تثير بيانات تُظهر أن التضخم في الولايات المتحدة ينحسر في ظل سوق عمل قوية، توقعات متفائلة بأن الاحتياطي الفيدرالي سيمكنه تحقيق هبوط سلس. لكن، لسوء حظ جيروم باول وفريقه، تتضافر ثلاثة أحداث مختلفة بشكل قد يدفع الاقتصاد الأميركي بعيداً عن مساره، وهي إضراب تاريخي للعاملين في قطاع تصنيع السيارات، وإغلاق متوقع للحكومة، واستئناف سداد قروض الطلاب.
قد يقلص هذا المأزق الثلاثي النمو في الربع الرابع، سواء أكان ذلك بدرجة بسيطة أم كبيرة، حسب المدى الذي ستذهب إليه التداعيات. تشير تقديرات اقتصاديي "غولدمان ساكس" إلى أن النمو قد يتباطأ إلى 1.3% بعدما بلغ 3.1% في الربع الثالث على أساس سنوي. تبيّن حسابات غريغوري داكو، كبير اقتصاديي شركة "إي واي-بارثينون" (EY-Parthenon) للاستشارات، أن تضافر الأحداث يساوي تقليصاً للنمو بنحو 0.8 نقطة مئوية.
قال داكو إنه إذا أضفنا لذلك تراجع الإنفاق على الخدمات والاستثمارات في قطاع الأعمال، وهما يواجهان ضغوطاً الآن؛ فإن النمو قد ينزلق إلى الصفر. في تغريدة عبر منصة "إكس"، "تويتر" سابقاً، حذرت دايان سونك، كبيرة اقتصاديي "كي بي إم جي" (KPMG) في شيكاغو، من أن توقُّف العمل لفترة مطولة في تصنيع السيارات، وهو قطاع يمثل نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، سيُعجّل بانكماش اقتصادي في الربع الأخير من العام.
أسوأ توقيت
قال اقتصاديون في "سيتي غروب" إن الإضراب الذي نظمته نقابة عمال السيارات المتحدين يأتي في أسوأ توقيت ممكن، إذ كانت سلاسل إمداد السيارات والأسعار قد بدأت للتَّو تعود لسابق عهدها. يشكل الإضراب تهديداً تضخمياً جلياً فيما تستغرق ضغوط الأسعار في الولايات المتحدة فترةً أطول كي تهدأ مقارنة مع دول أخرى. اختار الاحتياطي الفيدرالي الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير خلال اجتماعه في 19 و20 سبتمبر، لكنه أشار إلى أنه يتوقع رفعها مرة أخرى قبل نهاية العام.
قد يمثل أيضاً استئناف سداد قروض الطلاب الشهر المقبل نقطة تحول اقتصادي أخرى. قالت آنا وونغ من بلومبرغ إيكونوميكس، إنه بنهاية فترة التوقف، التي امتدت ثلاث سنوات، بسبب الجائحة، سيشعر 28 مليون مقترض بكامل وطأة حملة الاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم.
قالت: "أجّلت مهلة سداد قروض الطلاب تأثير زيادات أسعار الفائدة. لولا تلك السياسة؛ لكانت زيادات أسعار الفائدة أبطأت الاقتصاد".
تتوقف أمور كثيرة على تطورات الأوضاع. فقد ينتهي إضراب عمال مصانع السيارات والإغلاق الحكومي خلال أيام أو يمتد لأسابيع. وقد يتمكن أيضاً بعض المقترضين من الاستفادة من برامج تتيح لهم تقليص أعباء ديونهم الطلابية، وفي تلك الحالة قد لا تكون الضغوط على إنفاق المستهلكين بالشدة المتوقعة.
الإضراب الذي يقوده شون فاين، رئيس نقابة عمال السيارات المتحدين، هو إضراب موجّه حتى الآن، إذ يضم 1500 عامل في ثلاثة مصانع تديرها "جنرال موتورز" و"فورد موتور" و"ستيلانتيس" (Stellantis). أما إذا انتشرت الإضرابات لتشمل أعضاء النقابة كلهم، وعددهم 150 ألفاً، فسيوقف ذلك نحو ثلث عمليات تصنيع السيارات في الولايات المتحدة.
سيصبح نمو قوائم الأجور سالباً لفترة مؤقتة، وفقاً لـ"أوكسفورد إيكونوميكس" (Oxford Economics)، وهي مجموعة لنشر الأبحاث والتوقعات. كما قد يدفع النقص الناتج عن ذلك لدى وكلاء السيارات أسعار المركبات الجديدة للارتفاع، بعدما كانت تتجه بوضوح نحو الانخفاض منذ أبريل وفقاً لمؤشر أسعار المستهلكين.
هل تغلق الحكومة؟
قد يتوقف أيضاً مئات الآلاف من موظفي الحكومة الاتحادية عن العمل الشهر المقبل، وإن كان ذلك رغماً عنهم. عرقلت مجموعة من المحافظين المتشددين في مجلس النواب التصويت على عدد من مشروعات القوانين المطلوبة لكي يستمر عمل الحكومة حتى ما بعد بداية العام المالي المقبل، الذي يبدأ مع أكتوبر.
تستمر إغلاقات الحكومة عادةً لأيام معدودة، لكن خلافات داخل الحزب الجمهوري تهدد بإغلاق أطول. شهدت الولايات المتحدة ثلاثة إغلاقات مطولة فقط في تاريخها. استمر أولها الذي كان سنة 1995 مدة 21 يوماً، أما الثاني في 2013، فكانت مدته 16 يوماً، وثالثهما بدأ في ديسمبر 2018 حتى يناير 2019 واستمر 35 يوماً.
ستكون الخسائر الاقتصادية محدودة في البداية وستزداد بمرور الوقت. تشير تقديرات الاقتصاديين في "غولدمان ساكس" إلى أن كل أسبوع تظل الحكومة متوقفة فيه عن العمل سيشطب 0.15 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الرابع من العام.
استشراف إيجابي
رغم أن السماء تتلبد بغيوم العاصفة، فإن "غولدمان ساكس" متفائل بالنظرة المستقبلية لمطلع العام المقبل. كتب جان هاتزيوس، كبير اقتصاديي المصرف في تقرير صدر في 15 سبتمبر: "نتوقع أن يكون التباطؤ سطحياً وقصيراً مع انحسار عوامل الضغط المؤقتة، فيما تتسارع وتيرة نمو الدخل مجدداً بفضل استمرار نمو قوي في التوظيف وارتفاع الأجور الحقيقية".
رغم أن هاتزيوس ما يزال متمسكاً بفكرة أن الاحتياطي الفيدرالي يمكنه تفادي إحداث ركود فيما يصارع التضخم ليعيده إلى المستوى المستهدف عند 2%، يشكك بعض أقرانه في وول ستريت في ذلك بشدة. درس فريق من "سيتي غروب" قاده ناثان شيتس الدورات الاقتصادية منذ 1965، ليجد أن التخلص من التضخم المرتفع وأسواق العمل التي تشهد شحاً في المعروض من الأيدي العاملة تطلّب ارتفاعاً ملحوظاً في البطالة وانطوى على تحول نزولي في نهاية المطاف.
كتب الفريق في تقرير صدر في 14 سبتمبر: "وجهة نظرنا هي أن قوانين الجاذبية الاقتصادية التي رأيناها في الدورات السابقة ستفرض نفسها مجدداً في نهاية الأمر، وسيواجه اقتصاد الولايات المتحدة ركوداً خلال 2024. على النقيض، فإن دعم فكرة الهبوط السلس يتطلب أسباباً مقنعة تبرر وجه الاختلاف هذه المرّة".
إفراط بالتفاؤل
يحذر وزير الخزانة السابق لورانس سامرز منذ أشهر من التفاؤل المفرط بشأن قدرة الولايات المتحدة على كبح التضخم دون إحداث تحول نزولي في الاقتصاد. قال سامرز في مقابلة تلفزيونية مع بلومبرغ في 13 سبتمبر، إن فرص هذه السيناريوهات الثلاثة تتساوى تقريباً، وهي حدوث هبوط سلس، أو ألا يكون هناك هبوط يبقى التضخم في ظله عند مستوى 3%، أو حدوث هبوط أصعب.
قال ماثيو مارتن، الذي يعمل في "أوكسفورد إيكونوميكس"، إنه حتى لو تمكن الاقتصاد من تجنب الركود حسب مفهومه العلمي، (فصلان متتاليان من النمو بالسالب): "ما يزال مرجّحاً أن ندخل في مرحلة نمو يقل عن المعدل التاريخي، فيما يتأثر الاقتصاد بتداعيات أسعار الفائدة الأعلى ومعايير الإقراض الأشد، وكذلك أدنى مستوى للمدخرات الفائضة عن الحاجة مع نمو ضعيف في الوظائف".
يظهر تحليل أعدته وونغ من "بلومبرغ إيكونوميكس" أنه منذ أوائل الثمانينيات بلغت التوقعات، التي أجمع عليها الاقتصاديون، بأن الاقتصاد الأميركي سيحقق هبوطاً سلساً ذروتها قبيل تدهور الاقتصاد. ثمة تساؤل قائم منذ أشهر حول مَن الذي سيمكنه نزع درع الاقتصاد الأميركي، وقد نعرف جوابه قريباً فيما يصطف عمال مصانع السيارات للتظاهر ويوشك دخل أصحاب قروض الطلاب وموظفي الحكومة الاتحادية على الانحسار.