يأخذ مسعى إيلون ماسك للهيمنة على صناعة السيارات العالمية منعطفاً جديداً تنقسم حوله الـآراء، إذ هناك من يرى أن ماسك هو هنري فورد في عصر السيارات من طراز "موديل تي" (Model T)، ويعتقد آخرون أنه يشبه ستيف جوبز في بداية عهد "أيفون". لكن ماذا لو كان ماسك مثل ريك واغنر، الذي ساءت أوضاع "جنرال موتورز" تحت قيادته؟
خفضت "تسلا"، التي يرأسها ماسك، سعر سياراتها الكهربائية ما لا يقل عن 6 مرات فيما انقضى من هذا العام، فقد شطبت قرابة ثلث سعر أفضل طرازاتها مبيعاً في الولايات المتحدة. ليس لهذه الاستراتيجية أي سابقة، كما أنه لا يوجد إجماع على إذا ما كانت تنبئ بمزيد من الاضطرابات في القطاع أو تؤشر إلى شعور ماسك باليأس.
هنري فورد أم ستيف جوبز؟
تضم المجموعة التي تقارن ماسك بهنري فورد، الرئيس التنفيذي لشركة "فورد موتور" التنفيذي جيم فارلي، الذي قال للصحفيين الأسبوع الماضي: "انظروا لما حدث في 1913"، معتبراً أن الخطوات التي اتخذها ماسك، مثل تطوير منتج يعكس الحقبة الزمنية وابتكار طريقة صناعته وخفض التكلفة، تُذكر بما فعله فورد.
أما نظرية تشبيه ماسك بستيف جوبز، فهي تنطوي على تطبيق ماسك لأساليب شركات سيليكون فالي في قطاع السيارات الكهربائية. كما عفا الزمن على أجهزة "نوكيا" و"موتورولا" بسبب "أيفون"، فإن ماسك يود أن يقضي على "ريفيان أوتوموتيف" و"لوسِد"، بل إنه بحاجة لذلك.
تمثل "جنرال موتورز" تجربة تدعو للحذر. لقد رفع واغونر الحوافز بدلاً من قبول أن إنتاج الشركة كان أكبر من اللازم بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. وضعت حملة شعارها "لندفع أميركا للاستمرار" مدينة ديترويت على مسار نهايته الدمار– أشهرت شركتا "جنرال موتورز" و"كرايسلر" إفلاسهما في 2009، وبالكاد تفادت "فورد" فرض الحماية من الدائنين بموجب الفصل 11 من قانون الإفلاس الأميركي.
قيمة "تسلا" السوقية
كانت خطط ماسك موضع تدقيق في السابق. في 2018، اختلف جيم تشانوس ودايفيد إينهورن، وهما بائعان على المكشوف من المتشائمين تجاه السوق، مع كاثي وودز، مؤسِسة "آرك إنفستمنت مانجمنت" (ARK Investment Management)، والمستثمر الملياردير رون بارون بشأن ما إذا كانت "تسلا" ستتخطى الصعوبات الأولية لإنتاج أعداد كبيرة من السيارات، ناهيك عن قدرتها على الازدهار.
قفزت القيمة السوقية للشركة من نحو 57 مليار دولار في نهاية ذلك العام إلى أكثر من تريليون دولار واستمر ذلك حتى فترة قريبة في أبريل 2022. تراجع تقييم الشركة إلى ما دون 500 مليار دولار خلال جلسة تداول في 19 إبريل.
سيحدد أحدث تحول استراتيجي لماسك، ما سيحدث بعد ذلك في قطاعٍ قلبته "تسلا" رأساً على عقب على مدى العقد الماضي. بعدما تسببت الجائحة في الاضطرابات الأكبر من نوعها خلال أجيال عدة في آليات العرض والطلب في قطاع السيارات، يراهن ماسك على أن منافسيه لن يكون أمامهم خيار سوى التجاوب مع خطوة خفض الأسعار.
قال لوكا دي ميو، الرئيس التنفيذي لصانعة السيارات الفرنسية "رينو"، خلال حديث هذا الأسبوع عن ضغوط التسعير التي تتسببها "تسلا": "نحن نحاول أن نقاوم ذلك". كان قد قال في حديث في يناير بصفته رئيس مجموعة تجارة السيارات في أوروبا إن شركات صناعة السيارات ستحتاج إلى تحقيق أرباح من بيع المركبات الكهربائية "وإلا سيصبح هذا من البداية نشاطاً لا يتمتع بالمقومات اللازمة".
رغم سعي المنافسين لتخطي أزمة خفض الأسعار، تكشف نظرة عن كثب إلى "تسلا" نفسها أن الأمور تتغير داخل إمبراطورية ماسك.
مصانع جديدة
لطالما كان بوسع المستثمرين الاعتماد على ما يقوله ماسك عن النمو. في سنواتها الأولى، توسعت "تسلا" بشكل متقطع بعدما بدأت بمصنع سيارات واحد في كاليفورنيا. بعد افتتاحها مصنعاً ثانياً في شنغهاي في أوائل 2020، أصدرت الشركة توقعات طموحة للغاية وهي بلوغ متوسط نمو تسليمات المركبات 50% على مدى بضعة أعوام، وارتفاع السعة الإنتاجية بأسرع وتيرة ممكنة.
أوفت "تسلا" بهذا الجانب من الخطة، إذ افتتحت مصنعين جديدين للسيارات خلال شهرين في مطلع العام الماضي، الأول بالقرب من برلين والثاني في أوستن بولاية تكساس.
لكن تشكيلة السيارات هي ما لم يتوسع فيه ماسك خلال الأعوام القليلة الماضية. عزز هذان المصنعان في ألمانيا وتكساس السعة الإنتاجية للسيارات الرياضية متعددة الاستخدامات من طراز "واي" (Model Y)، وهي أحدث سيارة ركاب جديدة أضافتها الشركة لتشكيلتها. حقق طراز "واي" نجاحاً هائلاً، وكان ذلك السبب الرئيسي في زيادة الشركة لمعدل التسليمات بوتيرة أسرع بكثير بعد ذلك، خلال الفصول الخمسة الأولى من توقعها متوسط نمو سنوي يبلغ 50%.
لكن في الفصول الأربعة الأخيرة، رغم العمل بكل هذه السعة الإنتاجية الإضافية، تراجعت وتيرة التسليمات إلى ما دون ذلك المستوى. السؤال الآن هو: هل يفقد طراز "واي" جاذبيته بعض الشيء؟ أم أن المشكلة في بقية تشكيلة "تسلا" من السيارات الأقدم حتى منه؟
كان الطلب على "موديل واي" استثنائياً، إن أخذنا بالاعتبار أن سعرها فاق 65 ألف دولار في الولايات المتحدة العام الماضي. كانت هناك فرص محدودة لارتفاع مبيعات مركبة باهظة السعر بهذا الشكل في أوقات الرخاء، ناهيك عن بيئة ترتفع فيها أسعار الفائدة.
تبدأ الأسعار الآن عند أقل من 47 ألف دولار بقليل، وهناك تقارير تفيد بأن هناك نسخة محدثة قيد الإنتاج، ما يعني أن طراز "واي" لديه فرصة للتربع على عرش تصنيفات المبيعات العالمية، وهو إنجاز لم يعتقد أي شخص خلال الأعوام القليلة الماضية أن تحقيقه ممكن.
أما طراز "3" (Model 3)، فهو بحاجة إلى بعض التحسينات، وذلك لأنه شارف على إتمام عامه السادس دون أن يخضع لتعديلات رئيسية في التصميم. ذكرت وكالة رويترز أن هذا الطراز سيخضع لتحديثات هو الآخر في وقت لاحق من هذا العام.
الفجوة بين "تسلا" ومنافسيها
بالنسبة لحجم المقارنة بين ماسك وهنري فورد أو ستيف جوبز، فهو مبني على نجاح طرازيّ "واي" و"3". السيارة الأخرى الوحيدة التي تقترب من رأس قائمة مبيعات المركبات الكهربائية على المستوى العالمي هي سيارة صغيرة الحجم يبلغ سعرها 4,500 دولار وتنتجها "جنرال موتورز" بالشراكة مع شركتين صينيتين.
مع تحقيق مركبتين كهربائيتين تُنتجان بأعداد كبيرة لوفورات بلا نظير نتيجة زيادة حجم الإنتاج، وابتكارات تصنيع مثل بناء هياكل مركبات من قطعة واحدة وبطاريات أبسط، تستطيع "تسلا" خفض تكاليف وأسعار مركباتها.
أما الشركات المنافسة، مثل "ريفيان" و"لوسِد"، فهي ما تزال بعيدة جداً عن الوصول لنقطة التساوي بين الإيرادات والمصروفات، ويمكن قول الشيء ذاته بشأن "فورد" وغيرها من الأطراف المعنية التي تؤسس نشاطها في قطاع تصنيع المركبات الكهربائية.
كان تحقيق الاستدامة لهذه الأنشطة، قبل وصول تكاليف البطاريات إلى نقطة التعادل مع محركات الاحتراق الداخلي، سينطوي على ما يكفي من الصعوبة أصلاً. لكن الاتجاه الجديد الذي يسلكه ماسك الآن يزيد صعوبة تلك المهمة.
هوامش الأرباح
قالت ماري بارا، رئيسة "جنرال موتورز" التنفيذية، في 18 إبريل: "ينبغي الوصول بالسعر إلى مستوى ملائم لإمكانيات العميل المادية". كما أوضح الرئيس المالي للشركة بول جيكوبسن في مقابلة مع تلفزيون بلومبرغ أن "جنرال موتورز" تضع "تسلا" نصب عينيها، قائلاً: "لدينا منافس يحقق نتائج قوية للغاية وهوامش أرباح كبيرة للغاية. علينا التأكد من خفض تكاليفنا".
شركات تصنيع السيارات معتادة بشكل كبير على العمل بهوامش أرباح محدودة جداً، ويتحلى إيلون ماسك بالتفاؤل، إذ أصر الأسبوع الماضي أن بإمكان "تسلا" نظرياً عدم تحقيق أرباح في البداية ثم تحقيقها لاحقاً من خلال برمجيات القيادة الذاتية.
لكن هناك أسباب عدة للتشكيك في ذلك الأمر، أبرزها هو إفراط ماسك منذ فترة طويلة بالترويج لإمكانيات القيادة الذاتية في سيارات "تسلا". ليس واضحاً ما إذا كان ماسك مستعداً حقاً للتضحية بهوامش أرباح "تسلا" –فهو يملك قدراً كبيراً ومتنامياً من السيولة– أو أن حقيقة الأمر هي أن خياراته في هذا الأمر محدودة بأكثر مما أفصح عنه. لم يرد ماسك فوراً على طلب بالتعليق.
بعد فشل "تسلا" في تحقيق مستهدف نموها للعام الماضي، عندما ارتفعت مبيعات المركبات 40%، حددت الشركة هدف الإنتاج لهذا العام بما يتماشى تقريباً مع ذلك المعدل، إن لم يكن بوتيرة أبطأ. رغم كل التخفيضات التي قدمها ماسك في الربع الأول، زادت نسبة التسليمات 37%، مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق.
كانت التخفيضات تعني أن إجمالي هامش أرباح سيارات "تسلا"، وهي بالفعل نقطة تركيز رئيسية للمستثمرين منذ فترة طويلة، كان هو الرقم الذي تترقبه وول ستريت حينما أعلنت الشركة عن أرباح الربع الأول هذا الشهر. كانت "تسلا" قد قالت إن الرقم سيظل أعلى من 20% هذا العام.
بدل التصريح علناً بعدم قدرتها على الوصول لهذه النسبة، حذفت "تسلا" كل ما يرتبط بإجمالي هامش أرباح السيارات من إعلان الأرباح، ما دفع المحللين والمستثمرون لحساب النسبة بأنفسهم. اتضح أن هامش الأرباح لهذا الربع، الذي بلغ 19%، هو الأقل خلال 11 فصلاً.
أهمية حداثة المنتج
لا تملك "تسلا" أيضاً أعظم السجلات في تحقيق نتائج من خلال إعادة تصميم السيارات. سلكت الشركة نهجاً ينطوي على إجراء تغييرات محدودة في تحديث سيارة سيدان من طراز "إس" (Model S) والسيارة الرياضية متعددة الاستخدامات من طراز "إكس" (Model X) قبل عامين.
تبدو مظاهر التقادم الآن على السيارتين، اللتين أُطلقتا في 2012 و2015 على التوالي، رغم تحديثات في أداء المركبتين وصالونيهما. سلّمت "تسلا" 10695 مركبة فقط في الربع الأول من هذا العام، وهو أدنى مستوى خلال عامين تقريباً، رغم خفض ماسك للأسعار بنحو 23 ألف دولار للمركبة الواحدة.
زادت "تسلا" من تخفيضات أسعار طرازي "إس" و"إكس" في الأسبوع الأول من أبريل، ثم غيّرت مسارها، إذ رفعت الأسعار قليلاً بعد إعلان نتائج الأرباح تلك.
ضرب فارلي، الرئيس التنفيذي لـ"فورد"، مقارنة إيجابية إلى حد كبير بين استراتيجية ماسك في هذا القرن واختراع هنري فورد لخط الإنتاج المتحرك قبل 110 أعوام. لكنه ألمح إلى درس واحد رئيسي تعلّمه فورد في نهاية المطاف بعدما أتاح رفضه استبدال طراز "تي" فرصة لـ"جنرال موتورز" وشركات أخرى للحاق به. قال فارلي مشيراً إلى ماسك: "ما سيتعلمه هو أن حداثة المنتج لها أهمية كبيرة".