تسمح المساحات المصممة خصيصاً للمصابين بالخرف بالعيش بحرية وقد تبطئ من تدهور حالاتهم

حياة أفضل لمرضى الخرف بفضل ساحة وحديقة وقدر من الاستقلالية

مرضى زهايمر في ساحة قرية الرعاية في فرنسا - المصدر: بلومبرغ
مرضى زهايمر في ساحة قرية الرعاية في فرنسا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

حين تزور تيريز جيفز والدتها في دار الرعاية كانت تجد تلك السيدة التي كانت تعشق المغامرة في السابق وقد تجهم وجهها ويكاد جسدها يتصلب من شدة التوتر. لقد عاشت والدتها الثمانينية مع مرض الخرف لسنوات، ولم تعد قادرة على التعبير عن مشاعرها أو حتى ألمها.

لكن لدى انتقالها إلى منشأة جديدة بُنيت على شكل قرية صغيرة، تغير سلوكها بشكل كبير. في "كير فيليدج"، مساكن بيضاء اللون على شواطئ بحيرة روتوروا في نيوزيلندا. بدا الارتياح من لغة جسدها وباتت تقضي ساعات في غرفة معيشة منزلها الريفي المشترك مع مرضى آخرين تستمع إلى الأوبرا أو مقطوعة "الفصول الأربعة" لفيفالدي. قالت جيفز: "كانوا يشغلون الموسيقى التي تحبها فتجلس هناك وتنقر بقدميها وتحرك يديها بتناغم مع الموسيقى. صحيح أنها لم تكن قادرة على التعبير عن شعورها، لكن عندما نظرت إليها وتذكرت كيف كانت عرفت أنها أسعد".

مرافق متزايدة

لم يكن اهتمام جيفز برفاهية والدتها شخصياً فحسب، فقد انخرطت بصفتها المديرة التنفيذية للقرية بكل تفاصيل مكان الإقامة المصمم لرعاية الأشخاص الذين يعانون من مراحل مختلفة من الخرف. هذه المنشأة واحدة من عدد متزايد من المجتمعات التي تنتشر حول العالم لاختبار نماذج الرعاية التي تشجع الشعور بالاستقلالية والإنجاز. يتردد صدى هذا المفهوم مع تعامل المجتمعات مع شيخوخة أفرادها، ما يثير أسئلة أساسية حول الشكل المفترض لرعاية مرضى الزهايمر والاضطرابات التنكسية الأخرى، وما إذا كان نموذج دار الرعاية التقليدي قد أصبح بالياً أم لا.

قالت جانيت سبيرنغ، وهي واحدة من مؤسسي مفهوم القرية التي ظهرت لأول مرة في هولندا: "فكرنا بما يجب تغييره لجعل هذا المكان أقرب إلى المنزل. كيف يمكننا إنشاء مجتمع يمكن للمرء من خلاله مواصلة حياته؟".

لن تأتي الإجابات بالسرعة الكافية، إذ إنه بحلول 2050، سيتضاعف عدد مرضى الزهايمر ثلاث مرات تقريباً ليبلغ حوالي 153 مليوناً. تعمل اليابان، وهي الدولة التي يشكل فيها كبار السن ثلث عدد السكان تقريباً، على ضمان بقاء الناس في منازلهم لأطول فترة ممكنة عبر تدريب أخصائيين اجتماعيين وموظفي المتاجر والمواطنين العاديين على التواصل والتحدث مع الأشخاص المصابين بهذا المرض.

عالم آمن

ينتقل مفهوم القرية بالأمر إلى أبعد من ذلك من خلال إعادة إنشاء العالم الحقيقي داخل مساحة مغلقة آمنة. في نيوزيلندا، يتشارك ستة أو سبعة منهم منزلاً. يمكنهم تسوق البقالة والطهو مع آخرين وغسل ملابسهم بدعم من الموظفين الذين دُربوا للمساعدة على تمكينهم بدلاً من أداء الأعمال المنزلية لأجلهم. كما يمكنهم أيضاً مقابلة أصدقائهم في المقهى أو التنزه على شاطئ البحيرة أو القيام ببعض أعمال البستنة.

تُجري قرية أخرى في جنوب فرنسا، قرب مدينة داكس التي كانت مشهورة كوجهة استجمام، بحثاً حول قدرة هذه الحريات على تقليل بعض أعراض الزهايمر، وإن صح هذا فكيف. إذا نجح العلماء في فيلاج لانديه بإثبات قدرة النموذج الشامل على إبطاء التدهور المعرفي، فقد يؤدي ذلك لاعتماد نهج مختلف لرعاية مرضى الخرف، فيما يعلق جزء كبير من المجتمع الطبي والجمهور والمستثمرين آمالهم على عقاقير جديدة لكنها ما تزال غير فعالة إلى حد كبير حتى الآن. قالت باولا باربارينو المديرة التنفيذية لمنظمة "الزهايمرز ديزيز إنترناشيونال" (Alzheimer’s Disease International) وهي منظمة تنضوي تحت مظلتها عدة جمعيات لمرضاه ولا ارتباط مالي لها بأي من مشاريع القرى: "هنا يصبح الناس أفضل لكن ليس بسبب الأدوية التي يحصلون عليها، بل ببساطة لأن البيئة أجمل".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

بيئة آمنة

لا يسمو هذا المفهوم فوق الانتقادات، التي يتمثل أبرزها بأن السكان محاطون ببيئة خيالية. يحاجج مؤسسو القرية بأنهم اضطروا لإيجاد طريقة لتقليد الحرية، التي لم تعد متاحة لنزلائها لو كانوا خارجها دونما تفريط بأمانهم. كما أن كلفة هذه البيئة ليست يسيرة، لكن مؤيديها يقولون إن تشغيلها أرخص من دور رعاية المسنين.

بلغت كلفة بناء القرية الفرنسية التي يبلغ عدد نزلائها 120 إنساناً 30 مليون دولار (28.8 مليون يورو). بينما يكلف بناء دار لرعاية المسنين في المنطقة نفسها يضم عدداً مماثلاً من الأسرة مبلغاً أقل بحوالي 10 ملايين دولار، وفقاً لماتيلد شارون بورنل، الناطقة باسم منطقة ليه لانديه. يصل الحد الأقصى للرسم الشهري الذي يدفعه سكان القرية دون أي مساعدة مالية حكومية أو إقليمية إلى 2000 دولار تقريباً، لكن مع الدعم قد ينخفض إلى 250 دولاراً في الشهر. في الوقت نفسه نرى أن كلفة غرفة خاصة في دار رعاية للمسنين في الولايات المتحدة تبلغ حوالي 9000 دولار شهرياً، وفقاً لجمعية الزهايمر.

منظور مختلف

قالت جيفز إن تكلفة تشغيل القرية النيوزيلندية أقل من تكلفة دار الرعاية التي حلت محلها لأنها أكثر مرونة ولها معدل دوران موظفين أقل. أضافت: "إننا أقدر على التجاوب مع حاجات النزلاء... إن أصيب أحدهم بالمرض أثناء اليوم وكان المنزل بحاجة لرعاية أكثر، يمكننا بسهولة إحضار شخص ما وسيستجيب الموظفون لذلك. إن كنت تدير مؤسسة فأنت تدير قائمة أعمال في غاية الثبات وستقدم الفطور للجميع عند السابعة والنصف، وسترتب جميع الأسرة عند الثامنة وسيستحم الجميع في الثامنة والنصف".

انطلق هذا المشروع التجريبي في فرنسا إبان الوباء. يتجول الناس في ساحة البلدة ويتمشون في ممرات مسقوفة بقباب تستند إلى قناطر، أو يتوقفون للدردشة أمام المتجر. يلعب آخرون لعبة "سكرابل" خارج المقهى، وهناك عدد قليل من قاطني القرية يركبون الدراجات، لكن ليس واضحاً إن كانوا مرضى أم أطباء أم متطوعين لأن الموظفين لا يرتدون زياً رسمياً، وربما كانوا زواراً لأن القرية ترحب بالسكان المحليين للدخول وتناول الغداء في المطعم أو لقص شعورهم في الصالون.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

مرافق مدروسة

ذات يوم خريفي مشمس انسلت مجموعة من النزلاء من تمارينهم متجهين إلى مقاعد المتنزه، بينما نظر إليهم بفضول ياسمين وجونون، وهما حماران طيعان يقيمان هناك. تجمع نزلاء آخرون، مع الانتباه إلى أنه لا أحد يستخدم كلمة "مريض" البغيضة، في قاعة المقهى الخلفية ليغنوا معاً. بعضهم مشى بينما اعتمد آخرون على كراسي بعجلات. يتحرك معظمهم حول حرم القرية الذي تبلغ مساحته 4 فدانات مع درجة حرية ملحوظة. لدى النزلاء غرف فردية في 16 منزلاً منتشرة في المكان ويمكن لكل منهم تأثيثها كما يحلو له. تهدف الهندسة المعمارية لتقليل الإحباط والارتباك: ليس هناك ممرات مسدودة، ووضعت بضع مرايا ولافتات تحمل صوراً بسيطة بدل الكلمات.

يندمج المتطوعون فيصبحون أساسيين في حياة المجتمع. قالت فلورنس لودوار المسؤولة عن تنسيق المتطوعين: "طريقة عمل القرية هادئة للغاية وتوفر كثيراً من السكينة". وجد بعضهم طرقاً مبتكرة للمساهمة بأكثر من مسؤولياتهم الأصلية المتمثلة بإحضار القاطنين إلى متجر البقالة أو المساعدة في المقهى. حيث بدأ أحدهم مناقشة منتظمة للأحداث الجارية وأطلق الآخر نقاشاً حول علم الفلك.

تجتمع هيلين أميفا، العالمة الرئيسية في المشروع، وفريقها مع المرضى كل ستة أشهر لتقييم المؤشرات التي تشمل الوظائف المعرفية والاكتئاب والقلق والمشاركة الاجتماعية، ويُفترض أن تصبح نتائج هذا البحث متاحة في العام المقبل. كما تتحقق من تأثير القرية على العائلات والموظفين والجيران. يكشف هذا العمل تغيّر تصور الناس في داكس حول الخرف منذ افتتاح القرية. قالت أميفا إن احتمال وجود تصور سلبي لدى السكان المحليين عن مرض الزهايمر بات أدنى الآن مقارنةً مع مجموعة تحكم في بلدة فيلنوف سور لوت، وهي بلدة بحجم مماثل تقع على بعد ثلاث ساعات إلى الشمال وفيها دار رعاية مسنين تقليدية.

نتائج إيجابية

قالت أميفا، وهي عالمة الأمراض النفسية في مركز البحوث الصحية بجامعة بوردو: "يمكننا أن نفترض أنه في حال تكيف المرء مع بيئته بشكل أفضل وحصل على دعم أفضل وأتيح له مستوى من الرفاهية يخفف من القلق والاضطرابات السلوكية، فسيتباطأ تطور المرض في الواقع".

تعمل سبيرينغ وفريقها في هولندا في شركة خدمات محلية للمسنين اسمها "فيفيوم كير غروب" (Vivium Care Group)، وقد أشرفوا على بناء قرية الزهايمر الأصلية التي تطلبت هدم دارٍ لرعاية المسنين على مر عدة سنوات وبناء منطقة تشبه ساحة مدينة هولندية نموذجية مكانها، حيث تتقاطع الشوارع والأزقة الضيقة مع مجموعات من المنازل المبنية من الطوب وتتلاقى في محور مركزي يضم مطعماً وحانة ومسرحاً ومتجراً. يسمح الأطباء والممرضات وأخصائيو الخرف اليوم لنزلاء القرية بضبط إيقاع يومهم كما يحلو لهم بدلاً من فرض جدول زمني صارم.

ألهمت هذه القرية الهولندية المعروفة باسم "ذا هوخيفيك" (The Hogeweyk) مشروع جيفز في نيوزيلندا، لذا عينت سبيرينغ وفريقها كمستشارين وقد ساعدوا منذئذ على إنشاء مجتمعات مماثلة في أستراليا وكندا وإيطاليا والنرويج. قالت سبيرينغ إن هناك قرى أخرى في مراحل التخطيط في الولايات المتحدة، ومن بينها قرية في نيو جيرسي. تتميز "هوخيفيك" بمزيج من الأثاث والهندسة المعمارية التي تختلف عمداً من منزل إلى آخر، ويحتوي بعضها على ستائر ثقيلة وأثاث من خشب داكن وثريات عتيقة في غرف المعيشة. تشارك العائلات لتساعد على اختيار المنزل الأنسب لخلفية كل نزيل وتفضيلاته، بدءاً من الطعام وحتى الموسيقى، لأن الألفة تقلل الخوف والقلق اللذين يبعثهما المرض.

الدخول إلى عالمهم

لاحظت جيفز هذه الاختلافات مباشرة حين سافرت إلى هولندا بحثاً عن نموذج رعاية جديد، فقد كانت والدتها تمر بمراحل الخرف المبكرة حينها، وعندما اصطحبتها سبيرينغ وزميلها في جولة في أنحاء القرية قالت: "شعرت على الفور أن أحد المنازل التي دخلت إليها يعبر عن أمي تماماً".

أدى تطبيق هذا النهج في قرية نيوزيلندا لنوع من التفكير غير التقليدي. مثلاً، يضعون بعض الأزواج المتزوجين منذ فترة طويلة في منازل مختلفة، رغم أنهم عاشوا تحت سقف واحد على مر عقود. قالت جيفز إن ذلك لأن الخرف يميل لإعادة الناس بالزمن إلى الوراء. لذا إن كان الزوجان قد عاشا مستويات اقتصادية متباينة في الطفولة، فإن أحدهما الذي عاش ظروفاً أكثر تواضعاً ثم تحول لثراء عند النضوج يُرجح أن يشعر براحة أكبر في محيط أبسط. بالنسبة إلى زوجين من هذه الفئة، يشمل جدولهما خروج زوج من منزله لتناول الغداء في منزل الزوجة .

وجدت عالمة تدرس القرية النيوزيلندية أن الأشخاص الذين انتقلوا إليها من دور رعاية أكثر تقليدية كانوا عموماً أقل هياجاً ويحتاجون كماً أقل من أدوية الذهان. قالت العالمة كاي شانون، وهي أستاذة محاضرة أولى في قسم التمريض بجامعة أوكلاند للتقنية، إن البيئة غيرت من ممارسات الموظفين ومواقفهم تجاه الخرف أيضاً.

تستشهد جيفز بأحد نزلاء قرية الرعاية وقد كان يعمل محاسباً ومدققاً وهو يزور مكتب الاستقبال بانتظام للتحقق من القوائم هناك. أعد له الموظفون قوائم ليطلع عليها وهم يشكرونه على مساعدته. قالت جيفز: "نحن نتحقق من واقع النزلاء هنا لأن واقعهم يختلف عن واقعنا. لا أعتقد أننا ننشئ عالماً زائفاً بل أننا ندخل إلى عالمهم".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك