يعلو هدير الآلات في مستودع ضخم على تخوم البركان القابع في أفق سان سلفادور، عاصمة السلفادور، حيث تدأب براثنها المعدنية على تمزيق رزم الأقمشة لتحيلها أكواماً من القطن والبوليستر.
هذه الألياف هي لقيم خط إنتاجٍ ثانٍ يغزل النسلات التي تشبه الأرياش ليجعلها خيوطاً ملفوفة على بكرات حتى تُنسج منها لاحقاً أقمشة بألوان شتى تُنتج منها القمصان وملابس النوم والسترات، وغيرها من الألبسة التي ينتهي بها المطاف في متاجر الولايات المتحدة. كن على ثقة أن كثيراً من هذه الألبسة سيكون مآلها إلى نفس المعمل كرةً أخرى لتُمزّق وتعاد حياكتها.
جذور فلسطينية
تدير المعمل شركة "إنتراديكو" (Intradeco) العائلية الضخمة وتعود جذورها إلى مهاجرين فلسطينيين قبل نحو قرن. نمت الشركة على مدى عقود لتصبح واحدة من أكبر منتجي النسيج في المنطقة، وتوسّعت حديثاً نحو صناعة الملابس الجاهزة لصالح شركات مثل "أمازون" و"تارغت" و"وول مارت"، حيث قاربت مبيعاتها 800 مليون دولار في 2022، بارتفاع طفيف عن سنتين صعبتين خلال فترة الوباء.
تنتج "إنتراديكو" الألياف من القطن البكر ومن قصاصات الأقمشة التي تطرحها غرف القصّ والخياطة وكذلك من لدائن معاد تدويرها. وقد بدأت الشركة تستغلّ مصدراً جديداً من المواد القابلة لإعادة التدوير هو الملابس التي لم تُبَع. قال جايمي ميغيل سيمان الذي عُيّن رئيساً تنفيذياً للشركة في 2016: "نحن نتحدث هنا عن سلسلة إمداد معكوسة".
يزداد الطلب العالمي على المنتجات التي يُثبت مورّدوها أنهم أقلّ إضراراً بالبيئة. قال سارو كامبيسانو، مؤسس شركة "هيدجهوغ" (Hedgehog) الاستشارية المتخصصة بشؤون الاستدامة إن "قطاع النسيج يخضع للمراقبة أكثر فأكثر". وقال ميغيل إنه مع ازدياد تعقيدات وتكلفة الشحن من الصين واليد العاملة هناك "يُطلب من العملاء أن يركزوا أكثر على التوريد من أماكن أقرب".
مخلفات الموضة السريعة تخنق البلدان النامية بجبال من النفايات
التركيز على الاستدامة
من أجل مواجهة هذين التحديين، يعمل ميغيل على تطوير المهارة التقنية التي تمكّن شركته من استخراج الألياف من الملابس، فيما يسعى للاستحواذ على شركات تصنيع أميركية قادرة على استخدام منتجه. فخلال العقد الماضي، اشترت الشركة شركات تصنيع أميركية مثل "إنديرا ميلز" (Indera Mills) المتخصصة بالملابس الداخلية ومجموعة "نوث أباريل" (Knothe Apparel Group) لملابس النوم وشركة "غيربر" لملابس الأطفال (Gerber Childrenswear) التي انفصلت عن شركة أغذية الأطفال العملاقة، وذلك بغرض إنشاء محفظة من العلامات التجارية التي تعتمد على الألياف التي تستخرجها " إنتراديكو".
أشرف ميغيل على جهود أوسع في مجال الاستدامة بهدف جعل الإنتاج منخفض الانبعاثات الكربونية جزءاً أساسياً من سياسة التسويق للشركة، فقد كسا أسطح المباني بألواح الطاقة الشمسية وبنى أنظمة لإعادة تدوير مياه المعامل، وحصر عمليات الإنتاج في منطقة مركزية قطرها نحو 15 كيلومتراً بغية تقليص كمية الطاقة اللازمة لنقل السلع خلال المراحل المختلفة من عملية الإنتاج. وفي العام الماضي، أعلنت" إنتراديكو" عزمها استثمار 100 مليون دولار في معدّات إعادة التدوير والطاقة الشمسية.
عن طريق الصدفة.. شركة أمريكية تتوصل لحل مشكلة مُخلفات الأزياء
تعليقاً على ذلك، قال مارك سانديرلاند الذي يدرس تقنية النسيج في جامعة توماس جفرسون في فيلادلفيا: "فيما يخصّ الاستدامة، قامت (إنتراديكو) في البداية بكلّ الأمور السهلة، ولكن الآتي هو الأصعب، فيمكنك جمع المواد لتعيد تدويرها، لكن كيفية استخراج القيمة منها هو الذي يطرح مشكلة على صعيد المنظومة".
إعادة تدوير الملابس الجديدة
يقول ميغيل إن الخطوة التالية المتمثلة بالاستفادة من المخلفات، ستساعد القطاع على معالجة المشكلة المتنامية الناجمة عن الملابس غير المباعة. يقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة إن تجار التجزئة والمستهلكين حول العالم يطرحون سنوياً عشرات ملايين الأطنان من الملابس التي لم تُستعمل قطّ، بل إن كثيراً منها لا يبلغ رفوف المتاجر.
رغم أن جزءاً يسيراً من تلك الملابس قد تباع في دول في طور النموّ، إلا أن كثيراً منها يؤول إلى المحارق أو مكبات النفايات. قال ميغيل: "كثير من هذه المواد تنتهي في المكبات لأن فرزها مكلف جداً".
الملابس غير المباعة أكثر قيمة لإعادة التدوير من الملابس المستعملة والمغسولة بما أن غزل أليافها يتيح تحويلها إلى خيطان أمتن وأطول وأقرب ما تكون إلى المواد الجديدة، بالأخص القطن. وغالباً ما يكون استخراج هذه الألياف من الملابس غير المباعة أرخص من شراء القطن الخام من المزارع.
كيف تسهم الموضة السريعة والرخيصة في تلوث الكوكب؟
استخدام الذكاء الاصطناعي
لكن تكمن الصعوبة في الأزرار والسحابات ومطبوعات الشاشة الحريرية، أي الأحرف النافرة البلاستيكية التي يُكتب بها "صنع في السلفادور" في باطن الياقة أو نطاق الخصر، وكل ذلك يعدّ من الشوائب. لذا عمدت " إنتراديكو" إلى شراء ماكينات توجّه آلات التمزيق لإزالة الأزرار من القمصان والسراويل وقصّ الدبابيس المعدنية من ملابس الجينز الزرقاء وتحليل الدرجات اللونية لقماش الجينز، ومزج لونها الأزرق مع الألياف الأخرى التي يتم استخراجها من أجل صنع الألوان المحدّدة التي يطلبها المصنّعون. وقال خورخي داردانو، مدير عمليات النسيج في "إنتراديكو" إن "الذكاء الاصطناعي سيكون أساسياً في تقييم هذه المواد".
لزيادة طلب المستهلكين على الملابس المعاد تدويرها، تعاونت "إنتراديكو" عام 2021 مع شركة "ريكفر براندز" (Recover Brands) في كارولاينا الشمالية المتخصصة ببيع القمصان والقبعات وغيرها من المنتجات للمستهلكين الذين يرغبون في شراء ملابس تحمل شهادة تصنيع من مخلفات أُعيد تدويرها.
قال بيل جونستون، وهو أيضاً سليل أسرة تعمل في مجال النسيج أسس شركته "ريكفر" عام 2010 إن موقع "(إنتراديكو) القريب من الولايات المتحدة والتزامها الكبير بالاستدامة جعل التحالف معها جذاباً أكثر... من أجل تحقيق التوسع، لا بدّ أن نتواجد في السلفادور".