ساعدت سهولة الوصول إلى الأسواق العامة في جذب مليارات الدولارات من مستثمرين متحمسين إلى صناعة كانت فيما مضى تعتمد على حكومات ذات غايات عسكرية غامضة أو وجهات نظر منفتحة في مجال الأشغال العامة. كنتيجة جزئية لذلك، يتوقع زيادة عدد الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض من حوالي 3400 إلى ما بين خمسين ألفاً ومئة ألف، فيما يتاخم العقد المقبل. يتحقق ذلك بمجرد أن تتمكن هذه الشركات من تلبية طلبات قائمة.
يبدو من المحتمل أن تنخفض التقديرات قليلاً، نظراً إلى أن هكذا أعداد تتطلب إطلاق الصواريخ متتابعةً من المطارات الفضائية الخاصة المزدحمة في جميع أنحاء العالم بوتيرة عالية للغاية. أياً كان توقيت ذلك، الرسالة لن تتغيير، وهي: صناعة الفضاء الخاصة أصبحت واقعاً. يعدّ سباق السياحة الفضائية لهذا الشهر مجرد نافذة عرض لمجموعة أكبر بكثير من التغييرات التحولية. ستكون نتائج هذه التحولات غير متوقعة، باستثناء واحدة وهي استمرار الوجود المرجح للغرور والجشع كما هو الحال دائماً. تشير الأدلة على أرض الواقع إلى أنه علينا التفكير باحتمال أن تصبح هذه الصناعة الناشئة على ما يرام.
كانت الحكومة تملك الأقمار الصناعية فيما مضى وليس نحن. الآن لديها أقمار صناعية أفضل قليلاً. هذا أمر جيد بالنسبة لها لكنه حقاً عديم الأهمية.
بيوت الموت الوثابة
كي نفهم المدى الذي وصلت إليه صناعة الفضاء الخاصة بالفعل ونتعرف على الجانب المثير فعلاً، علينا أن ننظر إلى ديكر إفيليث، الذي كان حتى قبل عدة أسابيع أحد طلاب السنة الأخيرة المجهولين في كلية ريد في بورتلاند، في أوريغون، حيث تسبب عائق صحي في تأخير تخرجه لبضعة أشهر. إفيليث طالب جامعي حاله حل أقرانه باستثناء أنه، سعياً للتسلية، كان يمحص في صور الأقمار الصناعية بحثاً عن مخازن الأسلحة والبنى التحتية العسكرية الأخرى. في الشهر الماضي، اكتشف ما يبدو بوضوح على أنه أزيد من 100 صومعة صواريخ باليستية عابرة للقارات في صحراء في شمال الصين، ما أضفى صدقية لشائعات بأن تلك الدولة تصنع أسلحة نووية بأعداد كبيرة.
سمع إفيليث تلك الشائعات من معلمه جيفري لويس، وهو خبير في الحد من الأسلحة النووية ومتخصص في هذا النوع من استطلاع المواطنين، ويعرف باسم استخبارات المصادر المفتوحة. طلب لويس من الشاب في مايو أن يتحرى ما يمكن العثور عليه. كان إفيليث يعرف نتيجة اكتشاف سابق، أن الجيش الصيني يقوم أحياناً بحفر موقع لبناء صوامع، ثم تغطيتها بهياكل منفوخة تشبه القباب البيضاء الصغيرة المستخدمة في الرياضة في المساحات المغطاة ويسميها لويس "بيوت الموت الوثابة". مضى إفيليث للبحث عن مزيد منها وحول ذلك قال: "كان علي أن أضع سلسلة من الافتراضات. افترضت أنها ستكون في شمال الصين بسبب وجود نشاط كبير هناك. وافترضت أيضاً أنها ستكون في مناطق جميلة مستوية ذات تربة عالية الجودة ".
بحث الطالب في صور أقمار صناعية لآلاف الأميال من الصحراء الصينية، وكان وجود مثل هذه الصور لتلك المنطقة شبه معدوم حتى زمن قريب جداً، حيث كانت أقمار التصوير التقليدية مكلفة وتحتاج إلى توجيه دقيق لتصوير مناطق ذات ميزة وأهمية عالية. أما الآن، التقطت الأقمار الصناعية الأصغر والأرخص سعراً التي أنتجتها"بلانيت لابز" بهدف التغطية العالمية، ما كان يتطلب سنوات من الصور للمنطقة التي أرادها إفيليث، الذي أنشأ بدوره خريطة شبكية، وعمل من خلالها لأكثر من شهر حتى اكتشف مجموعة من حوالي 120 قبة في مكان واحد. ثم قام بفرز الصور من تلك المنطقة حسب التسلسل الزمني وصولاً لما يشبه مشاهدة عرض مسرحي يُظهر تمهيد الموقع وتشييده. عطفاً على ذلك، قال: "كنا نعلم أنه أمر غاية في الأهمية".
عمليات تحت الأرض
طلب إفيليث ولويس في وقت مبكر من يوم 27 يونيو من شركة "بلانيت" التقاط بعض الصور عالية الدقة للموقع فأعاد مهندسو الشركة توجيه الأقمار الصناعية ذات الصلة باستخدام إشارات الراديو من محطات أرضية، وبعد أقل من 24 ساعة، تمكن الرجلان من رؤية لقطات أكثر وضوحاً للقباب، إضافة إلى خنادق لكابلات الاتصالات الخارجة منها، وبدا أنها منشآت لعمليات تحت الأرض. نقل لويس اكتشاف إفيليث للصحافة في أوائل يوليو ووصفت وزارة الخارجية الأمريكية الخبر بأنه "مقلق". بدورها قالت وسائل الإعلام الحكومية الصينية، إن الموقع مجرد مزرعة رياح قيد الإنشاء، لكن الصور من "كابيلا سبيس" (Capella Space) وهي شركة أقمار صناعية ناشئة أخرى، دحضت هذا الشرح. يبدو أن أنظمة شركة "كابيلا"، التي تستند إلى نوع خاص من الرادار، أظهرت مجرى لسوائل يصدر عن القباب وسلسلة من هياكل معدنية عادةً ما تُستخدم في حظائر الأسلحة.
تصعب المبالغة في تبيان ما تمثله هذه الأعين الخاصة من قفزة كبيرة إلى الأمام. عندما ذهبت الولايات المتحدة إلى الفضاء بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل السوفيتية في أواخر خمسينات القرن الماضي، كان عليها استخدام الصواريخ لحمل الأقمار الصناعية الضخمة إلى المدار، حيث التقطت الصور ثم ألقت بعلب الأفلام تجاه الأرض حيث ينبغي على طائرات التقاطها في الجو في عمليات تكاد لا يصدق، ومن الجنوني أن ذلك نجح في بعض الأحيان. تطلب هذا العمل جهود عدد من كبار العلماء والشركات الأمريكية طوال عقد من التجربة والخطأ، ثم قامت فرق مكونة من مئات الأشخاص بدراسة هذه الصور فائقة السرية. بالمقابل، قام إفيليث بالبحث مستخدماً حاسوباً محمولاً في وقت فراغه ويمكن لأي شخص آخر فعل ذات الشيء. قال لويس: "كانت الحكومة تملك الأقمار صناعية فيما مضى وليس نحن. الآن لديها أقمار صناعية أفضل قليلاً. هذا أمر جيد بالنسبة لها لكنه حقاً عديم الأهمية".
العلم بغية العلم
تتركز الحجج التي تناهض التفكير في الفضاء على الإطلاق في الوقت الراهن على العبثية الظاهرية للسياحة المدارية. لخصت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" هذا الخط من التفكير في العنوان الرئيسي لمقال للكاتب الموهوب مايكل هيلتزيك بعنوان "سباق بيزوس-برانسون-ماسك إلى الفضاء هدر مال هائل دونما طائل علمي" حيث استمر هيلتزيك في رفضه موجة التقدم الأخيرة هذه على أنها مجرد بحث عن الإثارة والتشتيت. بغض النظر عن كون الناس ينفقون مليارات الدولارات كل عام لمشاهدة الرياضة ولعب ألعاب الفيديو، فإن أمثلة مثل إيفيليث تعد تذكيراً جيداً بأن التقدم التكنولوجي ليس دائماً طروحات للوصول من نقطة الى أخرى فحسب، وأن العلم ابتغاءً للعلم ما زال ذا قيمة حتى إن كانت الأرباح المستقبلية مجهولة.
إلى جانب البحث عن دلالات على الانتشار النووي، يستخدم الزبائن شبكة "بلانيت" من الأقمار الصناعية لتتبع صحة المحاصيل وانبعاثات المصانع وانحسار الغابات المطيرة. أما الاستخدامات المزرية لشبكات الأقمار الصناعية الخاصة، فتخضع بالطبع لمزيد من التدقيق.
يمكن لخدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية من "سبيس إكس" و"ون ويب" أن تخدم مليارات الأشخاص الذين لا يستطيعون الاتصال عبر النطاق العريض بتوفير طريقة أخرى. يروي نجاح "روكيت لاب" (Rocket Lab)، وهي شركة أنشأها رجل لا يحمل شهادة جامعية علم نفسه الهندسة المطلوبة في مرآب، عن الأثر الكامن في شركات الفضاء الخاصة على تمكين التحول الديموقراطي. يشكل الأثرياء الساعون لتجربة انعدام الجاذبية جزءاً صغيراً نسبياً من هذه الصورة الأكبر.
ما تزال المشاريع القائمة على الفضاء تبدو وكأنها طروحات عالية المخاطر، مع أرباح ضخمة بعيدة عن أن تكون مضمونة. رغم تقدير قيمة شركات مثل "سبيس إكس" و"روكيت لاب" و"بلانيت" بمليارات الدولارات، إلا أنها لم تثبت بعد أنها تستطيع تحقيق ربح في المدار بسلاسة مثل المشاريع التي تتصف بالاستقرار على الأرض. يحب المنخرطون في هذه الصناعة مقولة أن الفضاء صعب، لكن المجموعة الجديدة من شركات الفضاء، بما في ذلك تلك التي يديرها أقطاب مال بارزين، تحاول اكتشاف ذلك. والمكافآت التي تكمن في ذلك أكبر بكثير من مجرد اندفاع أدرينالين عرضي.
لا ينفك الناس عن إذهالنا لدى فتح مخيلاتهم وإبداعهم على مجالات جديدة للعب والاستكشاف. تثبيط الرحلات الجوية تحت المدارية أو القمرية ما هو إلا تفويت لمغزى هذه الممارسة. نعم، نحن نواجه مشاكل كبيرة، لكن هذه المشاكل لن يحلها أشخاص يلوون رؤوسهم إلى الداخل تأسياً على ابتلاءاتنا الجماعية. ستكون فرصنا أفضل بكثير عندما ينظر الناس إلى أعلى بفضول متسائلين "ما التالي؟"