على مدى السنوات الست الماضية، خاضت كاري ريتش تجربة يخشاها كل أب وأم، فابنتها تعاني نوعاً من التوحد بسبب مرض وراثي نادر، وتتحرق ريتش لتساعد ابنتها على دفع آثار هذا الشذوذ الوراثي، الذي أفقدتها النطق وحدّ من قدراتها على الحركة والتفاعل كما يفعل أقرانها في سن السابعة.
قالت ريتش: "لقد تحدثت إلى باحثين وعلماء وأكاديميين ورواد أعمال ورواد في مجال العمل الخيري ومستثمرين وآباء في كل أنحاء العالم. لقد تحدثت حقاً إلى كل من وافق على أن يتحدث معي. كنت آمل حقاً أن أجد من يمكنه أن يدلني على مسار تقدم إيجابي".
لكن ريتش لم تتلق سوى ما ساءها من إجابات في غالب الأحيان. وجدت ريتش أسراً تواجه ظروفاً مشابهة وقد أفلست أو تفرقت بسبب الآمال الكاذبة. كان مؤلماً أن ثمّة مؤشرات قليلة على أن علاجاً ما قد يُتاح لابنتها في أحد الأيام.
لكن في العام الماضي، توصل علماء في كاليفورنيا كانوا قد طوروا برنامجاً جديداً لفحص العقاقير، إلى دواء كانوا يعتقدون أنه قادر على مساعدة ابنة ريتش. بدأت الفتاة في تناول الدواء في ديسمبر، وتشير البوادر الأولية إلى نجاعته.
بارقة أمل لذوي الأمراض النادرة
قالت ريتش: "ابنتي أصبحت تستجيب بقدر لم تكن عليه قبلاً... لديها بيانو إلكتروني تحب أن تعزف عليه، وقد بدأت توصله بالكهرباء بنفسها. لم تكن تدرك سابقاً أن البيانو كان يحتاج لأن يوصل بالكهرباء".
أضافت: "كان ما أثّر فيّ هو اللحظة التي رددت ابنتي فيها من دون تحريض مني عبارة أنا أحبكِ. كانت ابنتي عاجزة عن النطق، فكان نطقها لأكثر من كلمة ولهذه الكلمات تحديداً يسعد قلبي".
اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي أبرع من البشر في تسريع اكتشاف الأدوية؟
وفقاً لمعاهد الصحة الوطنية، يعاني نحو 400 مليون شخص حول العالم من مرض نادر، وهو أي مرض يؤثر على أقل من 200 ألف شخص. هناك 10 آلاف مرض نادر معروف، ويصيب ثلثاها الأطفال، كما أنه يستحيل معها أن يعيش الشخص حياة طبيعية. نحو 30% من الأطفال الذين يعانون من أمراض نادرة لا يعيشون لأكثر من 10 سنوات.
لكن رغم أن هناك ملايين الناس ممن يحتاجون إلى علاجات، فإن المحدودية النسبية في عدد من يعانون من أحد هذه الأمراض يُعقّد الحسابات الاقتصادية لشركات صناعة الأدوية. ترفض تلك الشركات في كثير من الأحيان أن تستثمر في البحث والتطوير والتجارب السريرية المتعلقة بأمراض نادرة، لأنها لا تعتقد أنها ستحقق أرباحاً كافية لتبرير النفقات.
نشاط جديد
قررت شركة "ترانسكريبتا بيو" (Transcripta Bio)، التي تأسست قبل أربعة أعوام، أن تجعل نشاطها الأساسي يتمحور حول الأمراض النادرة. بدأت الشركة، ومقرها وادي السيليكون، العمل مع الأسر واحدة تلو الأخرى، بهدف البحث عن الأسباب الجينية الكامنة وراء عدد من الأمراض، وعن أي علاجات قد تكون مفيدة. كان أحد اكتشافات "ترانسكريبتا" هو العقار الذي تتناوله ابنة ريتش.
قالت الشركة إن تقنيتها تترتب عليها آثار أوسع نطاقاً. طورت الشركة نظاماً يمكنه أن يبحث في آلاف العقاقير المطروحة في الأسواق، وأن يتنبأ بما إذا كان يُرجّح أن يخفف أي منها من حدة أي مرض من بين مجموعة مختلفة من الأمراض، وذلك بدعم من التطورات في آلات تسلسل الحمض النووي وتقنيات فحص العقاقير وبرمجيات تعلم الآلة.
اقرأ أيضاً: تطوير الذكاء الاصطناعي للعقاقير قد يُدر 50 مليار دولار
تُعتبر الشركة، التي كانت تُعرف سابقاً باسم "رير بيس بي بي سي" (Rarebase PBC)، صغيرة جداً في عالم تصنيع الأدوية. كما أنها مدعومة بتمويل قدره نحو 30 مليون دولار، ومنها 10 ملايين دولار من جولة تمويل استثماري حديثة، وتسعى الشركة لأن تثبت نجاح تقنيتها وتبحث عن علاجات جديدة.
جهود الباحثين
على مر السنين، تمكن الباحثون من اكتشاف الأسباب الجذرية وراء كثير من الأمراض النادرة. يمكن أن نُرجِع نحو خمسي تلك الأمراض إلى خلل في الجينات الفردية، كما أكثر من ذلك عن عدد محدود من طفرات جينية لانمطية. تفتقر ابنة ريتش إلى نصف الشفرة الجينية في اثنين من جيناتها. كانت هذه البيانات، التي كان كثير منها متاحاً دون مقابل، هي أساس الاكتشاف الدوائي الذي حققته "ترانسكريبتا".
تستخدم الشركة أولاً برنامجاً لتحدد المركّبات الواعدة ثم تختبرها على خلايا بشرية منتجة مخبرياً. من خلال متابعة الجينات التي تساهم العقاقير في تحسينها أو تثبيطها في المختبر، تسعى "ترانسكريبتا" لتحديد ما إن كان يخفف وطأة مرض وراثي نادر.
اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تزمع إنتاج أدوية في مدار الأرض
هذا الأسلوب ليس جديداً بحد ذاته. تركز شركات صناعة الأدوية عادةً على مرض تحاول علاجه وتجري تجارب لترى ما إذا كان عقارها يعمل على الجينات المرتبطة بهذا المرض. لكن الشركات لا تميل لأن تنظر لأبعد من مجال تركيزها الأساسي، رغم أن الحبوب والحُقن تؤثر عادةً على عشرات إلى مئات الجينات الأخرى.
أهداف التوسع
على مدى السنوات القليلة الماضية، انخفضت بشدة تكلفة إجراء عمليات التسلسل الوراثي والتجارب المرتبطة بها للبحث عن تلك التأثيرات الإضافية. في مختبر كلفها نحو مليوني دولار، تستطيع "ترانسكريبتا" أن تجري فحوصاً لجميع أنواع الأمراض الوراثية النادرة المعروفة.
يشبه ذلك السعر ما كانت تدفعه الشركات التقليدية لصناعة الأدوية منذ أمد غير بعيد لمجرد أن تباشر أبحاثها على عقار واحد يستهدف مرضاً واحداً. قالت "ترانسكريبتا" إن ريتش دفعت للشركة مقابل عملها على إيجاد علاج لابنتها، لكنها رفضت أن تفصح عن المبلغ.
اقرأ أيضاً: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي تخفيف معاناة من فشل الطب بعلاجهم؟
قال كريس موكسهام، الرئيس التنفيذي وكبير العلماء في "ترانسكريبتا": "الأمر أصبح الآن أكثر كفاءة في ما يخص رأس المال. فالأمر لا يتعلق بمرض واحد في كل مرة، بل سيكون لدينا ملف يضم مئات البرامج في آن". تكشف ورقة بحثية نُشرت في 2018 عن بعض أساليب الأبحاث الأساسية التي أدت لتحقيق إنجازات في ما يتعلق بالتكلفة.
حتى الآن، كشفت الأساليب التي تنتهجها "ترانسكريبتا" عن خمسة عقاقير لديها القدرة على علاج أمراض أخرى، كما تعمل الشركة مع المرضى وأطبائهم لقياس تأثير تلك العقاقير. إن الحكومة الأميركية عادةً أكثر تساهلاً مع التجارب حين يكون دواء ما قد اعتُبر آمناً، ويُستخدم لعلاج مرض مدمر بدائل علاجه محدودة أو معدومة.
استغلال إمكانيات العقاقير
"ترانسكريبتا" ليست المؤسسة الوحيدة التي تتبع هذا النهج. على سبيل المثال، لدى شركتا "بيرلارا" (Perlara) و"إيفري كيور" (Every Cure) أهداف وتقنيات مماثلة. حصلت "إيفري كيور"، وهي منظمة غير ربحية، هذا العام على عقد بقيمة 48.3 مليون دولار لمدة ثلاث سنوات من وكالة "أدفانسد ريسيرش بروجكتس إجنسي فور هيلث" (Advanced Research Projects Agency for Health) الأميركية "بهدف استغلال كامل إمكانيات العقاقير الموجودة في السوق من أجل علاج مزيد من الأمراض".
إن طموحات موكسهام لـ"ترانسكريبتا" لا تقتصر على إعادة استخدام العقاقير الموجودة لعلاج أمراض غير التي تعالجها بالأساس. قال موكسهام إن الشركة ستعمل مع شركات صناعة الأدوية لتحليل مركّبات لم تنجح في التجارب السريرية لتكشف ما إن كانت تلك المركّبات من شأنها أن تعالج أمراضاً أخرى. كما يراهن موكسهام على أن تقنية "ترانسكريبتا" ستساعد على تصميم أدوية جديدة تماماً.
اقرأ أيضاً: رئيس "بيوجين" يريد عقاقير ريادية لكن ليس على حساب الربحية
قال جون لي، وهو مستثمر في "جاز فينتشر بارتنرز" (Jazz Venture Partners) التي استثمرت في "ترانسكريبتا": "لم نعلم عن إمكانية هذه المنصة إلى أن حصلنا على البيانات التي تخص الفحوص الأولية. رأينا نتائج عدة في نواحٍ مختلفة. جعلنا ذلك واثقين من أن بإمكاننا أن نسعى وراء مؤشرات أكبر كثيراً من الأمراض النادرة والعلل التي تؤثر على ملايين الناس".
ركزت "ترانسكريبتا" حتى الآن على الاضطرابات العصبية، لكنها تتوسع سريعاً لتتناول أمراض الجلد والعيون والقلب.
بالنسبة لريتش، فإن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مدى فاعلية العلاج الجديد لابنتها. أكدت اختبارات الدم الحديثة أن العقار قد سرّع وتيرة العمليات التي تحدث داخل جسم الفتاة، وتأتي هذه البيانات كإضافة على ما لاحظته ريتش في المنزل والتي أبلغها عنها مدرّسو الطفلة. قالت ريتش: "ربما تبدو آمالنا وتطلعاتنا بدائية إلى حد كبير، لكننا نود أن تتمكن طفلتنا من التعبير عن احتياجاتها وعن نفسها، وأن تروي حكايتها بنفسها".