على مدى ست سنوات خلت، صارت شركة "جي42" (G42) الظبيانية الناشئة تكتلاً تقنياً بادي النجاح وله مجموعة واسعةً من المنتجات تشمل النماذج اللغوية الكبيرة وعلم الجينوم البشري ومركبات الفضاء.
برغم أن شهرة ""G42"" تكاد تقتصر على الشرق الأوسط، إلا أنها وثيقة الصلة مع بعض كبريات شركات التقنية والذكاء الاصطناعي الأميركية، ومنها "أمازون دوت كوم" و"أوبن إيه آي" (OpenAI).
أتت الشركة لحظةً حاسمةً في 16 إبريل حين كشفت "مايكروسوفت" عن حيازة بقيمة 1.5 مليار دولار في "G42". وقال بينغ شياو، رئيس "G42" التنفيذي، في مقابلة مع بلومبرغ نيوز قبل الإعلان: "اخترنا (مايكروسوفت) شريكاً رئيسياً لنا. نشعر بالفخر الشديد لأن لديهم الشعور نفسه".
كانت العلاقة الجديدة لافتة لنظر المهتمين بصعود "G42"، التي تحيط بها آليات جيوسياسية دقيقة منذ نشأتها، لأنها ليست شركة ناشئة عادية في مجال التقنية، فرئيسها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان هو من أقوياء رجال الأسرة الحاكمة في أبوظبي وشخصية مؤثرة في التمويل العالمي وأمن الخليج العربي. أما "G42" ومجموعة الكيانات المتنامية المرتبطة بها، فهي جزء من إمبراطوريته المؤسسية التي يبلغ حجمها 1.5 تريليون دولار، وهي حجر أساس لخطط الإمارات لتجعل الذكاء الاصطناعي في قلب مستقبلها الاقتصادي.
لكن في الولايات المتحدة، الأهم كان روابط "G42" بالصين. فقد بدأت الشركة الإماراتية عملها في مجال تحليل البيانات والمراقبة في بلد لا تتضح فيه الخطوط الفاصلة بين الدولة والقطاع الخاص، ولم يكن لدى شركات رئيسية في هذه القطاع مآخد على العمل مع شركات صينية. تعاونت"G42" مع شركات طبية صينية في اختبارات كوفيد-19 ولقاحاته، واشترت معدات إلكترونية من موردين صينيين ومولت بشكل مباشر عدة شركات صينية ناشئة، منها "بايت دانس" (ByteDance) ، مالكة منصة "تيك توك" للمقاطع المصورة القصيرة.
قلق أميركي
عندما بدأت "G42" تبرم صفقات مع شركات أميركية لبيع خدمات الذكاء الاصطناعي وبناء كمبيوترات عملاقة، ساور القلق مسؤولين أميركيين من أنها قد تفتح أبواباً خلفيةً لحكومة الصين، خاصة حين بدأت تتحرك بسرعة نحو الحوسبة السحابية والرقائق، وهي اللبنات الأساسية للذكاء الاصطناعي المتقدم.
في يناير، دعا مايك غالاغر، رئيس اللجنة المعنية بدرء التهديدات المتأتية من الصين بصفته عضواً جمهورياً في الكونغرس الأميركي إلى النظر في فرض عقوبات ما لم تتخارج "G42" من استثماراتها الصينية وتقطع علاقاتها مع موردين صينيين مثل "هواوي تكنولوجيز".
كان مسؤولو المخابرات الأميركية يركزون اهتمامهم بشكل خاص على شياو، بحسب أشخاص ذوي معرفة مباشرة بالأمر طلبوا عدم كشف هوياتهم لأنهم غير مخولين بالحديث علناً. شياو هو خبير تقني ولد في الصين وتلقى تعليمه في الولايات المتحدة وعمل في شركة "مايكرو استراتيجي" (MicroStrategy) ، وهي شركة لاستخبارات الأعمال في ولاية فيرجينيا، حيث ظل بعيداً عن الأضواء. وحصل على الجنسية الأميركية، لكنه تخلى عنها بعد انتقاله إلى الإمارات في 2015.
وقال شياو في مقابلة مع "بلومبرغ نيوز" هذا العام إنه انتقل إلى الدولة الخليجية بعدما استعان به صديقه يوسف العتيبة، سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة ونجل أحد أساطين النفط، ليقود شركة "بيغاسوس" (Pegasus)، وهي وحدة تابعة لشركة الأمن الإلكتروني "دارك ماتر" (DarkMatter) التابعة لجهاز الأمن الوطني الإماراتي.
شياو موضع تدقيق أميركي
وفي نوفمبر 2023، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لديها ملف سري عن شياو، وهو رجل خمسيني شديد الاهتمام بالرياضة ويحب ارتداء البذات الأنيقة. قالت "G42" حينها إنها "ستستمر بالامتثال الكامل" للوائح الأميركية.
لكن شياو وقادة أبوظبي تمكنوا من التوصل إلى تدبير هادئ مع الولايات المتحدة لتخطي احتدام الندية بين القوتين العظميين. في الصيف، توجه مسؤولون من مكتب الصناعة والأمن الأميركي، وهو وكالة تراقب ضوابط التصدير والمعاهدات، إلى الإمارات لعقد سلسلة اجتماعات خاصة مع شياو وممثلين آخرين عن "G42"، بحسب أشخاص مطلعين على المناقشات. وقد نبه الجانب الأميركي إلى أن الولايات المتحدة في حرب اقتصادية مع الصين، وأنه ينبغي أن تختار "G42" بين واشنطن وبكين. لم يستجب مكتب الصناعة والأمن الأميركي لطلبات التعليق.
في الأشهر التي تلت ذلك، أعلن شياو أن "G42" تصفي ممتلكاتها الصينية وتزيل الشركات الصينية من سلسلة التوريد لديها. وفي الخريف، قال طلال القيسي، نائب الرئيس التنفيذي في "G42" في مقابلة ، إن الشركة ستحد من أي شراكات مع قطاع التقنية الصيني. وأضاف: "لنعبر عن الأمر كما يلي... سنصعب الأمور على أنفسنا كثيراً لو توسعنا في ذلك بأي طريقة".
وقال متحدث باسم "G42" لبلومبرغ نيوز الأسبوع الماضي إن التخارج من الاستثمارات جاء رغبة في "الشراكة مع شركات تقنية الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوراً في العالم". ورفضت الشركة الإجابة على الأسئلة حول ذلك التصريح.
كان استثمار "مايكروسوفت" مكافأةً ملموسةً على قرار الانفصال عن الصين. وفي صورة فوتوغرافية مرفقة بالخبر، ظهر شياو جالساً إلى طاولة يوقع أوراقاً بجوار براد سميث، رئيس "مايكروسوفت" الذي بات عضواً في مجلس إدارة "G42" وبدا الشيخ طحنون في الصورة مستبشراً فيما كان يقف خلفهما.
نفوذ الإمارات
خلال مقابلة مشتركة، أوضح سميث وشياو أنهما "تعاونا عن كثب" مع حكومتي الولايات المتحدة والإمارات. ووصف سميث الاتفاق بأنه "خطوة أولى" للشركتين، وألمح إلى خدمات في أفريقيا وآسيا الوسطى، وهي المناطق الجغرافية التي يساور القلق فيها الولايات المتحدة إزاء النفوذ الصيني المتزايد. وقال سميث: "هذا نوع الشراكة التي يمكن أن توفر الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي إلى دول جنوب العالم، ربما أسرع بعقد مما كان سيحدث لو كانت الظروف مغايرة".
توضح قدرة "G42" على تحقيق ذلك حجم النفوذ الذي تتمتع به شركة قوية من قطاع التقنية بمنطقة الخليج خلال الحرب الأميركية الباردة الحالية. يُنظر للإمارات العربية المتحدة، وهي حليف عسكري رئيسي للولايات المتحدة، على أنها قوة اعتدال في الشرق الأوسط الذي يتزايد اضطراباً.
وتدير إمارة أبوظبي الغنية بالنفط 3 صناديق سيادية، ما يجعلها محطة جذب متكررة لمصرفيين وأصحاب رأس المال الجريء وأقطاب قطاع التقنية. في نفس وقت التقاط صورة شياو وسميث تقريباً، زار سام ألتمان من "أوبن إيه آي" أبوظبي ليطرح تشكيل تحالف عالمي لتصنيع رقائق وبناء مراكز بيانات لدعم برمجيات الذكاء الاصطناعي. أشار ألتمان خلال زيارة سابقة إلى أن البلاد كانت تتحدث عن الذكاء الاصطناعي "قبل أن يكون محط الأنظار".
رؤية أبوظبي
تتجلى الرؤية الواسعة لدرة تاج الذكاء الاصطناعي في أبوظبي في اسمها. يشير رقم "42" إلى فيلم الخيال العلمي الكلاسيكي من دوغلاس آدامز (The Hitchhiker's Guide to the Galaxy)، حيث يشير الرقم إلى إجابة سؤال حول معنى "الحياة والكون وكل شيء". (أما حرف G فهو أول أحرف كلمة مجموعة بالإنكليزية).
لدى الشركة أقسام منفصلة يختص كل منها على مجال بعينه. حيث تركز "خزنة" على مراكز البيانات، و"كور42" على الحوسبة السحابية أما "بري سايت" فمجالها هو التحليل التنبؤي، كما تعمل الشركة على استحداث قسم للتحليل الجغرافي المكاني والأقمار الصناعية باسم "سبيس42". وتتعاون "G42" أيضاً مع حكومة الإمارات العربية المتحدة بمجال تسلسل الحمض النووي للسكان الإماراتيين تحت وحدة للصحة تسمى "إم42".
وقال عاملون سابقون لدى "G42" طلبوا عدم ذكر أسمائهم حفاظاً على علاقاتهم بالشركة، إن ضعفها قد يكون ناجماً عن عدم التركيز، مستشهدين بعدة مشاريع أُعلنت عنها لكن سرعان ما خبت جذوتها. لا تكشف "G42" عن حجم مبيعاتها، رغم أن بعضاً من أكبر تابعاتها تفعل ذلك، وهذه الوحدات، مثل "بري سايت"، تعتمد بصورة هائلة على عقود مع حكومة أبوظبي ومستثمرين مؤسسيين.
كشف مشروع تسلسل الحمض النووي عن قدرة محدودة لـ"G42" على الإبحار وسط تلاطمات الندية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. عندما بدأت "G42" برنامج علم الجينات، استخدمت معدات طبية لتسلسل الجينات من "أكسفورد نانوبور تكنولوجيز" (Oxford Nanopore Technologies) البريطانية و"إيلومينا" (Illumina) في الولايات المتحدة و"بي جي آي جينوميكس" ومقرها في الصين. وقد تفشى وباء كوفيد بعد فترة وجيزة، فخصصت "G42"، مثل شركات أخرى، جهوداً للتصدى للوباء. وبدأت تستخدم معدات من "بي جي آي" لاختبارات إصابة الإماراتيين بالمرض.
اعتراضات أميركية
احتجت الولايات المتحدة على استخدام تقنية صينية الصنع، حيث أطلق أحد المسؤولين على "بي جي آي" وصف "هواوي الجينوم". أما ما فاقم التعقيدات في وجه "G42" فكان دعوى قضائية رفعتها "إيلومينا" ضد "بي جي آي" جراء نزاع حول براءة اختراع. بعد هاتين الحادثتين، أسست "G42" جدار فصل داخلي.
فبات يمكن لموظفيها الصينيين التعامل فقط مع آلات وبيانات "بي جي آي"، أما الأميركيين فلهم فقط أن يلمسوا معدات "إيلومينا"، وعملت الفرق في منشآت منفصلة، حسبما ذكر نيتين ساكسينا، العالم الذي أدار برنامج الجينوم لدى "G42". وقال: "كان الوضع فوضوياً تماماً". (فرضت الولايات المتحدة عقوبات على "بي جي آي" خلال 2023). أضاف ساكسينا، الذي غادر الشركة خلال 2022، أن برنامج الجينوم لدى "G42" ما يزال بمقدوره أن يُحدث تطوراً كبيراً بمجال الطب والصحة، لكن الشركة قللت من شأن النتائج السلبية للعداء الأميركي للتقنية الصينية. ونوه إلى أن الإمارات "عالقة في الوسط".
لم يكن اتخاذ "G42" قرارها بقطع العلاقات مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم هيناً. تبلغ تكلفة إزالة الأجهزة الصينية مئات ملايين الدولارات، وهي خسارة أبلغت الشركة المسؤولين أنها على استعداد لتحملها لأجل الشراكة مع الولايات المتحدة، بحسب أشخاص مطلعين على شؤون الشركة. كان شياو نفسه يرسل رسائل تبرز ضرورة إصلاح العلاقات مع واشنطن لتحقيق طموحات "G42" التي تشبه الخيال العلمي.
حالياً، يبدو أن "G42" ورئيسها التنفيذي خرجا من فترة حرجة واكتسبا تأثيراً أكبر مما كان لهما قبلاً، بحسب مسؤول أميركي مطلع على العمليات التجارية، وهو غير مخول بمناقشة الأمور الدبلوماسية، فطلب عدم ذكر اسمه.
خلال الشهور الأخيرة، فاز شياو بمقعد في المجلس الإماراتي الجديد للذكاء الاصطناعي وفي مجلس إدارة شركة "إم جي إكس" (MGX)، وهي ذراع استثمار إماراتي جديد يهدف لإنفاق نحو 100 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي.
اتفاق مايكروسوفت
ليس مؤكداً أن تُبدد تعهدات "G42" بالتخارج صينياً وتحالفها مع "مايكروسوفت" كافة المخاوف الأمنية الأميركية إزاء الشركة وشياو. يدرس بعض أعضاء الكونغرس الأميركي الدعوة إلى جلسة استماع لإحاطة استخباراتية حول اتفاق "مايكروسوفت"، بحسب مساعد في الكونغرس على دراية بالمناقشات.
لكن بالنسبة لبعض المسؤولين الأميركيين، فإن فوائد وجود حليف ثري في مجال التقانة تستحق المخاطرة. إن منطقة الخليج هي أحد المواقع القليلة خارج تايوان التي تملك المال والنباهة لصنع أو تمويل أشباه الموصلات. وقال مايك راوندز، السيناتور الجمهوري عن ولاية ساوث داكوتا: "الحقيقة هي أننا نحتاج لمزيد من الرقائق". ودعا راوندز في خطاب في واشنطن خلال 2022 بلاده للاستثمار في الذكاء الاصطناعي بشغف "يساوي أو يفوق" مشروع مانهاتن. قدم راوندز نموذجاً يصلح لأميركا أن تتبعه وكان ذلك: الإمارات العربية المتحدة و"G42".
حتى غالاغر، الذي كان شديداً في انتقاد "G42"، رحب بأخبار اتفاق "مايكروسوفت" وقال: "تحتاج أميركا لانضمام الإمارات إلى فريقنا".