قدمت "تشات جي بي تي" (ChatGPT)، أداة الذكاء الاصطناعي الشهيرة من "أوبن إيه آي" (OpenAI) في الأسابيع الأولى من عملها ما يمكن أن يُصبح نموذجاً جديداً للبحث على الإنترنت. تجيب روبوتات المحادثة على أسئلة متعلقة بموضوعات محددة من بينها العلوم السياسية وبرمجة الكمبيوتر بالتفصيل عبر نموذج مبني على أسئلة وأجوبة يمكن للمستخدمين خوضها إلى أن يتوصلوا إلى فهم كامل للإجابات.
يتعين على مستخدمي "غوغل" عند إجراء بحث مشابه مراجعة نتائج البحث في مواقع مختلفة حتى يصلوا إلى استنتاجاتهم الخاصة، توفر "تشات جي بي تي" في المقابل إجابات حاسمة (أو على الأقل تبدو حاسمة) خلال ثوانٍ معدودة.
التريليون المقبل لـ"غوغل" سيأتي من البحث والذكاء الاصطناعي
لدى "غوغل" تابعة "ألفابيت" مكانة راسخة في مجال البحث تصعب منافستها، لكن عدداً قليلاً من الشركات التي أسس بعضها موظفون سابقون لدى "غوغل" تعتقد أن هذا يوشك أن يتغير.
يقول رواد تلك الأعمال إن هناك بدايات تحول جذري عن نموذج البحث السائد المعتمد على الكلمات المفتاحية، الذي تمسح فيه محركات البحث مواقع الويب بحثاً عن كلمات محددة، توجهاً نحو بحث تدعمه نماذج برمجة لغوية تحلل قواعد البيانات النصية الضخمة لتطوير قدرتها على فهم استفسارات المستخدم واستخلاص إجابات مباشرة. تلك هي التقنية التي تستخدمها "تشات جي بي تي" لإعداد الإجابات بسرعة.
أرباح الإعلانات
تعمل "غوغل" على تطوير بعض الاكتشافات التقنية التي تدعم البحث عبر نماذج البرمجة اللغوية الضخمة في مختبرات أبحاثها. لكن رواد الأعمال الذين غادروا الشركة خلال السنوات الأخيرة يقولون إن "غوغل" ستعاني للاستفادة بالكامل من إمكاناتها التقنية في ذلك بسبب نموذج عملها شديد الربحية، الذي يرفق نتائج البحث بالإعلانات.
أرباح "ألفابت" تهبط أقل من المتوقع بضغط ضعف البحث في "غوغل"
بلغت إيرادات "غوغل" من الإعلانات في الربع الأخير 54.48 مليار دولار، أي ما يعادل 78.9% من إجمالي إيراداتها، وكانت للإعلانات في نتائج البحث المساهمة الأكبر.
قال سريدهار راماسوامي، كبير المسؤولين التنفيذيين للإعلانات في "غوغل" سابقاً والرئيس التنفيذي الحالي لشركة "نيفا" (Neeva) صاحبة محرك البحث الأكثر حساسية للخصوصية: "إن (غوغل) ضحية نجاحها، فهي محاصرة في سياق محدود حول شكل وعمل صفحة نتائج البحث".
قد تحتاج "غوغل" أن تلزم نفسها بمستوى أداء لدى استخدام التقنية الناشئة يفوق ما تقدمه الشركات الناشئة، فغالباً ما تقدم "تشات جي بي تي" وباقي مستخدمي نماذج البرمجة اللغوية الضخمة معلومات خاطئة بطريقة تبدو صحيحة في ظاهرة يسميها علماء الكمبيوتر "الهلوسة".
طرق بحث جديدة
على العكس من نتائج البحث عبر "غوغل"، لا تكشف "تشات جي بي تي" مصادر المعلومات التي تقدمها للمستخدمين، كما اعترفت "أوبين إيه آي" قبلاً بتقديم إجابات غير صحيحة أحياناً. لكن "غوغل" أيضاً قد توجه المستخدمين لمواقع تنشر معلومات مضللة، لكن تقديم معلومات خاطئة باسم "غوغل" أمر مختلف تماماً وأخطر.
رفضت "غوغل" التعليق، بينما قالت "أوبين إيه أي" في بيان إن "تشات جي بي تي" لا تدمج بيانات من الإنترنت في إجاباتها، مشيرة إلى أن الإصدار الحالي تجريبي يهدف إلى تطوير نماذج "أكثر أماناً وموثوقية لتكون مناسبة ومفيدة أكثر" كما أنه ليس معدّاً لتقديم نصائح.
قدمت "غوغل" في 1989 محرك البحث الذي يعتمد على خوارزمية "بيج رانك" (PageRank) التي تعتبر أيقونتها، وهي ترتب أهمية كل موقع ويب وفقاً لارتباط باقي المواقع به، وسرعان ما هيمنت "غوغل" على محركات البحث.
"غوغل" تشارك بياناتنا بقدر مذهل
واصلت "غوغل" على مدى عقود فهرسة الويب وتوسعة نطاق معلوماتها بما يمكنها من الرد على الاستفسارات بطريقة لا مثيل لها. على النقيض، بدأ تدريب "تشات جي بي تي" بعد 2021 على قاعدة بيانات تضم معلومات محدودة ما يجعل المعرفة المتاحة لديها محدودة بعامل الوقت.
عمدت "غوغل" في السنوات الأخيرة لاتخاذ خطوات تساعد بها المستخدمين على البحث بطرق جديدة منها استخدام كاميرا الموبايل وعبر الدمج بين الصورة والنص، كما بدأت باستخدام نماذج برمجة لغوية ضخمة لتحسين فهم استفسارات المستخدمين، واستخدمت تلك التقنية في "إبراز المقتطفات" للتركيز على المعلومات الأساسية المرتبطة باستفسار المستخدمين في الصفحات التي تضمنتها نتائج البحث.
هجرة المهندسين
تستطيع "غوغل" بقدرتها على بلوغ بيانات ومصادر حوسبة ضخمة أن تكون المكان المثالي لتطوير برامج متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي. برغم ذلك، غالباً ما يرغب المهندسون بحركة أسرع من وتيرة العمل داخل الشركات الكبيرة، لذا غادر كثيرون "غوغل"، خاصة بعض الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي.
كانت بين أبرز مساهمات عملاق التقنية في مجال الذكاء الاصطناعي ورقة بحثية صدرت في 2017 بعنوان "الاهتمام هو كل ما تحتاجه" واستعرضت مفاهيم آليات التحول والأنظمة التي تساعد نماذج الذكاء الاصطناعي بالتركيز على أبرز المعلومات الواردة في البيانات التي تحللها. نجد أن سبعة من مؤلفي الورقة الثمانية غادروا الشركة إلى شركات ناشئة خلال السنوات الأخيرة، وبمراجعة الملفات الشخصية على "لينكد إن"، اكتشفنا أن 5 منهم على الأقل أسسوا مشاريعَ لهم في مجال الذكاء الاصطناعي.
"غوغل" تطرد مهندس ذكاء اصطناعي لادعائه التواصل مع روبوت "واعٍ"
لدى سؤال نعوم شيزير، أحد مؤلفي الورقة البحثية ومؤسس شركة "كاراكتر دوت إيه أي" (Character.AI) عن سبب اقتناعه بالفرصة المتاحة في التحول إلى ريادة الأعمال، قال بشكل صريح: "يمكن للشركات الناشئة التحرك وإطلاق الأشياء بوتيرة أسرع".
تهديد وجودي
يصف مراقبو الصناعة التهديد الذي يواجه "غوغل" بأنه أقرب إلى أن يكون تهديداً وجودياً. حيث أقر "مورغان ستانلي" في مذكرة للمستثمرين في ديسمبر احتمال تحول مستخدمي "غوغل" نحو برامج الذكاء الاصطناعي للحصول على إجابة استفسارات مثل تقييمات المنتجات والسفر.
كتب بول بوشيت، الموظف السابق لدى "غوغل" الذي أنشأ "جيميل"، في تغريدات عبر "تويتر" أن الشركة قد يكون "أمامها عام أو عامان فقط قبل أن تشهد اضطراباً تاماً".
رغم ذلك، فإن نحو ثلثي عمليات البحث عبر "غوغل" تنتهي دون لجوء المستخدمين لموقع آخر، وفقاً لشركة أبحاث السوق "سبارك تورو" (SparkToro) وشركة التحليلات "سيميلر ويب" (Similarweb).
قال مانديب سينغ المحلل لدى بلومبرغ إنتليجينس إن ذلك يوحي بأن كل ما على "غوغل" أن تفعله هو تعديل صفحة نتائج البحث بشكل يكشف ما تفعله لتوجيه استفسارات المستخدمين. أضاف سينغ: "لدى (غوغل) بيانات تمنحها ميزة تنافسية قوية جداً تجعل تراجع مكانتها بمجال البحث مستبعداً".
لم يمنع ذلك الشركات الناشئة من أن تحاول. يرى إدوين تشين، مؤسس منصة تصنيف البيانات "سيرج إيه أي" (Surge AI) التي تعمل مع شركات البحث الناشئة، أن عوائق دخول المجال انحسرت مع توافر العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي في مصادر عامة وبشكل تجاري.
أجرت شركة تشين بحثاً استقصائياً استطلعت فيه آراء المستهلكين وأظهر تفضيل المستخدمين في الغالب لنتائج البحث من الشركات الجديدة مثل "نيفا" و"يو دوت كوم" (You.com) و "كاغي" (Kagi) خاصة حين يتعلق البحث بالحصول على وصفات. قال تشين: "لم تعد بحاجة لمئات ملايين الدولارات لتتغلب على (غوغل)".
نموذج العمل
تتباين نماذج الأعمال التي تعتمدها شركات البحث الناشئة، حيث تعتمد "فيكتارا" (Vectara)، التي أسسها موظفون سابقون لدى "غوغل"، على بيع برامجها للشركات لتمكن مواقعها على الإنترنت من تقديم بحث مدعوم بنماذج برمجة لغوية ضخمة. تحتاج تلك النماذج لقوة حوسبة هائلة ما يعطي شركات البحث الأكبر ميزة تنافسية مقابلها، لكن "فيكتارا" قالت إنها اكتشفت طريقة مناسبة تجعل نموذج العمل الخاص بها اقتصادياً عبر الاستخدام النسبي لنماذج برمجة لغوية ضخمة لمعالجة النصوص المتاحة ما يجعلها طريقة أرخص من صنع الردود.
أما "كاغي" و"نيفا" وباقي محركات البحث الخاصة بالمستهلك فتعتمد على نموذج عمل يرتكز إلى تقديم عمليات بحث غير محدودة للمستخدمين مقابل رسوم شهرية.
التريليون المقبل لـ"غوغل" سيأتي من البحث والذكاء الاصطناعي
قال راماسوامي، الذي عمل 15 عاماً لدى "غوغل" قبل أن يشارك بتأسيس "نيفا" في 2019 إن استراتيجيات مثل اختصار حجم البيانات لتصبح أكثر كفاءة، التي تعتمد على خفض حجم قاعدة البيانات بما يُمكن نموذج برمجة لغوية أصغر من العمل خلالها، مكن الشركة من زيادة فعالية استخدام مواردها في الحوسبة.
أضاف راماسوامي: "أتوقع أن يصبح استخدام تلك النماذج أساسياً هو الحد الأدنى... ستتحول القوة والقيمة مجدداً إلى صانعي المنتج".
لكن راماسوامي يرى أنه لا تزال هناك قيمة كبيرة في نموذج البحث القديم، مشيراً إلى كيفية زيادة فعالية وقوة مصادر البحث عند ربط مواقع الويب بعضها ببعض.
دمج العالمين
قال راماسوامي إن "نيفا" قد دمجت نماذج برمجة لغوية ضخمة مع محرك بحث خاص بها ضمن خطتها لإصدار منتجات تضم أدوات بحث أكثر تقدماً وتركيزاً في المستقبل القريب، كما تخطط لاستخدام تلك النماذج لبناء "متصفح واحد" يكشف عن المصادر حتى يستطيع المستخدمون تقييم مصداقيتها بأنفسهم. أضاف راماسوامي: "نفكر كثيراً بكيفية الحصول على أفضل ما في العالمين".
هناك نموذج مختلف للبحث تقدمه شركة شيزير "كاراكتر دوت إيه أي"، التي أسسها مع دانيال دي فريتاس، الذي قاد فريق عمل "غوغل" لإطلاق روبوت المحادثة الرائد "لامدا" (LaMDA) لأول مرة في مايو 2021.
قدمت "كاراكتر دوت إيه أي" في سبتمبر موقعاً به مجموعة متنوعة من شخصيات روبوتات المحادثة، التي يمكن للمستخدمين التحدث معها في الوقت الفعلي وجميعها مدعومة بنماذج برمجة لغوية ضخمة، ينص الموقع في إخلاء المسؤولية: "تذكر أن كل ما تقوله الشخصيات مختلق!" ما يوفر للموقع غطاء في حالة جاءت الروبوتات بمعلومات مخلوطة تماماً.
قال شيزير: "حتى الآن، نجحنا في تقديم شيء له قيمة كبيرة يتمثل في توفير الفرح والمتعة للناس، لكن الحقيقة أن ذلك مجرد جزء بسيط مما هو آت".
تواصل "غوغل" تطوير "لامدا" ونماذج برمجة لغوية ضخمة أخرى ويساعدها في التحلي بالصبر ما تتمتع به من حصة سوقية مهيمنة، لكن هناك سبباً قوياً يدفعها للإسراع بذلك وهو البيانات التي تكتشفها في طريقها.
قال أورين إيتزيوني، مستشار وعضو مجلس إدارة في معهد ألين للذكاء الاصطناعي: "لا ينبغي أبداً الاستهانة بشركة (غوغل) لكن التحدي الذي يواجهها هو أن (تشات جي بي تي) تتعلم أيضاً".