حين تراجعت صادرات الأغذية عبر البحر الأسود بعدما غزت روسيا أوكرانيا، راحت كبرى شركات الأغذية تتخبط بحثاً عن مصادر بديلة للحبوب والبذور الزيتية.
لكن بما أن الأطعمة المصنّعة في أيامنا هذه هي خليط من مثبتات ومواد مضافة وأخرى حافظة ومُحليّات وملح ومنكهات، إضافة إلى المكوّنات الأساسية، فإن أي تغيير قد يطرأ ولو على مكوّن واحد، كأن يتغير مصدر زيت دوّار الشمس على سبيل المثال، يتطلب تعديل كامل الوصفة ليبقى نفس المذاق والقوام اللذين يتوقعهما المستهلك.
فرصة سانحة
شكّل هذا الأمر فرصة للشركة التجارية الزراعية "بونغي" (Bunge) التي تعمل في القطاع منذ 205 سنوات. على مدى السنوات الخمس الماضية ضاعفت الشركة خمس مرّات إنفاقها على بحوث تهدف لمساعدة سلاسل صناعة الوجبات السريعة وموردي السلع المعبأة مثل شركة "يونيليفر" (Unilever) و"لوتي" (Lotte) على تطوير وصفات جديدة، وتعديل الوصفات القديمة سريعاً في حال لزم الانتقال لاستخدام مصادر مختلفة أو تطلب الأمر تغييراً في المكونات.
تمتلك "بونغي" اليوم 15 "مركز ابتكار" في تسع دول، حيث يعمل أكثر من 200 عالم متخصص بالغذاء على تطوير مثل هذه المبادرات. قال آرون بويتنير، رئيس قسم حلول الغذاء في "بونغي" فيما كان يتذوّق منتجاتها من كريات اللحم النباتية والناتشوز في مقرّ الشركة في سانت لويس: "كانت لدينا قاعدة زبائن ضخمة تعتمد على السلع التي كنّا نعتزم جلبها من البحر الأسود... وقد عمل فريقنا الأوروبي سبعة أيام في الأسبوع على إجراء تعديلات واختبارات".
بدائل لأوكرانيا وروسيا
نجم الضرر الأكبر عن التوقف شبه التام لصادرات زيت دوّار الشمس من أوكرانيا وروسيا، وذلك نظراً لصعوبة محاكاة نقطة التدخين العالية للزيت وطعمه ولونه المحايدين. فيما امتنع بويتنير عن كشف التفاصيل، إلا أنه أوضح أن "بونغي" ساعدت بعض عملائها على الانتقال لاستخدام زيت دوّار الشمس المستقدم من أوروبا الغربية أو الأرجنتين.
كما ساعد علماء الغذاء في "بونغي" منتجي الخبز وصلصات السلطة ورقائق البطاطس والكعك وغيرها على استبدال زيت دوّار الشمس بزيت الكانولا وزيت النخيل. قال بويتنير: "اضطررنا لتنظيم استجابة لكلّ عميل على حدة".
تشغّل "بونغي" أكبر شبكة عالمية من منشآت السحق، هي تُعالج محاصيل مثل حبوب الصويا وبذور الكانولا ودوّار الشمس لصنع الزيوت والعلف الحيواني. إلا أن شبكتها من مراكز الاختبارات والبحوث التي تتكامل مع أصولها التجارية التقليدية مثل المحطات في الموانئ ورافعات الحبوب هي التي مكّنت الشركة من التعامل مع العرقلات الناجمة عن الحرب، وأيضاً على كسب 150 عميلاً جديداً يبحثون عن بديل عن زيت دوّار الشمس.
رغم أن "بونغي" تخلفت في سباق تطوير تقنيات غذائية جديدة عن بعض منافسيها، إلا أنه بحسب الاستشاري في مجال الأغذية هانك هوجينكامب: "واضح أن الشركة على وشك اللحاق بهم اليوم".
مركز ابتكاري
افتتحت "بونغي" مركز ابتكار يمتد على مساحة 3700 متر مربع قرب سانت لويس في 2017، مزوداً بمعدات طحن وأفران ومواقد وقلايات تحاكي منشآت سلاسل صنع الوجبات السريعة.
كما أنَّ فيه مطبخاً للذواقة، حيث يعدّ الطهاة أطعمة مثل الكعك والبوظة والنقانق النباتية المحضّرة من مكوّنات طوّرتها "بونغي" لمحاكاة طعم الزبدة وغيرها من الدهون الحيوانية وقوامها.
يضمّ المكان أيضاً ما يزيد عن عشر مقصورات حيث تمرّ عيّنات من خلطات جديدة ليتناولها متخصصو التذوّق، فيما تتحوّل الأضواء بين الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر للحدّ من أي تحيز قد ينجم عن الشكل ويأثر على الإحساس بالنكهة.
عملت "بونغي" في تجارة الحبوب بشكل أساسي على امتداد معظم تاريخها، فقد نافست شركات مثل "أرشر- دانيالز- ميدلاند" (Archer-Daniels-Midland) و"كارغيل" (Cargill) و"لويس دريفوس" (Louis Dreyfus). تأسست الشركة في 1818 على يد المستورد يوهان بونغي في أمستردام، وبعد سبع سنوات تحالفت مع شركة أخرى للبدء بتجارة الحبوب. توسّعت الشركة بعد ذلك نحو أميركا اللاتينية في 1884 ثمّ الولايات المتحدة في 1932، وقد بدّلت الشركة مقرّها عدّة مرّات منذ ذلك الحين، من الأرجنتين إلى البرازيل ونيويورك وأخيراً سانت لويس.
تجارة محفوفة بالمخاطر
إلا أن تجارة الحبوب عمل صعب حيث هامش الربح قليل والمخاطر عالية. تسبب رهان خاطئ على حبوب الصويا في 2018 نتيجة الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة بخسارة فصلية مفاجئة أدت إلى انخفاض سهم "بونغي" 20% ودفع بمجموعة من المستثمرين الناشطين في شركتيْ "دي. إي. شاو أند كو" (D.E. Shaw & Co) و"كونتينانتيل غراين" (Continental Grain) للمطالبة بإحداث تغيير.
عزل مجلس الإدارة إثر ذلك الرئيس التنفيذي سورين شرودير وعين مكانه غريغ هيكمان الذي عمل على تخفيض التكلفة وبيع المؤسسات سيئة الأداء وركز على إدارة المخاطر وتحفيز النموّ.
قال بن بيانفونو، المحلل في شركة "ستيفنز" (Stephens): "أتى هذا الفريق حاملاً رؤية واضحة تهدف للتخلص من الأصول غير الأساسية وغير المنتجة".
توسع نحو وقود الطائرات
سجلت مبيعات "بونغي" من الديزل المتجدد الذي تصنعه من زيوت الطهي بالتعاون مع شركة "شيفرون" ارتفاعاً كبيراً، ما أسهم في زيادة إيرادات أعمالها في مجال الزيوت المكررة والتخصصية من 9.1 مليار دولار في 2019 إلى 16.8 مليار دولار العام الماضي.
تضاعف تقريباً سعر سهم "بونغي" مع ارتفاع الأرباح تحت إدارة هيكمان. ودخل سهمها مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" في مارس.
بالتالي، أصبح بمتناول الرئيس التنفيذي مبالغ نقدية كبيرة يقول إنه سيستخدمها في الاستحواذات التي "من شأنها أن تسدّ أي نقاط ضعف لدينا فيما نستمر في بناء قوتنا". كما يشير إلى عزمه التوسع نحو وقود الطائرات، وهو قطاع قد يصل حجمه إلى 15 مليار دولار بحلول 2030، حسب الشركة البحثية "بريني إنسايت" (Brainy Insights) رغم أن التقنية تحتاج وقتاً طويلاً لتنضج. قال هيكمان: "الأمر أكبر من أن نتجاهله".
توسع مستمر
برغم بدء تباطؤ الطلب على اللحوم الصناعية، فإن شعبيتها أغدقت مكاسبَ على "بونغي"، بالأخص بعد أن كانت قد استحوذت في 2018 على 70% من شركة إنتاج الزيوت النباتية "لودرز كوركلان" (Loders Croklaan) مقابل 946 مليون دولار. الشركة التي قامت باستثمارات كبرى في البروتينات البديلة والبدائل النباتية للدهون الحيوانية عززت طاقة "بونغي" في هذه المجالات بقوة وزادت قدرتها على مساعدة العملاء على إعادة تحضير الوصفات لتتناسب مع تغيرات المكوّنات المتوفرة.
مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، ما تزال الإمدادات العالمية من زيت الطهي شحيحة، فيما تسعى "بونغي" لمساعدة الشراة على العثور على الموارد التي يحتاجونها. رغم أن وتيرة النموّ ستتباطأ على الأرجح مقارنة بالسنوات القليلة الماضية، يقول مسؤول حلول الغذاء بويتنير إن نشاط الشركة سيستمر في التوسع بأسرع من القطاع بشكل عام.
أضاف: "معلوم أن الأمر يتصل بسلسلة القيمة الأساسية لجهة تواجدنا في مجال زيوت البذور... توجد كثير من المشاكل المتعلقة بتطوير المنتجات المثيرة للاهتمام تتطلب أن نحلّها".