وقع فشل استخباراتي وكان هو السبب الرئيس، إذ كانت هنالك قناعة في مختلف أجزاء المؤسسة الأمنية أن العدو المجاور قد رُدع، ورغم أنهم رصدوه يقيم تدريبات عسكرية، كانت هنالك قناعة بأنه لن يُقدم على الهجوم.
حين تدفق المهاجمون على إسرائيل، حيث كان جنودها يمضون عطلة يهودية في منازلهم، سرعان ما تصاعد عدد القتلى والدمار. اضطرت إسرائيل لأن تعتمد على الولايات المتحدة لتمدها بالمعدات والذخيرة، وقال قادتها إن ذلك كان درساً مفاده أن على بلادهم أن تزيد استعداداتها وإنفاقها العسكري بشدة.
قد يبدو ما سلف وصفاً لحال إسرائيل اليوم في حربها العاتية على حركة حماس في غزة. لكن في الواقع هو سرد لحرب 1973 حين انطلقت دبابات سوريا عبر مرتفعات الجولان في يوم عيد الغفران اليهودي دون أن تجد من يصدها، وبعد 18 يوماً من القتال الدموي الضاري، أمضت إسرائيل سنوات في سعي لإعادة التوازن بين الدفاع والتنمية.
ينظر الاقتصاديون لما حدث آنذاك على أنه حكاية تروى للحثّ على الحذر. إن الإصرار على ألا تؤخذ إسرائيل على حين غِرّة مرة أخرى أدى إلى زيادة هائلة في الإنفاق العسكري، الذي بلغ متوسطه نحو 29% من الناتج المحلي الإجمالي بين 1973 و1975. كانت التداعيات مدمرة، فقد نما العجز الحكومي إلى 150% من الناتج المحلي الإجمالي فتسبب بتضخم سنوي بلغ 500%.
انتهت تلك الفترة، التي تُعرف في الدوائر الاقتصادية باسم "العقد الضائع" في الثمانينيات حين استعانت البلاد بخبراء من الخارج لصياغة إصلاحات صارمة خفضت إنفاق الدولة بشدة، وساهمت باستقرار الشيكل وجذبت الاستثمارات الأجنبية.
الحرب الأعلى تكلفة
إن إسرائيل دولة مختلفة جداً اليوم عما كانت عليه حينذاك، لكن أوجه التشابه لا يمكن إغفالها. الحرب في غزة هي الأعلى تكلفة في تاريخها، وقد أشارت تقديرات المصرف المركزي إلى أن إجمالي تكلفة الحرب ستبلغ 250 مليار شيكل (67.4 مليار دولار) حتى 2025، وقد شهد الربع الرابع من 2023 تراجعاً سنوياً بلغ 21.7% في إنتاج الاقتصاد.
كان الإنفاق الدفاعي قبل الحرب عند أدنى مستوياته على الإطلاق، إذ بلغ 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن التوقعات تشير إلى أنه سيرتفع إلى مثليه هذا العام ليبلغ 9%، وفقاً لمانويل ترايتنبرغ، الأستاذ المتقاعد بكلية الاقتصاد في جامعة تل أبيب.
بالمقارنة، تبلغ نسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 3.4%، وفي ألمانيا 1.5%، وفقاً لبيانات جمعها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. قال ترايتنبرغ: "الاختبار الحاسم سيكون قدرة الحكومة على خفض نسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات معقولة خلال بضع سنوات، وإلا فإننا قد ننزلق نحو عقد ضائع آخر".
قال بعض الباحثين إن إسرائيل التي كانت في 1974 معزولة وفقيرة وتهيمن الحكومة على اقتصادها، كانت أسوأ حالاً بكثير لدرجة أن المقارنة مضللة. خلال الـ15 عاماً السابقة، ارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل متخطية نظيراتها في بريطانيا وفرنسا واليابان. ارتفع عدد الشركات متعددة الجنسيات التي تدير بعض عملياتها في البلاد إلى أكثر من 400 شركة، بعدما كان أقل من 150.
قال دايفيد برودت، المدير العام السابق لوزارة المالية، إن إسرائيل كان لديها مخزون كبير من احتياطيات العملة الأجنبية وديون حكومية منخفضة حين دخلت الحرب الحالية، وكانت نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 62%، وتشير التوقعات الآن إلى ارتفاعها إلى 67%.
مخاطر متعددة
لكن بعض الخبراء يحذرون من خطر يواجه فترة النمو المتواصلة في البلاد، التي استمرت لأكثر من عقدين دون عرقلة إلا من الجائحة. ربما يكون أكبر المخاطر هو عكس مسار تدفقات الاستثمارات في قطاع التقنية فائق الأهمية إذا ما انسحبت الشركات الدولية العملاقة من البلاد، واتجهت الشركات الناشئة إلى مناطق أخرى بحثاً عن العاملين.
قال دان بن ديفيد، المتخصص في الاقتصاد الكلي الذي يدير "معهد شوريش"، وهو مركز لأبحاث السياسات في تل أبيب: "لا يمكننا حتى أن نبدأ في حصر أعداد من قرروا عدم الاستثمار في إسرائيل على المدى القصير، ناهيك عن الاستثمار الدائم".
قال غاد يائير، خبير علم الاجتماع بالجامعة العبرية في القدس: "على النقيض من كل الحروب الأخرى تقريباً في تاريخنا، لن تكون هذه فترة قصيرة الأمد يمكننا أن نتعافى منها سريعاً. سيمتد ذلك الوضع لفترة تبلغ عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقل، فيما ندرس كيف ندافع عن الحدود".
بالإضافة إلى حركة حماس، التي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، تواجه إسرائيل تهديدات أمنية من جماعات مسلحة تدعمها إيران منها "حزب الله" في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن.
تراجع الثقة
قال تسفي إكشتاين، الذي يعمل في جامعة رايخمان، إن الحفاظ على النجاح الذي حققته إسرائيل من حيث تصدير التقنية يعتمد على الاستثمار المتواصل في قوة العمل عالية النوعية.
لكن قطاعات مثل التعليم والصحة، التي لا تستثمر إسرائيل فيها بشكل كافٍ مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، إلى جانب قطاعي النقل والرفاه الاجتماعي، هي تحديداً القطاعات التي ستستهدفها تخفيضات الإنفاق خلال السنوات المقبلة، حيث يتطلع صنّاع السياسات لتوفير الأموال للتحديثات العسكرية.
قالت كارنيت فلوغ، محافظة بنك إسرائيل السابقة التي تعمل حالياً في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، إنه في ظل التراجع الشديد في ثقة الجمهور بالحكومة المركزية، ينبغي نقل ميزانيات التعليم والرفاه إلى البلديات، التي يجب أن تحصل على قدر أكبر من السلطة في تقديم الخدمات.
أحدثت الحكومة تخفيضات متواضعة في الإنفاق حتى الآن، وفرضت ضرائب جديدة، لكنها تعتمد في الأغلب على مبيعات السندات لتغطي عجز الميزانية المتعاظم، وهي خطوة يعتبرها اقتصاديون غير مستدامة.
انقسامات داخلية
الضغوط على الميزانية بسبب الحرب تبرز انقسامات المجتمع الإسرائيلي، حيث تساهم الشريحة العليا، التي تمثل خُمس السكان، بنسبة 60% من إجمالي الإيرادات من الضرائب المباشرة. كما أن تلك الشريحة تمثل أساس قوات الاحتياط في الجيش. حين شنّت حماس هجومها وسارع 300 ألف جندي من قوات الاحتياط للمشاركة في الحرب، عانى قطاع التقنية نقصاً مفاجئاً في العمالة، وخسرت شركات في تل أبيب ومحيطها بعض أفضل زبائنها.
يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضغوطاً متزايدة ليخفض جانباً من حجم الإنفاق البالغ قيمته مليارات، والتي كان قد خصصها للأحزاب المتشددة واليمينية في حكومته الائتلافية.
حذر خطاب موجّه للحكومة وقّع عليه عشرات الاقتصاديين من "دوامة انهيار" تشهد اتخاذ مواطني إسرائيل الأفضل تعليماً والأعلى دخلاً قرار الهجرة، بدل أن يتحملوا عبء دعم المتشددين وعائلاتهم الكبيرة. طالب الخطاب بإيقاف تقديم الدعم الحكومي للمدارس التي لا تدرب الطلاب لولوج سوق العمل الحديثة، وإلغاء الإعفاء من التجنيد الإلزامي للمتشددين.
تعتقد الأغلبية أن تحقيق تغيير كهذا سيتطلب انتخابات، لكن ليس هنالك انتخابات في الأفق. رغم أن كثيرين يعتقدون أن نتنياهو الماكر قد استنفد جميع فرص إعادة انتخابه، ليس هنالك ما يضمن أن رئيس الوزراء الذي سيخلفه مستقبلاً سيتمكن من الحكم دون دعم الأحزاب اليمينية. قال برودت، المسؤول السابق بوزارة المالية: "إذا هيمن المتطرفون والمتشددون على الحكومة المقبلة أيضاً، فقد لا نواجه عقداً ضائعاً واحداً بل عدة عقود ضائعة".