إن ذهبت إلى الجدار البحري الممتد على طول شاطئ مدينة جورج تاون بعد ظهر الآحاد ستجد غيانا مسترخية عن بكرة أبيها. يستخدم سكان البلد المعروف بأرض المياه كلمة "لايمينغ" للتعبير عن التجمع لقضاء الوقت، لا لشيء سوى الاستمتاع بالصحبة. حمل المدّ هذا المصطلح إلى الساحل الشمالي لأميركا الجنوبية منذ عقود من ترينيداد في أقصى جنوب البحر الكاريبي. لكن هذا لا يعني أنَّ سكان غيانا يتنكرون للتحديات أو التهديدات، لكنَّهم يمنعون أنفسهم مؤقتاً من الإنزلاق نحو التشاؤم.
تجلس العائلات متجاورة فوق جدار خرساني بارتفاع الخصر، حيث تتدلى أقدامهم فيما يهب نسيم البحر بقوة من خلفهم. يروج الباعة، على الجانب الآخر من الطريق الساحلي، لبيع السمك ورقائق موز الجنة المقليين تحت مظلات النايلون. ما إنْ تتوارى الشمس خلف الأفق حتى تفتح الأبواب الخلفية للشاحنات الصغيرة لتنبض مكبرات الصوت بموسيقى الريغي والهيب هوب. يؤكد البحر سلطته بين الحين والآخر فتلطم أمواجه الجدار ناثرة رذاذاً مالحاً كما يرسلها مرة أو مرتين في العام لتغمر الطريق وراء الجدار. يتآمر المد والجزر مع الأمطار فيما ندر فيبتلعون الجدار البحري بالكامل، ويغرقون المنازل المجاورة، ويجرفون بعض الناس مثلما حدث في يناير 2005.
تهديدات المناخ
نظرياً، يحق لكل فرد من سكان غيانا، وعددهم 800 ألف نسمة تقريباً، نحو 84 فداناً من الأراضي في عمق البلاد بمأمن من البحر. تغطي الغابات معظم هذه الأراضي، فيما يعج جزء كبير منها بعجائب نادرة مثل ضفادع الأشجار متعددة الألوان المهددة بالانقراض وشلالات متدفقة من قلب الهضاب الخضراء. واقعياً، يتكدس نحو 90% من السكان في السهول الفيضية الضيقة التي تعانق منطقة البحر الكاريبي. يعيش ما يقرب من نصف هذه الأغلبية الكاسحة في مدينة جورج تاون التي يمتد معظمها في حوض ساحلي ينخفض مترين تقريباً عن مستوى سطح البحر، إذ تعتمد العاصمة المشبعة بالمياه على شبكة من قنوات الصرف لتظل صالحة للسكن.
إنَّهم يعيشون على الساحل كونه المكان الذي يمكن فيه العثور على الفرص الاقتصادية على ندرتها. كانت غيانا تاريخياً إحدى أفقر بلدان غرب العالم، فقد كان الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأسرها أقل بكثير من معظم المدن الأميركية متوسطة الحجم خلال الفترة بين عامي 2000 و2015.
يمكن أن تزول مثل هذه الثروات المتواضعة ما بين طرفة عين وانتباهتها. على سبيل المثال، أتى ارتفاع المد في 2005 على 59% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي. سيكلف اتخاذ تدابير مضادة مناسبة، مثل توسيع وتعزيز الجدار البحري البالغ طوله 451 كيلومتراً، وتحديث قنوات الصرف، وإنشاء البنية التحتية للإسكان فوق أرض مرتفعة، مليارات الدولارات.
حتماً ستشهد غيانا مداً مدمراً آخر، إذ يُتوقَّع ارتفاع منسوب مياه البحر الكاريبي الدافئة من 20 إلى 25 سنتيمتراً خلال ثلاثة عقود، وفقاً لخدمة المحيطات الوطنية الأميركية. إذا استمر العالم بحرق الوقود الأحفوري بالمعدل الحالي، سيرتفع منسوب البحر بمقدار 1.8 متر بحلول نهاية القرن، وفقاً للتقرير ذاته. إن لم يتغير شيء آخر، فسيغرق جدار جورج تاون البحري تحت سطح البحر ويتشتت سكانها.
في مواجهة تلك التهديدات؛ تراهن حكومة غيانا على خطة بادية التناقض. لقد وجدت البلاد خلاصها في مصدر تهديدها ذاته. يعتقد قادة غيانا، الذين تلقوا إشادات فيما مضى على حسن إدارتهم البيئية، أنَّ الطريقة الأكثر فاعلية لإنقاذ البلاد من تغير المناخ الناجم عن الوقود الأحفوري- بقدر ما تبدو جنونية- تتمثل في تبني أعمال الوقود الأحفوري بالكامل.
وفرة نفط نادرة
تقبع مخزونات هائلة من النفط في قاع مياه غيانا الإقليمية على ساحل البحر الكاريبي. كانت فرق شركة "إكسون موبيل" للتنقيب قد اكتشفت في 2015 ما اتضح أنَّه عبارة عن مليارات براميل النفط الخام على بعد 190 كيلومتراً تقريباً من الشاطئ. يعد الاكتشاف النفطي بمثابة ثروة قلما تتكرر، حيث يقدّر بنحو ثلث إجمالي اكتشافات النفط في جميع أنحاء العالم منذ 25 عاماً تقريباً. يقدر بعض محللي الصناعة أنَّ الاحتياطيات المكتشفة في مياه غيانا ربما تساوي احتياطيات الصين.
أدى تضافر عوامل مثل التهديد الملموس للتغير المناخي من جهة، والضغوط الاقتصادية الشديدة التي تعانيها البلاد من جهة أخرى، مع ضخامة الاكتشاف النفطي الهائل لتحويل هذا الشريط من ساحل أميركا الجنوبية إلى ما يشبه أرض اختبار. فباتت غيانا مركز تقارب التوترات المعاصرة التي ترسم مشهد الطاقة العالمي بقوة لم يسبق لها مثيل. كانت دول أخرى قد عثرت على اكتشافات نفطية تحولية بالفعل، لكن لم تفعل ذلك برغم معاناتها تحت وطأة ظروف قاسية للغاية في مرحلة ما بعد تعهد الدول النامية في العالم بالتحول عن استخدام الوقود الأحفوري تدريجياً.
اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في وقت سابق من هذا العام أنَّ "الاستثمار في أنواع الوقود الأحفوري الجديدة جنون أخلاقي واقتصادي". ربما يكون الأمر كذلك، لكنَّ قادة غيانا قد رفضوا اكتشافاً يحتمل أن يقدّر بمئات المليارات من الدولارات سيكون بمثابة جنون سياسي.
دولة نفطية مختلفة
وعد قادة البلاد بإقامة دولة نفطية مختلفة مستدامة بيئياً تستخدم عائدات النفط لإنشاء بنية تحتية أكثر ديمومة اعتماداً على الطاقة المتجددة. تراقب دول نامية أخرى لديها احتياطيات نفطية محتملة تجربة غيانا، رغبةً منها في معرفة ما إذا كان التنقيب عن النفط قد يشكل وسيلة مقبولة لتحمل تكاليف دخول مستقبل ما بعد النفط.
لقد أصبح اقتصاد غيانا الأسرع نمواً على مستوى العالم منذ حفر أول بئر نفطية قبل ثلاث سنوات. غير أنَّ ذلك النمو كشف عن بعض نقاط ضعف في بنية الدولة البترولية الجديدة. يمنح عقد غيانا على سبيل المثال، مع "إكسون موبيل" مزايا غير عادية للأخيرة عبر زيادة حصتها من الإيرادات أكبر من المعتاد وخضوعها لمتطلبات ضريبية أقل. مع ذلك؛ تستثمر غيانا في أكبر قدر ممكن من نفطها بأسرع ما يمكن. فالنفط يتدفق بسرعة، ومنسوب البحر يرتفع ببطء، والعالم يراقب.
بنية تحتية فقيرة
انطلقت عشرات السيارات والشاحنات الحكومية من العاصمة في صباح 26 مايو، يوم استقلال غيانا، غرباً على ساحل غيانا، إذ جرى العرف أن يحتفل الرئيس والمسؤولون بالعيد القومي في حفل لرفع العلم في منتصف الليل.
توجهت السيارات نحو آنا ريجينا، وهي بلدة تقع على الجانب الآخر من نهري ديميرارا وإسكويبو. مرت المركبات على جسر عائم بطول 1.6 كيلومتر كان يفترض أن يستمر لمدة 10 سنوات عندما أُنشِئ قبل 44 عاماً لعبور نهر ديميرارا. ثم استقلت السيارات العبارة لعبور نهر إيسيكويبو. إذا رسمت خطاً مستقيماً عبر الخريطة ستجد أنَّ المسافة بين جورج تاون وآنا ريجينا تقارب 64 كيلومتراً، لكنَّ الرحلة استغرقت أكثر من ثلاث ساعات بالسيارة، فيما استقل كبار المسؤولين الحكوميين طائرة إلى آنا ريجينا.
أبرز خطاب الرئيس عرفان علي للحشد سلسلة من الانتصارات المحققة على غرار خطاب "حالة الاتحاد" الأميركي. أعلن رئيس غيانا أمام الحضور خلال الحفل الذي أقيم في الساحة المركزية بالمدينة أنَّ الجسر العائم سيستبدل بجسر دائم أخيراً. كان الطريق السريع يتكون من أربعة حارات قيد الإنشاء بالفعل، وهو واحد من عشرات المشاريع المتعلقة ببناء الطرق التي ستربط مدن غيانا ببعضها من جهة، وبالبرازيل وسورينام من جهةٍ أخرى. كما امتدت خدمات شبكات المياه والكهرباء الموثوقة لتشمل منازل أكثر من أي وقت مضى، وذلك بفضل زيادة الميزانية الرأسمالية للحكومة 107% هذا العام وحده. قال علي: "إنَّنا نسير في طريق الازدهار أخيراً".
النفط هو الحل
كان الجميع يعلم أنَّ المال اللازم لتحقيق كل هذا يأتي من النفط. تنتج غيانا حوالي 360 ألف برميل يومياً، ويُتوقَّع أن يصل هذا الرقم إلى 580 ألف برميل العام المقبل، وربما إلى مليون برميل بحلول 2027. يتوقَّع أن يقفز الناتج المحلي الإجمالي في غيانا 58.7% هذا العام، إذ يمثل النفط بالفعل أكثر من 60% من صادرات البلاد، ليحل بذلك محل السكر والأرز. هذا سيجعل الاقتصاد ينمو خمسة أضعاف على مدى عقد.
يُطلق على خطة غيانا لإدارة نموها استراتيجية التنمية منخفضة الكربون لعام 2030. تهدف الخطة لحماية الموارد الطبيعية والتخفيف من آثار تغير المناخ عبر تعزيز الجدران الشاطئية وتحسينات البنية التحتية الأخرى وتنويع الصناعات في غيانا. ستمول عائدات النفط إنشاء شبكة كهرباء جديدة ستعتمد في نهاية المطاف على مصادر الطاقة المتجددة فقط. تستند استراتيجية التنمية منخفضة الكربون لعام 2030 إلى خطة كانت قد طرحت لأول مرة خلال رئاسة بارات جاغديو بين 1999 و2011، الذي يشغل حالياً منصب نائب الرئيس، حيث حُدثت لاحتساب عائدات النفط حالياً. يذكر أنَّ حدود الولاية حالت دون سعي جاغديو لإعادة انتخابه، لكنَّه اليوم محل تقدير على نطاق واسع داخل الحكومة وبين أفراد الشعب على حد سواء، باعتباره المسؤول عن الثروة النفطية للبلاد.
رفض الاحتكار
في العام الماضي، عرض علي وجاغديو الخطة الممولة من عوائد النفط باعتبارها بياناً مستنيراً، إذ ستكون وسيلة غيانا للتحرر من النظام العالمي القمعي الذي يميز ضد البلدان النامية. قال علي حينها: "إنَّ توقُّع إبقاء الاقتصادات النامية على نفطها وهو مدفون في باطن الأرض يعني حقاً حماية الوضع الشبيه بالاحتكار للمنتجين الحاليين حتى يتمكنوا من زيادة إيراداتهم من النفط والغاز". وصف الأمر بأنَّه مسألة عدالة اقتصادية وقال: "لا ينبغي لأي حكومة مسؤولة أن تتطوع لإبقاء شعبها فقيراً حتى تتمكن الدول الغنية من حماية أسواقها".
ربما تشكل تجربة غينا توجهات الدول النامية في هذا الصدد. على سبيل المثال، أعادت رئيسة وزراء باربيدوس ميا موتلي، التي ألقت الكلمة الافتتاحية هذا العام في مؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين للأطراف بشأن التغير المناخي (COP27)، فتح مياه بلادها الإقليمية أمام شركات الوقود الأحفوري لاستكشاف ثرواتها النفطية. لقد عكست مبررات موتلي منطق غيانا، حيث تأمل باربادوس باستخدام عائدات النفط لتمويل التحول الشامل إلى الوقود المتجدد بحلول 2030. كما اعتبرت رئيسة وزراء بربادوس أنَّ ذلك ليس حلاً مثالياً، لكنَّ الدول المتقدمة لم تترك خيارات كثيرة. تعهدت الدول المتقدمة، منذ صياغة اتفاقية كيوتو في 1997، بالمساهمة بمليارات الدولارات لمساعدة الدول الأفقر على التكيف مع تغير المناخ الذي حفّزه العالم الصناعي في المقام الأول، لكنَّ القليل من تلك التعهدات أنتج مساهمات ملموسة.
الاستقلال الحقيقي
وصف علي بعدما اعتلى منصة الاحتفالات في آنا ريجينا النمو الأخير في البلاد بأنَّه قفزة نحو الاستقلال الحقيقي بعد 56 عاماً من إعلان غيانا تحررها من الاحتلال البريطاني.
باغتت الأمطار احتفالية الاستقلال قبل 20 دقيقة تقريباً من رفع العلم المجاور للمنصة، فاندفع الآلاف من المتفرجين بحثاً عن أي سقف يمكنهم العثور عليه للاحتماء تحته. لكنَّ علي وجاغديو غامرا بالخروج في خضم العاصفة، فقد انضما إلى فرقة راقصة تلوح بالأعلام فيما خاضوا بأقدامها في برك المياه أمام خشبة المسرح. ثم عاد الرئيس ونائبه إلى خيمة كبار الشخصيات الخاصة بهم بعدما أغرقت الأمطار ملابسهما وتكثف البخار على عدسات نظارتيهما.
انهمرت الأمطار في جميع أنحاء البلاد طيلة ليل ونهار ذاك اليوم. تجوّل جاغديو صباح اليوم التالي في منطقة أجبرت فيها الفيضانات عشرات السكان على اللجوء إلى مأوى للطوارئ داخل مجمع رياضي. قال نائب الرئيس في مقابلة بعد عودته إلى جورج تاون: "إدارة غيانا تعني إدارة المياه"، مشيراً إلى أنَّ غيانا تواجه تلك التحديات دون مساعدة: "إن انتظرنا العالم سيغمرنا البحر".
بطل بيئي
يفيض تحول غيانا نحو النفط بالسخرية لأسباب ليس أقلها الإشادة بجاغديو، الذي انتهت رئاسته في 2011، في جميع أنحاء العالم باعتباره خبيراً بيئياً، فهو الرجل الذي اكتشف كيف يمكن أن تعزز حماية البيئة والحد من انبعاثات الكربون النمو المالي في العالم النامي بدلاً من تقويضه. على سبيل المثال؛ تسلم جاغديو جائزة الأمم المتحدة باعتباره "بطل الأرض" في حفل أقامته المنظمة الدولية في سيؤول. كما منحته خمس جامعات مختلفة، من أونتاريو إلى موسكو، دكتوراه فخرية تقديراً لعمله في مكافحة تغير المناخ. لقد طبعت مجلة "تايم" اسمه على غلافها كواحد من "أبطال البيئة"، واحتفل الممثل هاريسون فورد ونشطاء بيئيون آخرون في نيويورك بالتزام جاغديو بالحفاظ على البيئة. لقد أشاد الجميع بجاغديو لابتكاره طريقة يمكن من خلالها للدول الغنية مكافأة نظيراتها الفقيرة على مقاومة ذلك النوع من التنمية الذي زاد من انبعاثات الكربون.
ما تزال الغابات تغطي نحو 85% من أراضي غيانا، مما يجعلها تمتص أطناناً من ثاني أكسيد الكربون المنبعث من البلدان الغنية. جادل جاغديو بأنَّه ينبغي تعويض غيانا عن تقديم تلك الخدمة. تفاوض السياسي البارز، بدعم من الأمم المتحدة في 2009، على اتفاق وافقت بموجبه النرويج على دفع ما يصل إلى 250 مليون دولار لغيانا نظير ترك الأخيرة مساحات شاسعة من حصتها في غابات الأمازون المطيرة كما هي. في المقابل، ستحصل النرويج على أرصدة الكربون لتعويض إجمالي مجاميع انبعاثاتها، ما يسمح لها بتحقيق أهدافها المناخية. يذكر أنَّ الاتفاق البيئي بين البلدين كان قد شكل أول خطة ثنائية لتجارة الكربون في العالم.
يبدو الآن أنَّ آراء بعض المنظمات التي أغدقت الثناء على جاغديو باتت متضاربة بشأن غيانا. على سبيل المثال، رفض الفرع المحلي لـلمنظمة الدولية للحفاظ على البيئة العام الماضي منحة قدرها 10 ملايين دولار لتمويل مبادرات الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة لأنَّ الأموال جاءت من شركة "إكسون موبيل".
رد جاغديو وعلي على الانتقادات بتضخيم إصرارهما على أنَّ غيانا يمكنها فعلياً الجمع بين الأمر ونقيضه. قال علي في مقابلة: "لا يوجد تناقض على الإطلاق. فنحن لا نتراجع عن أي من التزاماتنا. بل، في واقع الأمر، نحن بصدد توسيع نطاق التزاماتنا البيئية"
يعتقد الرئيس ونائبه أنَّ عائدات النفط الحالية يمكن أن تضمن ازدهار غيانا حتى بعد نفاد الطلب الدولي على النفط، ويقدران أنَّ هناك ثلاثة عقود تقريباً قبل حدوث ذلك.
كان هذا الشعور بالتسرع، أو الرغبة بتوقيع عقد وبدء تدفق النفط مع الحد الأدنى من التدخل الرقابي، هو ما أثار جوقة المتشككين أكثر من أي شيء آخر. يتسلح المعارضون بأدلة من ما يقرب من ثلاث سنوات من التنقيب والتحليل لعقد إذ يقولون إنَّه كان معيباً منذ البداية، حيث يعتقدون أنَّ خطط الحكومة بدأت تخرج عن السيطرة بالفعل.
شروط مجحفة
عدلت "إكسون موبيل" وغيانا بعد الإعلان عن الاكتشاف النفطي في 2016 عقد الاستكشاف الأصلي الذي وقَّعتاه في 1999. أذهل العقد الجديد، الذي يقسم عائدات النفط مناصفةً بين الطرفين مع دفع 2% مقابل حقوق الامتياز للحكومة، محللي الصناعة كصفقة رابحة على نحو استثنائي بالنسبة لشركة "إكسون موبيل". قال توم ميترو، الزميل الأول في مركز الاستثمار المستدام التابع لجامعة كولومبيا: "أعتقد أنَّ هذا أفضل ما رأيته على الإطلاق في قطاع النفط، في أي دولة". كان ميترو قد أبرم عقوداً مع حكومات العديد من الدول النامية بصفته مسؤولاً مالياً في شركة "شيفرون" على مدى ثلاثة عقود. لكنَّه قلب دوره ليصبح مستشاراً يمثل البلدان النامية، بما فيها أنغولا، في تعاملاتها مع شركات الوقود الأحفوري.
تدافع "إكسون موبيل" عن العقد قائلةً إنَّها تحمّلت مخاطر كبيرة بالرهان على بلد بلا تاريخ فيما يتعلق بإنتاج النفط ولديه بنية تحتية محدودة لإنتاج الطاقة. قال متحدث باسم "إكسون موبيل": "تعد شروط عقد استكشاف النفط المبرم بيننا وبين حكومة غيانا شائعة في القطاع وتنافسية في ظل وجود بلدان أخرى في مرحلة مماثلة من استكشاف الموارد".
غير أنَّ شروط العقد مع غيانا وضعت بعد الإعلان عن الاكتشاف. قال ميترو: "تجادل (إكسون موبيل) بأنَّها لم تكن تعلم فعلياً حجم الموارد الموجودة في غيانا. حسناً، لقد علِمت".
يعد اقتسام العوائد مناصفةً أمراً غير مسبوق بالنسبة لعملية استكشاف عالية المخاطر مع أمل ضعيف بنجاحها. عندما يكون احتمال النجاح أكبر، تحصل الحكومة عموماً على حصة أكبر بكثير وغالباً ما تحصلها من رفع رسوم الامتياز. يبلغ المتوسط العالمي لحصص الحكومات في المشاريع الخارجية 75%، وفقاً لشركة "ريستاد إينرجي" (Rystad Energy)، وهي شركة استشارية مقرها في أوسلو.
بنود غير معتادة
قال ميترو إنَّ تنازلات أكثر إدهاشاً أُخفيت بشكل أعمق في العقد، إلى جانب تقسيم النسبة الأساسية للعوائد. على سبيل المثال، ينص العقد على أنَّ أي ضرائب على الدخل مفروضة على "إكسون موبيل" وشركائها يجب أن تدفعها الحكومة. مع ذلك؛ توقِّع غيانا للشركات إيصالاً بسداد تلك الضرائب، والذي يمكن لشركة "إكسون موبيل" استغلاله في الولايات المتحدة للحصول على إعفاء ضريبي مقابل الضرائب الأجنبية المدفوعة، وهو ما تصفه شركة النفط الأميركية بالممارسة الشائعة. قال ميترو إنَّ هذا كان حقيقياً فيما مضى، لكنَّه يصف هذه الممارسة الآن بأنَّها "نادرة للغاية وتعود بالنفع على الشركات". أشار متحدث باسم "إكسون موبيل" إلى أنَّ الشركة أنفقت 700 مليون دولار مع شركات غويانية منذ 2015، كما أنَّ نصف موظفيها العاملين بدوام كامل في البلاد هم مواطنون غويانيون.
يتضمن العقد استحقاقات إضافية لـ"إكسون موبيل"، حيث يُسمح لها باستخدام عائدات النفط الحالية لسداد نفقات مستقبلية لإيقاف تشغيل آبارها وتركها. يرجح ألا تتحمل الشركة هذه التكاليف لعقود، قال ميترو: "لم أر مثل ذلك في أي مكان".
كما يبرز الحجم الجغرافي الهائل لنطاق الاستكشاف، البالغ 26806 كم، من بين البنود الاستثنائية في عقد إيجار "إكسون موبيل"، إذ يتجاوز تسعة أضعاف متوسط عقود الإيجار الدولية لشركة النفط الأميركية وحوالي 100 ضعف متوسط عقود الإيجار في خليج المكسيك، وفقاً لحسابات ميترو. يتضمن عقد غيانا بنداً استثنائياً يسمح لـ"إكسون موبيل" باسترداد تكاليف الأعمال الاستكشافية الإضافية في أي مكان داخل تلك المنطقة على الفور. تستقطع "إكسون موبيل" تلك التكاليف لحسابها فعلياً من عائدات النفط التي كانت ستؤول إلى الحكومة لولا استحقاق الشركة لتلك التكاليف. أوضح ميترو أنَّ معظم اتفاقيات تقاسم الإنتاج التي تغطي مساحات كبيرة تسمح بمثل هذه الخصومات ضمن مناطق صغيرة ومحددة فقط وليس في كامل نطاق العقد.
تحذير أطاح بصاحبه
كان أحد مستشاري رئيس غيانا آنذاك ديفيد غرينجر، سلف علي، قد حذر بشأن العديد من تلك المخاوف التعاقدية علناً، فلم يجدد عقده الذي انتهى في الشهر التالي.
يقرّ علي وجاغديو اليوم بأنَّ العقد لا يخدم غيانا بشكل كبير. قال علي: "كان من الممكن أن يكون الاتفاق أفضل، لكن ذلك أصبح من الماضي". إنَّهم يرفضون فكرة إعادة التفاوض ويركزون بدلاً من ذلك على صياغة اتفاقات مستقبلية أفضل. عندما أعلنت الحكومة، في نوفمبر، عن خطط لطرح عقود إيجار مناطق استكشاف بحرية إضافية بالمزاد، وعد جاغديو بأنَّ هذه العقود ستصحح بعض التفاوتات في صفقة "إكسون موبيل". ستسعى غيانا لتحصيل رسوم امتياز بنسبة 10%، فضلاً عن فرض ضريبة على الشركات بنسبة 10%.
كُلف فينسينت آدامز بالتأكد من أنَّ عمليات التنقيب التي تقوم بها "إكسون موبيل" تفي بالمعايير البيئية للبلاد، إذ كان قد أمضى حياته المهنية في مراقبة قطاع الطاقة بالولايات المتحدة. وُلد آدامز في غيانا، لكنَّه عمل في وزارة الطاقة الأميركية لمدة 30 عاماً. عندما تقاعد في 2016 كان قد أمضى عقداً في "الخدمة التنفيذية العليا"، وهي فريق قيادة يتبع لوزارة الطاقة من كبار المهنيين المدنيين. قال آدامز عن قراره بالتقاعد: "اعتقدت أني أنهيت مسيرتي المهنية". لكن بعد اكتشاف شركة "إكسون موبيل"، كانت غيانا بحاجة ماسة لمستشارين متمرسين. يتذكر آدامز: "لم يتمتع أي شخص في غيانا بالخبرة في هذا المجال". ويشار إلى أنَّه قبل منصب مدير وكالة حماية البيئة الغويانية في 2018.
وعدت كل من "إكسون موبيل" وحكومة غيانا بأنَّ عملية التنقيب، في حد ذاتها، لن يكون لها تأثير على البيئة تقريباً. تتمخض عملية استخراج النفط الخام عن نفايات على هيئة غاز طبيعي، وغالباً ما تُحرق للتخلص منها. عالمياً، يؤدي إشعال الغاز إلى إطلاق أكثر من 400 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي كل عام. لكنَّ شركة النفط الأميركية أكدت للحكومة أنَّ الغاز لن يحرق في مداخن منشآت التنقيب الخاصة بها؛ بل بدلاً من ذلك سيعاد ضخه داخل الأرض. قننت غيانا هذا التعهد، فحظرت إشعال الغاز في جميع مراحل الإنتاج باستثناء بدء تشغيل الحفارة الأولى، عندما يكون الحرق المؤقت البسيط أمراً لا مفر منه عملياً.
حرق الغاز استمر
لكنَّ "إكسون موبيل" أخلت بهذا التعهد تكراراً. فقد أشعلت الشركات التابعة لشركة النفط الأميركية آلاف الأطنان من الغاز بعد فترة من بداية التشغيل، وواصلت ذلك خلال معظم السنوات الثلاث الأولى من الإنتاج. عزت الشركة ذلك إلى فشل أحد المعدات، وهو ضاغط معيب ثبتت صعوبة استبداله، على حد قولها. قالت "إكسون موبيل" إنَّه بعد إصلاح الضاغط: "تعد عملياتها في غيانا من بين الأفضل أداءً في العالم فيما يتعلق بكثافة الانبعاثات" في الوقت الحالي.
قال آدامز، المكلف بمساءلة شركات النفط، إنَّه شعر أنَّ كاهله قد أثقل: "لم يكن أحد في وكالة حماية البيئة سواي قد تلقى أي تدريب على الإطلاق. أعني بذلك أنَّهم لم يتلقوا أي تدريب مطلقاً، وليس دورة تدريبية عن هندسة البترول". تابع مدير وكالة حماية البيئة الغويانية قائلاً إنَّ نقص التدريب بالأساس جعل شركات النفط في غيانا تنظم نفسها بنفسها، مستغلةً الوضع بانتهاك سياسة عدم حرق الغاز يومياً. أطلقت عمليات الإشعال تلك نحو 770 ألف طن متري من انبعاثات الغازات الدفيئة خلال الأشهر الـ15 الأولى بعد بداية التنقيب، وهو ما يتجاوز الانبعاثات المقدر إطلاقها من جميع سيارات الركاب في غيانا سنوياً.
يعتقد آدامز أنَّ الحكومة، بما في ذلك إدارة علي وجاغديو التي تسلمت السلطة قبل أقل من عام من بدء التنقيب، تخلت عن كثير من سلطاتها لصالح "إكسون موبيل" وشركائها. حاجج مدير وكالة حماية البيئة بضرورة خفض مستويات الإنتاج بشكل كبير لتقليل عمليات إشعال الغاز، وهو إجراء يقول إنَّ "إكسون موبيل" قاومته بشدة واستمرت تعزو إطلاق الانبعاثات إلى المعدات المعيبة. قال آدامز لمراسل "رويترز" في أغسطس 2020: "نعلم أنَّهم يبذلون قصارى جهدهم لمحاولة إصلاح المعدات، لكنَّ المحصلة النهائية هي أنَّها لم تُصلح".
منح مدير وكالة حماية البيئة إجازة إدارية في وقت لاحق من ذلك الشهر، ثم أُنهي عقده مباشرة بعد وقت قصير من تلك التصريحات. قال آدامز إنَّه فقد وظيفته لمحاولة تحميل "إكسون موبيل" المسؤولية. لم تعلق الحكومة مباشرة على إقالة مدير وكالة حماية البيئة، وهو عضو في حزب سياسي معارض، لكنَّها أشارت إلى أنَّ مثل هذه الانتقادات تحفزها دوافع سياسية.
غرامة أم حافز؟
أعلنت غيانا، بعد فترة وجيزة من فصل آدامز، أنَّها ستفرض غرامة قدرها 45 دولاراً على شركة "إكسون موبيل" مقابل كل طن من الكربون المنبعث بدلاً من مطالبتها بخفض الإنتاج لتقليل حرق الغاز. أشاد علي بهذا الإجراء باعتباره "من بين الضرائب القليلة للغاية على حرق الغاز في العالم" واصفاً تلك الضريبة، بجانب حزمة من القيود الجديدة المفروضة على إشعال الغاز، بأنَّها ضمانة بيئية مهمة.
أما مدير وكالة حماية البيئة السابق فوصفها من منزله في ولاية كنتاكي بأنَّها "محض هراء". فالغرامات تسمح للشركة بتحصيل إيرادات تزيد 30 مرة عما كانت ستحصله إذا قللت حرق الغاز عبر خفض الإنتاج، وفقاً لحساباته. قال آدامز: "يُفترض أن تكون العقوبات رادعة، لكنَّها في هذه الحالة محض حافز".
تأمل غيانا بالفوز بالغاز الطبيعي، الذي اعتبر مراراً كأحد عناصر النفايات الناتجة عن عملية التنقيب، واستغلاله كمورد قيم. تخطط "أرض المياه" لمد خط أنابيب بطول 193 كيلومتراً لنقل الغاز إلى الشاطئ، حيث يعالج ويستخدم لتشغيل شبكة الكهرباء.
في غضون ذلك، رفع ثلاثة مواطنين دعوى قضائية ما تزال منظورة، معتبرين أنَّ حرق الغاز والانتهاكات البيئية الأخرى من شأنها تهديد سلامة مواطني غيانا. قالت ميليندا جانكي، محامية المدعين: "في رأيي يجب عليك الامتثال لقوانين غيانا. إذا كان هذا يعني أنَّ النفط والغاز يجب أن يبقيا في باطن الأرض، فهذا هو المكان الذي يجب أن يبقيا به".
تلقت غيانا مكافأة توقيع قدرها 18 مليون دولار من "إكسون موبيل" عند إتمام العقد في 2016، وهي ممارسة معتادة في الصناعة. لكنَّ الحكومة لم تقر علناً بتلقي تلك الأموال حتى تسربت أخبارها إلى وسائل الإعلام بعد أكثر من عام ونصف. اشترط دستور غيانا إيداع هذه الأموال في حساب يديره البرلمان، بيد أنَّ المكافأة أودعت في حساب حكومي لا يخضع لإشرافه.
الفساد متوقَّع
أصرت الإدارة السابقة على أنَّ الأمر برمته كان عبارة سوء فهم غير مقصود، موضحةً أنَّ المراجعة الداخلية للحسابات تشير إلى أنَّ الحكومة لم تنفق أياً من هذه الأموال على نحو غير صحيح. توارت القضية عن الصفحات الرئيسية لوسائل الإعلام في نهاية المطاف. غير أنَّ السرية التي أحاطت بالمكافأة عززت اعتقاداً بات سائداً في غيانا؛ ألا وهو أنَّه لا يمكن الوثوق بالسياسيين المكلفين بإدارة عائدات النفط.
يفترض معظم الشعب الغوياني ببساطة وقوع حوادث الكسب غير المشروع داخل القطاع العام. لقد أظهر استطلاع وطني أجراه "المعهد الجمهوري الدولي" غير الحزبي في 2022 أنَّ 57% من المشاركين يعتقدون أنَّ قطاع الموارد الطبيعية في البلاد، على وجه التحديد، يعاني من فساد كثير، فيما قال 16% من الغويانيين المشاركين إنَّهم يعتقدون أنَّ هناك شيئاً من الفساد. لذا، يُخشى على غيانا من الإصابة بـ"لعنة الموارد"، حيث تحقق مجموعة صغيرة من النخبة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع السلطة ثراءً كبيراً، بينما يحصل باقي السكان على قليل من المزايا.
علاقات ومصالح
يمكن تفهم عدم الثقة بالنظر إلى أنَّ غيانا تديرها مجموعة صغيرة من نخبة تتمتع بعلاقات جيدة مع السلطة. فالتركيبة السكانية للبلاد تجعل ذلك أمراً
لا مفر منه عملياً. يعيش 40% من مواطني غيانا البالغ عددهم 800 ألف نسمة في فقر مدقع، حيث تبلغ الأجور اليومية 5.50 دولار. يتلقى الشخص البالغ في "أرض المياه" ست سنوات من التعليم، ومن بين من استطاعوا الحصول على شهادة جامعية يغادر ما يقدّر بنحو 89% البلاد للعمل بالخارج، وهو أعلى معدل لهجرة الأدمغة في العالم، وفقاً لبيانات البنك الدولي. يحصل 2.3 % فقط من القوى العاملة المتبقية على درجة البكالوريوس، وفقاً لدراسة أجريت في 2018. كانت النتيجة خلق نخبة سياسية ومهنية محدودة للغاية تتماهى فيها العلاقات الأسرية والعلاقات التجارية بصورة نمطية.
أنشأت الإدارة الحالية صندوق ثروة يطالب بالإفصاح العلني عن جميع عائدات النفط وإيداعها في حسابات يمكن للمواطنين مراقبتها، ويعاقب المسؤولون المتهمون بانتهاك متطلبات الشفافية بالسجن 10 سنوات. باتت الحكومة أيضاً عضواً في مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية، التي تتطلب من الدول الأعضاء الكشف علناً عن معلومات حول كيفية منح حقوق استغلال الموارد وتعقب المعاملات المالية عبر القنوات العامة والإبلاغ عن كيفية استفادة الشعوب من هذه الأموال.
واجه جاغديو اتهامات بالفساد منذ ولايته الرئاسية الأولى. على سبيل المثال، دعا المسؤولون الأميركيون المجتمع الدولي عبر برقيات وزارة الخارجية للحذر من تسامح جاغديو مع الفساد في غيانا، وذلك حتى في خضم مفاوضاته بشأن صفقة تجارة الكربون. لكنَّ الرئيس الغوياني السابق ينفي وجود أي شبهة للفساد.
بعد سنوات، تحديداً بعدما فاز حزب سياسي معارض بالرئاسة في 2017؛ اتُهم جاغديو بالإضافة إلى أعضاء آخرين في حكومته بالاحتيال لشراء عقارات في مشروع سكني على شاطئ البحر بأسعار أقل بكثير من قيمتها السوقية. اعتُقل الرئيس السابق وخضع للاستجواب بشأن تلك الاتهامات. لكن بعد انتخابات 2020، حلت حكومة علي وجاغديو وحدة التحقيقات التي تحقق في صفقات الإسكان. أعلن المدعي العام أواخر العام الماضي أنَّ مكتبه بدأ تحقيقاً في تعامل إدارة غرينجر مع مكافأة توقيع العقد مع شركة "إكسون موبيل" البالغة 18 مليون دولار. نُقل عن غرينجر نفسه قوله في مؤتمر صحفي قبل ترك منصبه: "لا أعتقد أنَّ هناك أي ابتزاز أو فساد أو نية لإساءة استخدام الأموال".
تغيير مخيب
في حفل استقبال أقيم عام 2018 في جورج تاون، قال السفير الأميركي آنذاك بيري هولواي للحاضرين إنَّ النفط الموجود في مياه غيانا سيغير حياة جميع مواطنيها تماماً: "ستكون البلد الأغنى في نصف الكرة الأرضية الغربي؛ بل قد تصبح أغنى دولة في العالم".
لا تبدو غيانا كأغنى دولة في العالم بعد مرور أربع سنوات، لكنَّها تتغير دون شك. يمكنك لمس ذلك التغير في قضبان حديد التسليح الفولاذية التي تبرز كشاربي هرة من أحد مشاريع بناء فندق عالمي بقرب شاطئ العاصمة. سترى التغيير أيضاً في الشوارع المزدحمة بشاحنات البضائع، وتزاحم المواطنين أمام وزارة الإسكان والمياه، حيث يبدأ الناس في الاصطفاف في الصباح الباكر على أمل الحصول على تصريح يسمح لهم ببناء منازل جديدة لأسرهم.
كان العديد من المتقدمين للحصول على تصاريح البناء ينتظرون لسنوات، إن لم يكن لعقود. تاريخياً، كان يصعب تأمين البنية التحتية اللازمة لخدمة المباني الجديدة من حيث الوصول إلى خدمات مثل شبكات الكهرباء والطرق والصرف الصحي وقنوات الري في غيانا. بلغ عدد المواطنين المسجلين على قائمة انتظار التصاريح 70 ألف مواطن في الآونة الأخيرة، تحديداً في 2019. لكنَّ الحكومة ضاعفت ميزانية وزارة الإسكان والمياه، ويقول وزير الإسكان كولين كرول إنَّ الوزارة تخطط لإصدار ما لا يقل عن 50 ألف تصريح خلال السنوات الخمس المقبلة.
تزيد الميزانية الفيدرالية لهذا العام عن سابقتها عموماً بمقدار 45%، حيث يُوجه معظمها إلى المشاريع الرأسمالية. على سبيل المثال، يبني العمال أسس العديد من المشاريع السكنية على أطراف العاصمة جورج تاون، فضلاً عن تسوية الحقول الزراعية وشق قنوات الصرف ودحل الطرق. كما تتباين المشاريع السكنية بين تقسيمات فرعية على طراز الضواحي مليئة بالمنازل الصغيرة البسيطة، وأخرى تستوعب فيلات فخمة داخل مجمعات سكنية مسوّرة. قال كروال: "كل هذه الأراضي بكر (لم تزرع من قبل)، وأخرى كانت عبارة عن حقول لزراعة الأرز وقصب السكر وما إلى ذلك. لا توجد بنية تحتية، لذلك نبدأ من الصفر".
يجري بناء مشروع "كامينغز لودج" (Cummings Lodge) السكني فوق أرض كانت لمجمع عشوائي صغير فيما سبق. تقام المنازل على ركائز خرسانية مع اختلاف مراحل اكتمالها، حيث صممت لتناسب احتياجات مشتري المنازل للمرة الأولى وأصحاب الدخول المنخفضة. وقف سائق سيارة أجرة يدعى روبن دابيرام خارج أحد المنازل، مستعيناً ببعض الملاط لتسوية جدران المنزل الذي يخطط للانتقال إليه مع زوجته وأطفاله الأربعة. ما يزال دابيرام يدفع إيجار المنزل الذي كان يأمل في تركه قبل ثمانية أشهر، لكنَّ الانتهاء من المنزل الجديد استغرق وقتاً أطول مما كان يُتوقَّع. قال دابيرام: "اعتقدنا أنَّ كل شيء سيكون أرخص- العمالة ومواد البناء- وأنَّنا سندفع ضرائب أقل ونحصل على وقود أرخص. لكن على العكس تماماً، لقد ارتفع سعر كل شيء بصورة جنونية".
نمو متسارع
التضخم في غيانا يماثل في مستواه معظم البلدان الأخرى. لكنَّ دابيرام يقول إنَّه يعتقد أنَّ حكومة بلاده ينبغي أن تتحمل مسؤولية أكبر لتخفيف معاناة الغويانيين، وقال: "عليها أن تمنح مواطنيها أموالاً بطريقة ما أو بصورة ما".
يدرك العديد من المسؤولين عن قرارات الميزانية أنَّهم بصدد مأزق علاقات عامة إلى حد ما. فهم يُذكّرون الناخبين بأنَّ الاقتصادات سريعة النمو يمكن أن تعاني من التسارع المفرط، مع قفزات هائلة في الإنفاق وارتفاع شديد للتضخم وتلاشي مكاسب الإيرادات.
إذا كان هناك ضغط على الحكومة لاستغلال أكبر قدر ممكن من النفط والغاز بأسرع ما يمكن، فذلك الضغط لا ينبع، بشكل كامل أو حتى في معظمه، من فكرة أنَّ فرصة غيانا لاقتحام الصناعة على وشك أن تضيع. بل إنَّ الضغط يصعد إلى الحكومة من القاعدة الشعبية المتلهفة لتيسير حياتها قليلاً. يأتي التمويل الفوري للمشروعات السكنية كمحاولة لتلبية هذه الرغبة في حين ما تزال الكثير من أولويات البلاد طويلة الأجل الأكثر طموحاً، مثل تعزيزات البنية التحتية تتصدى لتغير المناخ وبناء محطات الطاقة التي ستنقل غيانا نحو مستقبل قائم على الطاقة المتجددة، قيد التخطيط.
تؤدي الشوارع المرصوفة بالحصى في تقسيم ناشئ سُميَ مؤقتاً بـ"ينغ بروفيشنال سكيم 2" إلى منازل مشيدة من الخرسانة الرمادية، إذ تضم تلك المنازل غرفتي نوم أو ثلاث غرف. تتدفق المياه في القنوات أمام كل منزل، فيما تتجول الأبقار عبر الحظائر الترابية المكشوفة. كان ميترا راموكار يرمي الرمال المجرفة خارج منزل اشتراه شقيقه بعد انتظار 15 عاماً للحصول على تصريح بناء. يأمل راموكار وشقيقه بتحويل المنزل إلى عقار للإيجار. قال راموكار: "سيأتي الكثير من الأجانب للعمل، وسيحتاج كل هؤلاء الأشخاص إلى منازل وشقق للإقامة فيها". كان راموكار ينتظر بفارغ الصبر منذ اكتشاف النفط ليشهد آثاره على البلاد، بل أي أثر لذلك. قال راموكار إنَّه لمس حدوث تغيير هذا العام فقط: "لقد ازدحمت المدينة بالسيارات خلال الشهرين الماضيين. إنَّه أمر مثير".
لكن هذه التغييرات التي يصفها بأنَّها لا تذكر، ليست ما كان يتوقَّعه. يعمل راموكار لدى شركة طيران محلية، وكان قد حضر قبل بضع سنوات مؤتمراً لصناعة السفر في دبي وأبوظبي. تعجب راموكار من ناطحات السحاب وحلبات التزلج على الجليد والحدائق المزهرة في الصحراء. قال: "إنَّنا بحاجة لأن نشعر ونعيش مثل الإماراتيين. هذه هي الطريقة التي يجب أن يعامل بها سكان غيانا".
يريد الناس حواجز بحرية خرسانية ومحطات طاقة مائية جديدة، لكن هذه ليست أولويات الناخبين الذين يقررون مصير المسؤولين الحكوميين في غيانا. ربما يكون تحول "أرض المياه" إلى منتجة نفط جديدة مختلفة وأكثر مسؤولية إلى حد ما هدفاً نبيلاً، وهو أمر يتفق عليه الكثيرون . غير أنَّ حذوها حذو جميع الدول النفطية الأخرى فيما يتعلق بالبصمات الكربونية الكثيفة قد يكون أكثر إغراءً. بالنسبة للعديد من مواطني غيانا؛ فإنَّ الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم لا ينمو بالسرعة الكافية. قال راموكار: "إنَّنا نزحف بينما يتعين علينا أن ننهض ونجري".