تبدو كلمة "سلام" وكأنها باتت اسماً لكل ما في مركز مدينة هيروشيما اليابانية. تقع حديقة السلام التذكارية بأشجارها المشذّبة بجوار الطريق الرئيسي الذي يحمل اسم شارع السلام، وبداخلها معالم شهيرة مثل برج ساعة السلام وجرس السلام. كما تضم مناطق أخرى من الحديقة قاعة هيروشيما التذكارية للسلام وشعلة السلام. كل هذه المعالم مكرّسة لتخليد ذكرى ضحايا أول ضربة ذرّية.
هيروشيما مدينة صناعية مزدهرة يعيش فيها 1.2 مليون نسمة، وهي مركز لحركة المسالمين السياسية المؤثرة في الدولة التي تجنبت النزاعات المسلحة لأكثر من 75 عاماً. استضافت المدينة قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في 19 مايو، حيث كان رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا، الذي ترتبط أسرته بهيروشيما، يأمل بأن يحشد الدعم لخفض المخزون النووي. لكن على مسافة قصيرة من هذه المعالم التي تخلّد ذكرى الضحايا، الذين ربما بلغ عددهم 140 ألف شخص بنهاية 1945، يتشكل رأي مختلف عن العلاقات الدولية.
تدفع تصرفات الصين، التي تُبدي فيها تأكيدها لدورها بشكل متزايد تجاه دول الجوار، رئيس الوزراء كيشيدا إلى زيادة حجم الجيش الياباني بوتيرة غير مسبوقة خلال عصر ما بعد الحرب، في ما يمثل تحولاً حاداً عن السياسة التاريخية المعهودة. أعلنت حكومة كيشيدا في نوفمبر عن خطط لمضاعفة الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 80 مليار دولار سنوياً.
يُرجَّح أن يجعل ذلك ميزانية اليابان العسكرية ثالث أكبر ميزانية من نوعها في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. في خطوة تتخطى الحظر على استخدام أسلحة بخلاف "الدفاعية" منها، قد تنشر اليابان قريباً صواريخ بعيدة المدى وكذلك قوات مؤهلة لأن تشن عمليات هجومية منظّمة على المستوى الإقليمي.
مركز تصنيع الأسلحة
من بين كل المناطق، تُصنع عديد من أنظمة الأسلحة المطلوبة في هيروشيما. تضم المدينة أحد مصانع الأسلحة الرئيسية في اليابان، ويستعد المصنع لزيادة إنتاج معدات المدفعية ومدافع الدبابات. في حوض لبناء السفن على مسافة قريبة من المدينة، يجري العمل على تصنيع حاملة طائرات – وهي الأولى من نوعها التي تُشغِّلها اليابان منذ أن توقفت الأعمال الحربية ضد الولايات المتحدة. تضم المنطقة قاعدة رئيسية للقوات البحرية اليابانية أيضاً.
يجادل كيشيدا أنَّ تلك الاستثمارات ضرورية لدرء حرب إقليمية، ما يُعمِّق موقفاً متشدداً بدأ في عهد سلفه شينزو آبي. تعتبر استراتيجية الدفاع الوطني لحكومة كيشيدا، التي نُشرت أواخر العام الماضي، أن الصين "أكبر تحدٍ استراتيجي لضمان السلام والأمن في اليابان".
تسعى حكومة الرئيس الصيني شي جين بينغ للحصول على أسلحة متقدمة مثل صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت عدة مرات، كما أنشأت جزراً صناعية في بحر الصين الجنوبي لتعزيز مطالبتها بأحقيتها في بعض المناطق، وترفض اليابان وحلفاؤها هذه المطالب.
إنفوغراف.. هل تتحول أزمة الصين وتايوان إلى مواجهة عسكرية؟
تمثل تايوان، وهي شريك اقتصادي مهم لطوكيو، مصدر قلق على نحو خاص. لم تستبعد الصين إطلاقاً خيار السيطرة على الجزيرة ذات الحكم الديمقراطي، وتُجري تدريبات عسكرية دورية في المياه المتاخمة لها. من شأن أي حرب لتقرير مستقبل تايوان أن تهدد النشاط التجاري الإقليمي ومصانع الرقائق التي تعوّل عليها الشركات اليابانية.
قوة عسكرية
تحويل اليابان إلى قوة عسكرية من الدرجة الأولى لن يكون سهلاً، فلدى الدولة تاريخ طويل من المشروعات العسكرية المتعثرة، ولا يتضح ما إذا كانت الأعداد المتواضعة لشركات صناعة الأسلحة في الدولة، وكثير من عقودها العسكرية بالكاد يحقق أي ربح، ستتمكن من تلبية الطلبيات الجديدة.
في الوقت ذاته، تشعر الحكومة بالقلق من أن يزداد اعتمادها بأكثر مما ينبغي على الواردات. إنتاج الأسلحة محلياً أمر ضروري بالنسبة لكيشيدا وكبار المسؤولين، إن أرادت اليابان أن تتولى زمام الدفاع عن أرضها.
رئيس وزراء اليابان يوجه بزيادة الإنفاق على الأمن القومي
ربما تُثبت العقبات القانونية والسياسية أنها أكبر حجماً، حتى بعدما أثار غزو روسيا أوكرانيا مخاطر صراع القوى العظمى. عندما استسلمت اليابان للولايات المتحدة في 1945، كانت دولة مدمرة ومكروهة في أنحاء آسيا بسبب وحشيتها خلال الحرب. لكن دستور الدولة الجديد، الذي تبنّته بعد عامين من ذلك، ينصَّ على أنَّ شعبها "سينبذ الحرب" وأنَّ الدولة "لن تحافظ على قوات برية أو بحرية أو جوية".
رغم أن اليابان لم تلتزم بتلك الموانع بحذافيرها، إذ شكّلت الدولة ما تطلق عليه "قوات الدفاع الذاتي" منذ خمسينيات القرن الماضي، فإنَّ اقتراح كيشيدا يعكس تحولاً جذرياً كما أنه مثار جدل. ما يزال دعم النزعة السلمية منتشراً على نطاق واسع، خصوصاً بين الناخبين الأكبر سناً الذين يحسمون نتيجة الانتخابات، وهناك عقبات ضخمة تواجه إعادة صياغة المادة 9، وهي الفقرة الدستورية التي تفرض قيوداً على الجيش. حتى شينزو آبي، الذي كان أطول رؤساء الوزراء خدمةً في اليابان، لم يتمكن من حشد الدفع السياسي لتحقيق ذلك.
الابتعاد عن الأضواء
الجدال محفوف بالقلق في هيروشيما على وجه خاص. فضّل قادة المدينة منذ فترة طويلة عدم جذب الانتباه لصناعة الأسلحة المحلية. لا يرغب كثير منهم بتأجيج التوترات السياسية، كما أنَّ السلام هو أساس العقيدة المدنية. لكن فيما يحثّ كيشيدا وغيره من الساسة مواطني اليابان على التفكُّر في تداعيات بروز نجم الصين، بدأ ذلك الأمر يسلك منحى آخر.
قال هيديكي فوكوياما، رئيس مجلس الإدارة الفخري لغرفة التجارة والصناعة في هيروشيما: "حان الوقت لتتحدث الشركات في قطاع الدفاع بحُرّية". فوكوياما، الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة أعوام حين وقع القصف الذرّي، هو واحد من عدد متضائل من "الهيباكوشا" (hibakusha)، وهو مصطلح يُستخدم للناجين ويعني "الشخص الذي تأثر بانفجار قنبلة"، ممن ما يزالون يعيشون في المدينة. قال فوكوياما: "لا نستطيع حماية البلاد بنص الدستور فحسب".
كانت هيروشيما مركزاً للمجمع الصناعي العسكري الذي سمح لليابان بغزو مناطق عديدة في آسيا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. في الجنوب، بَنَت "كوري نافال أرسنال" (Kure Naval Arsenal) بعض أكبر سفن البلاد، بما فيها بارجة "ياماتو" (Yamato) الحربية الشهيرة. في المدينة نفسها، أنتجت المصانع الزيّ الموحد للجيش الإمبراطوري الياباني وقذائف مدفعيته.
تملك "جابان ستيل ووركس"، وهي شركة للأشغال المعدنية أُنشئت في محافظة هوكايدو بالأصل، أحد أكبر المصانع هناك.
في منطقة تحيط بها حقول اللوتس، أنتجت "جابان ستيل ووركس" قطعاً عسكرية مثل المدافع المضادة للطائرات، التي ضربت طائرات أميركية استهدفت غاراتها الليلية مدناً يابانية في أواخر الحرب. في ذلك الوقت، ومع إرسال عمّال المصنع إلى الخطوط الأمامية ليحلوا محل القتلى أو الجرحى من الجنود، كانت القوى العاملة مكوّنة جزئياً من الأطفال الذين نُقلوا من فصولهم إلى خطوط الإنتاج.
خطوط الإنتاج
كانت ياتشيو كاتو تبلغ من العمر 15 عاماً حين بدأت تعمل في "جابان ستيل ووركس" في 1944. كان دوام العمل لها ولزملائها مدته 12 ساعة لسبعة أيام أسبوعياً. بعد انتهاء الدوام، كانت مجموعة أخرى في سن المراهقة تتولى تشغيل المصنع ليستمر العمل على مدار الساعة.
كانت الإصابات شائعة، إذ كانت شظايا من المعادن تتطاير فتنغرس في أعينهم، كما كانت الحواف الحادة لمكوّنات القذائف تقطع أطراف أصابعهم. كانت الأجهزة الحكومية تُردِّد للطلاب أنهم يساهمون في تحقيق النصر. قالت كاتو، 94 عاماً: "تعلّمنا بشكل مكثف منذ المدرسة الابتدائية أننا لن نبخل بأرواحنا في سبيل خدمة الوطن. اعتقدنا أننا جميعاً علينا العمل بكد من أجل اليابان. كان هذا هو كل ما نفكر فيه".
في السادس من أغسطس 1945، أغلقت "جابان ستيل ووركس" أبوابها، وهو إغلاق يحدُث مرة شهرياً لتوفير الكهرباء. خططت كاتو وبعض صديقاتها للسباحة في شاطئ خارج البلدة. حتى ذلك الحين، لم تكن هيروشيما قد تعرضت لقصف مكثف، ولم يعرف أحد السبب. لكن كاتو كانت تحمل ضمادات وغطاءً واقياً لحماية جلدها من اللهب تحسباً.
في الثامنة والربع صباحاً، كانت كاتو في انتظار قطار في محطة صغيرة. لا تتذكر كاتو الوميض الساطع أو الصوت المدوّي الذي يتذكره بعض من كانوا في هيروشيما ذلك اليوم. أول ما تتذكره هو أنها فتحت عيناها لتجد نفسها مستلقية على الأرض، على بعد نحو 10 أمتار من حيث كانت تقف.
استطاعت كاتو أن تنهض وتعثر على اثنتين من صديقاتها. تحوّل وجه إحدى الفتاتين إلى اللون البني، وكأنه تعرض للاحتراق بسبب أشعة الشمس. أما الفتاة الأخرى، فقد كان ذراعها كما لو كان مرصعاً بشظايا الزجاج.
سارت الفتيات في ذهول تجاه مدرسة ابتدائية ليحتموا فيها، حيث وجدن مجموعة من الناجين الآخرين. تتذكر كاتو ما حدث قائلة: "كان جلدهم قد انسلخ تماماً وكان يتدلى معلقاً عند أطراف أظافرهم. تلاصقنا ثلاثتنا معاً وبكينا".
تغير المسار
في ذلك الوقت، كانت كاتو تعمل في فرع مصنع "جابان ستيل ووركس" في وسط المدينة. تعرض المصنع لأضرار بالغة، ولم تعد إليه كاتو أبداً. كان المصنع الرئيسي محمياً من قوة الانفجار بالجبال المحيطة به، لكن الحرب انتهت خلال 10 أيام.
منعت القوات الأميركية المحتلة المصنع من إنتاج الأسلحة، وهو ما كان جزءاً من خطة شاملة للقضاء على قدرة اليابان على خوض حرب مرة أخرى. كسب العاملون الناجون قوت يومهم من خلال تحويل خبرتهم في معالجة الصلب إلى تصنيع السلع الاستهلاكية مثل ماكينات الخياطة.
سرعان ما دفعت الحرب الباردة تجاه تغيير في الأولويات. بعد بدء النزاع في كوريا، اتجهت الولايات المتحدة لليابان لتساعد في إنتاج وتصليح العتاد. بدأت "جابان ستيل ووركس" تصنع أجزاء لنقل المركبات، وتلاها تصنيع بنادق محدودة الارتداد للمشاة، وأرسلت الشركة عمالاً إلى خارج البلاد ليتعلموا تقنيات جديدة لإنتاج الأسلحة.
كيف يدفع بوتين اليابان للتخلي عن رفضها للحرب؟
حين أسست اليابان قوات الدفاع الذاتي بعد الحصول على موافقة الولايات المتحدة، أصبحت الشركة هي الصانعة الوحيدة للمعدات المدفعية بعد الحرب، وهي إحدى الشركات المحلية القليلة المسموح لها بإنتاج الأسلحة. نظراً لأنَّ عقود الجيش محدود العدد والخاضع لقواعد تنظيمية مشددة، لم تتمكن من دعم نشاطها الرئيسي، نوّعت "جابان ستيل ووركس" أنشطتها في قطاعات مثل البلاستيكيات.
مع ذلك، عززت الشركة تدريجياً قدرتها على إنتاج السلاح بشكل كبير في هيروشيما، وطوّرت شبكة موردين محليين.
عملت الشركة جيداً بعيداً عن الأنظار، فيما دار الاقتصاد المحلي حول شركة "مازدا موتور"، التي تأسست في المنطقة وما يزال مقرها هناك. حتى اليوم ما يزال كثير من السكان لا يدركون شيئاً يُذكر عما يحدث داخل موقع "جابان ستيل ووركس".
نظراً لأنَّ وجود الجيش ما يزال موضوعاً حساساً للبعض، لا تبذل الشركة جهداً للإعلان عن عملياتها الدفاعية. يُكتب على بطاقات التعريف التي يقدمها مسؤولو قطاع تصنيع الأسلحة بالشركة باللغة الإنجليزية إنهم يعملون في "مجال العتاد الحربي"، أما الوجه الآخر من بطاقاتهم فيُكتب عليه باليابانية إنهم مسؤولون عن "معدات خاصة".
نشاط متنوع
يمتد المصنع الذي تديره "جابان ستيل ووركس" في هيروشيما على مساحة منبسطة على الطرف الشرقي للمدينة، ليس بعيداً عن معسكر يضم ألفي جندي من قوات الدفاع الذاتي. أثناء زيارتي للمصنع العام الماضي، رأيت لافتة داخل أحد مباني المكاتب الخاصة بالشركة: "نسعى لنصبح الرائد العالمي في صناعة معدات تصنيع البلاستيكيات"، في إشارة لنشاط الشركة في القطاعات غير الدفاعية.
كان كيتا يايابي، المدير العام لوحدة العتاد الحربي في شركة "جابان ستيل ووركس" الذي يعيش في طوكيو، هو مرشدي. عرّفني يايابي على ثلاثة مسؤولين تنفيذيين محليين، طلبوا جميعاً عدم ذكر أسمائهم، فقد كانوا قلقين بشأن تعرضهم وأسرهم للمضايقة إن أصبحت طبيعة وظائفهم معلنة.
سلّمتُ هاتفي المحمول، فقد كان تصوير مباني المصانع ممنوعاً، وسرت خلف يايابي حتى دخلنا إلى قاعة مصنع ذات سقف مقبب. كانت بعض العوارض التي تدعم السقف يكسوها الصدأ، إذ كانت أجزاء من ذلك الهيكل قائمة منذ زمن الحرب.
كان هناك أزيز لا يتوقف من آلات قطع الصلب، كما كان الهواء مفعماً برائحة زيوت الآلات. قالت شركة "جابان ستيل ووركس" إنها صنعت نحو ستة آلاف مدفع منذ معاودة العمليات في الخمسينيات، لكنها لا تفصح عن بيانات الإنتاج السنوي، مستندةً إلى مخاوف أمنية.
ضمت إحدى وحدات العمل نموذجاً مجسماً للسطح الأمامي لسفينة حربية بكامل أجزائها، بما فيها فتحة لرفع الذخيرة من داخل بدن السفينة. كان العمّال هناك يصنعون مدافع عيار 127 ميليمتر لتركيبها على ظهر المدمّرات والسفن الحربية من مرتبة فرقاطة.
انهمك عمال آخرون بتجديد الطرازات الأقدم. على مسافة قريبة، كانت هناك آلتان لحلزنة سبطانات المدافع. تجعل تلك الحلزنة القذائف تدور حول محورها في الهواء، ما يجعل مسارها مستقراً.
الإنتاج الدفاعي
دخلنا إلى مبنى أحدث أضافته الشركة في 2016 لتصنيع مدافع هاوتزر (Type 19)، وهي قطعة مدفعية قوية متحركة قادرة على قصف أهداف على مسافة عشرات الكيلومترات، وقد طلبتها قوات الدفاع الذاتي. بعد أن تصنع "جابان ستيل ووركس" المدافع، يُركِّبها العاملون على ظهر شاحنات بثماني عجلات.
أخبرني يايابي أن المصنع يرسل هذه الشاحنات لدى اختبارها إلى وحدة عسكرية في وسط اليابان. مع نمو ميزانيات الدفاع، يُرجَّح أن تشتري البلاد مزيداً من الأسلحة مثل مدافع "تايب 19". قال يايابي: "نحن متفائلون" فيما يتعلق بزيادة المشتريات. أضاف: "نحن نقوم باستثمارات رأسمالية حين تُرسل وزارة الدفاع لنا طلبيات. لا نرفض الطلبيات أبداً لأننا المورد الوحيد لمعدات المدفعية في اليابان".
اليابان ترفع ميزانية الدفاع لتضاهي إنفاق روسيا العسكري
مع ذلك، فإنَّ تحقيق أرباح من الإنتاج الدفاعي ليس أمراً سلساً. مع انكماش التعداد السكاني في اليابان، فإنَّ نقص الأيدي العاملة يمثل مصدر قلق مستمر، وتواجه "جابان ستيل ووركس" صعوبات في التنافس مع شركات محلية معروفة أكثر وتتمتع بوفرة أكبر في السيولة النقدية لجذب العاملين في القطاع الصناعي، مثل "مازدا".
لا تُعيِّن الشركة أجانب في هيروشيما أيضاً، بسبب متطلبات الحصول على الموافقات الأمنية. قد تحد قيود أخرى بشكل كبير من الإيراد الذي قد تحصل عليه الشركة. مؤكد أنَّ "جابان ستيل ووركس" لا تُصدِّر الأسلحة التي تنتجها، إذ يجب أن تحصل الشركات المتعاقدة مع الجيش الياباني على تصريح رسمي بالبيع إلى مشترين في الخارج، ولا تمنح السلطات هذا التصريح في الأغلب، رغم أنَّ الحكومة قالت إنها قد تخفف القواعد.
هوامش الأرباح
وفقاً لوزارة الدفاع، فإنَّ متوسط هامش الربح لكل العقود مع الجيش هو 8%. لكن في كثير من الحالات، ينتهي الحال بتحمُّل الشركات المصنِّعة تكاليف غير متوقعة لتأخيرات في التسليم أو مزيد من الفحوص، فتتقلص عائداتها. قال كيوسوكي ماتسوموتو، مدير في قسم المشتريات في الوزارة: "ينتهي الحال بالشركات بتحقيق أرباح نسبتها 2% أو 3%، وفي الحالات السيئة تخسر أموالاً".
رغم ارتفاع الإنفاق العسكري، فقد خفضت مجموعات صناعية رئيسية عدة، من بينها "كوماتسو" (Komatsu) و"سوميتومو هيفي إندستريز" (Sumitomo Heavy Industries)، نشاطها في مجال الصناعات الدفاعية خلال السنوات الأخيرة.
يقلّص ذلك بدوره أعداد الشركات المتعاقدة من الباطن. كانت إغلاقات الشركات تحدُث بشكل متكرر لدرجة أنَّ الوزارة ليست قادرة على متابعة الشركات التي لم تعد موجودة. يقول ماتسوموتو شاكياً: "قوتنا التقنية أصابها الوهن، والميزة التي نتمتع بها على الصعيد التقني معرضة للتهديد".
يضع ذلك صنّاع السياسات اليابانيين في وضع حرج. ربما يكون أحد الحلول البديهية هو زيادة حصة الأسلحة المستوردة، التي تناهز نسبتها حالياً 16%. لكن حتى أقرب الحلفاء لليابان يفرضون قيوداً على مشاركة التقنيات الحديثة، التي تعتقد طوكيو أنَّه لا بدَّ لها من السيطرة عليها كي يكون جيشها مستقلاً بذاته حقاً.
تُطوِّر الحكومة خططاً لتطوير طائرة مقاتلة من الجيل التالي بالاشتراك مع المملكة المتحدة وإيطاليا، مدفوعة جزئياً برفض الولايات المتحدة إتاحة برمجيات شفرة المصدر للطائرات الأميركية. إذا لم تحصل الدولة على شفرة المصدر تلك، فهي لا تستطيع اتخاذ قرارات مستقلة بشأن التحديثات والتعديلات.
قطاع لا يخاف النقد
نتيجة ذلك هي أنَّ تحقيق أهداف كيشيدا سيتطلب العثور على طرق لتعزيز قطاع حيوي للصناعات الدفاعية لا يخشى الانتقاد. أمضى مدير كيتا يايابي، وهو تاكيشي شينموتو، حياته المهنية بأكملها في قسم الدفاع بشركة "جابان ستيل ووركس"، وكان قد بدأ العمل في مسقط رأسه هيروشيما في 1986. قال شينموتو في مقابلة إنه كان عليه أن يتوخى الحذر دوماً أثناء الحديث عن عمله، جزئياً بسبب متطلبات السرية المشتركة بين شركات الإنتاج الدفاعي في أي مكان، لكن أيضاً بسبب القلق من ردة فعل البعض.
تحاول "جابان ستيل ووركس" أن تقلل من تحفّظها في علاقاتها مع الشعب، بما في ذلك اتخاذ خطوات مثل السماح لي بدخول مصنعها في هيروشيما. على حد علم المديرين، فإنَّ الشركة لم تُقدِّم دعوة أبداً لصحفي من قبل لرؤية خط إنتاج معدات المدفعية. قال شينموتو: "بدأ الناس تدريجياً استيعاب ما نفعله، وتتراجع حساسيتهم تجاهنا شيئاً فشيئاً".
تقع بلدة كوري على بعد نحو 20 كيلومتراً إلى الجنوب من مركز مدينة هيروشيما، وهي مركز سلسلة من أرصفة الميناء المزدحمة. تضم البلدة قاعدة بحرية إلى جانب مصنع لأجزاء محركات الطائرات وحوض لبناء السفن، وهي بلدة عسكرية بشكل يندر وجوده بشدة في اليابان. على أحد جانبي الطريق، يحمل إعلان للتوظيف الشعار الآتي: "من أجل التعليم العالي... انضم إلى الدفاع الذاتي. من أجل الوظائف... انضم إلى قوات الدفاع الذاتي".
قوة بحرية
يعود تاريخ حوض بناء السفن إلى الأيام الأولى للبحرية الإمبراطورية اليابانية، التي ظهرت في العقود الأولى من القرن العشرين كأبرز قوة بحرية في آسيا. بدأ إنشاء بارجة "ياماتو"، وهي أكبر السفن الحربية التي بُنيت آنذاك، في بلدة كيور في 1937. ليس مفاجئاً أن المنطقة تعرضت لقصف شديد في مراحل لاحقة من الحرب، رغم أنَّ بعض المباني العسكرية بالأصل تمكنت من الصمود وما تزال مُستخدمة.
اليابان تقول إن الإنفاق العسكري وعجز الموازنة سيغطيهما النمو الاقتصادي
تدير "جابان مارين يونايتد" (Japan Marine United)، وهي شركة متخصصة في بناء السفن مقرها يوكوهاما، أهم مشروعات الشركة وهو ترميم إحدى كبرى السفن الحربية الحديثة في اليابان، وهي حاملة "كاغا" (Kaga) التي يبلغ طولها 248 متراً. رغم أنَّها تشبه حاملة طائرات بسطحها العلوى المسطح، دخلت السفينة الخدمة في 2017 وتحمل طائرات هليكوبتر فقط. كانت فكرة تشغيل طائرات ثابتة الأجنحة على ظهر حاملة طائرات في البحر ما تزال محظورة.
لكن في 2018، أعلنت حكومة شينزو آبي إجراء تعديلات على "كاغا" تسمح لها بأن تحمل طائرات "إف-35" (F-35) المقاتلة الأميركية، وتُعد اليابان أكبر مشترٍ لصادرات تلك الطائرات. تنتظر "كاغا" حالياً في حوض بناء السفن، محاطة بالرافعات ومباني المصانع. تشير توقعات إلى الانتهاء من أولى مراحل العمل، التي تشمل تقوية السطح وإعادة تشكيل بدن البارجة، خلال عام. وقد استضافت بارجة شقيقة لـ"كاغا"، وهي "إيزومو" (Izumo)، طائرات أميركية مقاتلة.
أهم المشروعات العسكرية
لكن رغم أنَّ اليابان تشرع بالعمل على أحد أهم مشروعاتها العسكرية خلال جيل واحد، يغمر المسؤولين شعور بالقلق من الاستياء الشعبي. في الاتصالات الرسمية، توصف بارجتا "كاغا" و"إيزومو" بشيء من الإبهام بأنَّهما "مدمّرتان مرافقتان متعددتا الأغراض".
أثار وزير البحرية الأميركي، كارلوس ديل تورو، حالة من الجدل في اليابان خلال 2021 حين نشر تغريدة على "تويتر" مفادها أنّه أجرى جولة للتو في "حاملة الطائرات اليابانية (إيزومو)". اضطر البنتاغون لنشر توضيح يفيد بأنَّ ديل تورو لم يكن يُعبِّر عن وصف رسمي للسفينة.
تقع قاعدة كوري البحرية على مسافة قصيرة من حوض بناء السفن الخاص بشركة "جابان مارين يونايتد". كان الموقع منشأة عسكرية من أواخر القرن التاسع عشر – الذي يمثل حقبة سابقة من التوترات بين اليابان والصين – حين اختير لقربه من مناطق الصراع في بحر الصين الشرقي. تجعل السمات الجغرافية الموقع مفيداً اليوم، وتُعد قاعدة كوري ميناءً لعدد من الغواصات والسفن اليابانية.
زرتُ إحدى تلك السفن، وهي سفينة "سازانامي" (Sazanami) التي يبلغ طولها 151 متراً، أثناء رسوها عند رصيفها. دخلت المدمّرة المسلحة بمدفع رئيسي من تصنيع "جابان ستيل ووركس" التاريخ في 2008 حين أصبحت أول سفينة بحرية يابانية ما بعد الحرب ترسو في الصين، إذ سلّمت إمدادات إغاثة من الزلزال إلى مقاطعة غواندونغ الصينية.
شهدت تلك الفترة تحسن علاقات الدولتين، كما استثمرت شركات يابانية بشكل كبير في البر الرئيسي للصين وسافرت أعداد كبيرة من السياح الصينيين إلى طوكيو وكيوتو.
علاقات متوترة
لكن سرعان ما تدهورت العلاقات عندما طالبت الصين بأحقيتها في جزر سينكاكو، وهو أرخبيل يخضع لإدارة اليابان تشير إليه بكين باسم جزر دياويو. شهدت الصين احتجاجات في جميع أنحائها خلال 2012، بعد زيارة مجموعة من القوميين اليابانيين للجزر ورفعهم علم اليابان.
غضّ الحزب الشيوعي الطرف عن تلك الاحتجاجات، إن لم يكن قد شجعها. تدهورت العلاقات تدريجياً منذ ذلك الحين، وأخبرني قائد مدمّرة "سازانامي"، دايسوكي إينوي، بصراحة: "الصين أولويتنا"، مضيفاً أنَّه في حالة وقوع عدوان، "نحافظ على استعدادنا وقدرتنا على الرد".
اليابان تزيد الإنفاق العسكري 26%
لكن في كثير من أنحاء اليابان، لا يُترجم ذلك الواقع الجيوسياسي إلى تقبل القوات المسلحة، ناهيك عن إظهار الدعم بالوضوح الشائع في الولايات المتحدة. أوضح ماساكي ياماغيوا، وهو مساعد متخصص في الأسلحة على ظهر مدمّرة "سازانامي" ويبلغ من العمر 26 عاماً، أنَّ الشركات ترحب بالعسكريين من القوات البحرية مثله، وتُقدِّم لهم مزايا مثل تذاكر مخفضة للسينما وإضافات مجانية لوجبة شعرية الرامن. لكن عندما يذهب إلى هيروشيما، فهو لا يأخذ زيّه معه. قال ياماغيوا: "(المدينة) لها جوها الخاص، وأنا أشعر بذلك".
زيارة سنوية
في البداية، كان متطوعون يجلبون الماء من المناطق المحيطة بهيروشيما إلى ضريح ضحايا القصف الذري، الذين مات كثير منهم وهم يبحثون عما يصلح للشرب، ثم أقيم سجل للضحايا. أما حديثاً فقد وضع كيشيدا إكليل زهور وهو يرتدي بزة وربطة عنق سوداوين إلى جانب صخرة عليها نقش يقول: "ارقدوا بسلام. نحن لن نكرر نفس الغلطة".
في مطلع أغسطس 2022، انطلق مئات السياسيين اليابانيين والشخصيات الأجنبية البارزة في زيارتهم السنوية لهيروشيما من أجل إحياء الذكرى السنوية للقصف. حتى خلال فعالية مهيبة كهذه، كان مستحيلاً تجنُّب الجدل الذي أثارته السياسات الأخيرة. كان يُمكن سماع احتجاج صاخب من على مسافة أثناء حديث كيشيدا، الذي وعد بعدم تكرار "كارثة ذلك اليوم قبل 77 عاماً".
كانت مجموعات سلمية تنظم مسيرة خارج قبة القنبلة الذرية، وهي صالة عرض من الأحجار والصلب نجت من الانفجار على غير المتوقع. كانت إحدى اللافتات التي رفعها الحشد تحمل تعليق: "لنستخدم غضب هيروشيما لمنع المراجعات الدستورية"، وصاحت ناشطة عبر مكبّر صوت: "لسنا بحاجة للحرب ولا للرؤوس النووية ولا للقواعد العسكرية".
قبل توليه رئاسة الوزراء في 2021، قدّم كيشيدا نفسه على أنَّ موقفه من ناحية الأمن معتدل. تحدَّث كيشيدا مراراً عن سماع قصص الهيباكوشا الناجين خلال زياراته لهيروشيما أثناء طفولته. نشر كيشيدا في 2020 كتاباً بعنوان "نحو عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية" (Toward a World Free of Nuclear Weapons).
لذلك كان إصرار كيشيدا على التحرك بوتيرة أسرع من شينزو آبي، فيما يخص التوسع العسكري، مفاجأة للمراقبين السياسيين. قال كيشيدا إنَّه يعتزم مراجعة المادة 9 من الدستور أثناء توليه المنصب، وهو ما سيتطلب موافقة الغالبية العظمى في مجلسي البرلمان إلى جانب استفتاء رأي على مستوى البلاد.
تفسر الأوضاع الجديدة جزئياً سرعة التغيير. أبرزت الحرب في أوكرانيا قضايا الدفاع في اليابان، مثلما حدث في دول أخرى. في الوقت ذاته، أصبح تجاهل التوترات المتزايدة بشأن تايوان صعباً. أطلقت الصين خلال الصيف الماضي وابلاً من الصواريخ الباليستية حول الجزيرة، وسقط بعضها في مياه اليابان الإقليمية. كان ذلك بمثابة تحذير لطوكيو بشأن التكلفة التي قد تتكبدها إن دخلت في صراع.
دعامة سياسية
قد تُشكل أصول كيشيدا دعماً سياسياً افتقر له أسلافه من القادة اليابانيين. كما يُقال أحياناً إنَّ الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وحده، وهو من غُلاة الحرب الباردة، كان يستطيع إعادة العلاقات الأميركية مع الصين في سبعينيات القرن الماضي، فربما يكون رئيس وزراء يتحدر من هيروشيما هو من يستطيع تصحيح وضع اليابان بشكل أكثر حزماً فيما يتعلق بالأمن.
تشير عمليات اقتراع أنَّ الشعب لا يعارض تلك الفكرة. وجد مسح أجرته هيئة الإذاعة العامة "إن إتش كيه" (NHK) في ديسمبر أنَّ 51% من المشاركين رجّحوا كفة رفع الإنفاق الدفاعي بشكل كبير، فيما اعترض 36%.
قالت، الناجية التي عملت لدى "جابان ستيل ووركس" في مراهقتها، إنَّ فكرة إعادة تسليح اليابان تكسر قلبها. لدى كاتو مخاوف بشأن زيادة حجم قوات الدفاع الذاتي كما أنها تعارض تعديل الدستور الذي قد يحدث، إذ ينتابها شعور بالقلق من أنَّ الجيش قد يمتلك قوة أكثر مما ينبغي.
بكت كاتو في فعالية أخرى أقيمت في أغسطس لذكرى طلاب ومدرّسي مدرستها الثانوية الذين قضوا في انفجار القنبلة الذرية وعددهم 676، كما كانت تبكيهم في كل عام مضى منذئذ.
لكن حتى كاتو نفسها تفقد جانباً من مثاليتها في ظل دنو التهديدات. قالت كاتو: "لقد نبذت اليابان الحرب... لكن إذا شنّت دول أخرى هجوماً، ستضطر اليابان أن تحمي مواطنيها".