بعد عامين أمضاهما في مكافحة قطاع يقول إنه موبوء بالغش والاحتيال، يرغب رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية غاري غينسلر في أن يتحول عن التطرق إلى العملات المشفرة ليسلّط الضوء على تقنية أخرى تحتلّ اهتمام قطاع المال، هي الذكاء الاصطناعي.
يعتقد رئيس الهيئة الناظمة الأهمّ في "وول ستريت" أن هذه التقنية تستحقّ الضجة المثارة حولها، بعكس العملات الرقمية والرموز غير القابلة للاستبدال، فقد وصفها بأنها "التقنية الأقدر على إحداث نقلة في هذا الجيل. في ذلك غاية تُبتغى، فلنرجئ الحديث عن التشفير... نحن نأخذ كثيراً مما يضطلع به الناس يومياً لنؤتمته".
قد يكون للأتمتة واسعة النطاق آثار متتالية على ما قيمته تريليونات الدولارات من الأصول المطروحة للتداول في الأسواق المالية تحت إشراف لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية. كما قد يكون لما يأتي به الذكاء الاصطناعي من تزكيات ونصائح استثمارية وتوصيات، القدرة على تغيير قطاع التمويل جذرياً.
صحيح أن تلك التطبيقات تستطيع مساعدة الشركات على تقديم خدمة أفضل لعملائها، لكن غيسلر يحذّر من إمكانية استغلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، إن تُركت بلا رقابة. للتعمية عن المسؤولية حين تقع اخفاقات.
لدى غينسلر خبرة كبيرة في مجال التقنية بعكس معظم المسؤولين في واشنطن. قال رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات إنه بدأ يفكر بالذكاء الاصطناعي للمرة لأولى عندما هزم الحاسوب العملاق "ديب بلو" (Deep Blue)، الذي طورته شركة "أي بي إم"، بطل العالم للشطرنج غاري كاسباروف في 1997. قال غينسلر، الذي كان عضواً في فريق الشطرنج في مدرسته الثانوية، إن هذا الإنجاز التقني بهره.
مسيرة حافلة
ترك غينسلر منصبه المربح شريكاً في بنك "غولدمان ساكس" بعد ذلك بقليل ليعمل لدى الحكومة. تصدّى رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية على مدى 15 عاماً تلت، عديداً من الكوارث التي ألمّت بالقطاع المالي بدءاً بفضيحة "إنرون" إلى الأزمة المالية العالمية التي حلّت خلال عمله لدى وزارة الخزانة في عهد بيل كلينتون، مروراً بعمله مساعداً للشؤون المالية لأعضاء في الكونغرس، وأخيراً بصفته رئيساً لأكبر هيئة ناظمة للمشتقات في إدارة أوباما.
بعدما ترك غينسلر العمل الحكومي اتجه إلى التدريس في معهد ماساتشوستس للتقنية وعاود الاهتمام بالذكاء الاصطناعي، وهو يتذكر حين دخل في 2019 إلى مكتب ألكسندر مادري، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتقنية، وهو أحد أفضل الخبراء على مستوى العالم في مجال تَعلُّم الآلة، ليسأله عن أفضل سبل دراسة هذه التقنية.
أعطاه مادري كتاباً من 800 صفحة يشرح العلوم الرياضية التي تقوم عليها تقنية الذكاء الاصطناعي بعنوان "التعلّم العميق" (Deep Learning). قال غينسلر: "مضت أشهر قبل أن أعود إلى مكتبه. لقد علمت أن ذلك كان على سبيل الاختبار". قرأ من الكتاب ما استطاع، وكانت تلك بداية صداقة أكاديمية مع مادري.
قال مادري، وهو حالياً في إجازة من معهد ماساتشوستس للتقنية ليعمل لدى شركة "أوبن إيه آي": "لأكون صريحاً، خِلتُ أنني لن أراه ثانيةً، لكنه كان متأكداً أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر في كل شيء وأننا بحاجة إلى أن نفهم هذه التقنية".
مخاطر الذكاء الاصطناعي
استمر غينسلر في دراسة الذكاء الاصطناعي والكتابة عنه، وقد توّج الفترة التي أمضاها في معهد ماساتشوستس للتقنية بنشر بحث في 2020 شارك بكتابته أحد الطلاب بعنوان "التعلّم العميق والاستقرار المالي". ناقش البحث المخاطر التي يشكّلها التعلّم العميق، وهي مجموعة فرعية من تقنيات الذكاء الاصطناعي، على النظام المالي. كما حاجَّا في البحث بأن النظم الرقابية الحالية ليست مهيأة لمواجهة مثل هذه المخاطر.
كتب غيسلر أن من بين هذه المخاطر أنه عندما تستخدم جميع الشركات الكبرى الذكاء الاصطناعي "ستنسق هذه النماذج، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بينها وتتواصل لتحسين نتائجها". ثم يُُحتمل أن تبدأ جميع النماذج تنفيذ الاستراتيجيات ذاتها، ما سيؤدي إلى تقلبات وعدم استقرار أكبر بكثير.
كان واضحاً أن غينسلر يتبع ما كتبه منذ عاد إلى واشنطن في 2021. وقد تحدث في كثير من المناسبات، بصفته رئيساً للجنة الأوراق المالية والبورصات، عن العواقب الإيجابية والسلبية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي الجديدة على حد سواء. قال غينسلر إن لجنة الأوراق المالية والبورصات نفسها تستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي، لكنه رفض تحديد كيفية ذلك.
لا تتعلق انتقادات غينسلر للذكاء الاصطناعي بالتقنية في حد ذاتها. لكنه يُبدي قلقاً من أنها قد تجعل فهم دوافع اتخاذ القرارات صعباً. تذكّر هذه المخاوف بتساؤلات أخرى أثارها حول ظهور تقنيات جديدة في مجال التمويل.
قواعد جديدة
يجادل بأن كثيراً مما يسمى بالتمويل اللا مركزي ليس كذلك فعلياً، وأن كل الأمر هو أن هنالك من يحاول إقناع المستثمرين بالفكرة لكسب المال. بنفس المنطق، يعتقد غيسلر أن الذكاء الاصطناعي ليس اصطناعياً بقدر ما يبدو، وأن الأمر يتعلق بكيفية استعمال الناس هذه التقنية.
تساءل: "عندما يلعب تطبيق الذكاء الاصطناعي ضدّك في مباراة شطرنج، ألا تعتقد أنه يعتزم أن يفوز عليك؟ يرتّب بشر وظائف تتعلق بالهدف في مرحلة ما" من ابتكار أدوات التعلّم الآلي وروبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. لكن يبقى الغش غشاً، كما يفضل غينسلر أن يصف الأمر، بغضّ النظر عن مدى براعة تقنية ما في إخفاء هذه الحقيقة.
أصبح غينسلر من أوائل المنظمين الذين اقترحوا وضع قواعد لتقنين استخدامات الذكاء الاصطناعي في يوليو، فقد تقدم بمقترح يُلزِم الشركات ومديري الأموال تحديد ما إذا كان استخدامهم للذكاء الاصطناعي أو البيانات التنبُّئِية يشكّل تضارباً في المصالح، أي هل يستخدمون تقنية ما لخدمة العملاء على أفضل وجه أم لزيادة الأرباح على حساب عملائهم. قد يستخدم مستشار مالي خوارزمية توصي بأسهم محفوفة بالمخاطر، ومن ثم ينصح شخص قليل الخبرة بشرائها. بالتالي قد يتعارض ذلك مع واجب مدير الأموال الذي يحتّم عليه التصرف لصالح العميل. فهل يعتبر هذا خطأ الخوارزمية أم خطأ المستشار المالي؟
قال مارك بيرلو، الشريك في مكتب "ديكرت" (Dechert) للمحاماة في سان فرانسيسكو، إن غينسلر "يحاول وضع قواعد تنظيمية استناداً إلى نظرية"، لأن غالبية المشكلات في هذا الصدد مجرَّد تخمينات حاليّاً، أو أنها بدأت بالنشوء على أسوأ تقدير.
تابع بيرلو: "أحد الدروس، التي ربما استخلصتها لجنة الأوراق المالية والبورصات من الجدل المثار حول العملات المشفرة، أنها إذا تخلفت عن الركب من حيث التنظيم، فسيحدد اللاعبون في القطاع المالي قواعد النقاش. قد يكون هذا سبب نهج التنظيم المستند إلى نظريةٍ تخصّ الذكاء الاصطناعي".
قال غينسلر إنه يدرس سبل استخدام الذكاء الاصطناعي لمراقبة السوق، وكيف يتعين على الشركات الإفصاح عن استخدامها للتقنية. أكّد رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات أن القضايا التي يثيرها الذكاء الاصطناعي لن تُحَلّ ببساطة: "سنكون الأزمة المالية لعام 2032 أو 2028 أو أيّاً كان اسمها، وسيكون تقرير التعامل مع الأزمة حقّاً" حول مسألة تتعلق بتعلّم الآلة.