أيقظت السيارة الأولى جنيفر كينغ عند الساعة الثانية فجراً على صوت همهمة صاخبة قالت إنه "كان أشبه بضجيج حوّامة"، لكن تلك لم تكن الغرابة في حكاية كينغ التي تسكن في زقاق نهايته مسدودة بجانب منتزه بريسيديو الممتد على مساحة 607 هكتارات في سان فرانسيسكو، لذا نادراً ما تمرّ سيارة عابرة بجوار مسكنها. رأت سيارة بيضاء رباعية الدفع من نوع "جاغوار" تستدير رجوعاً نحو مدخل منزلها. كان على سقفها ما بدا كأنه مروحة عملاقة، لكنه كان في الواقع جهاز استشعار بالليزر وعليها شعار شركة "وايمو" (Waymo) للسيارات ذاتية القيادة تابعة "غوغل".
راحت جنيفر تراقب ما بدا أنه خللٌ في برنامج القيادة الذكية، فقد ظهر لها أن السيارة تستخدم مدخل منزلها لتقوم باستدارة ثلاثية المناورات. لعلّ الأمر ما كان ليزعجها لو أنه حصل مرّة، إلا أن عشرات من سيارات "غوغل" بدأت تقوم بالأمر نفسه عدّة مرّات كلّ يوم.
اشتكت كينغ لدى "غوغل" متذمرة من أن السيارات كانت تفقدها صوابها، مع ذلك استمرت هذه السيارات تقوم بالاستدارة ثلاثية المناورات. كانت السيارات رباعية الدفع تصل في الوقت نفسه أحياناً، فتشكل طابوراً صغيراً وكأنما تشاهد مجموعة زومبي تتعلم قيادة السيارات. استمر الوضع على هذا الحال طيلة أسابيع حتى أكتوبر الماضي، حين اتصلت كينغ بالقناة المحلية التابعة لشبكة "سي بي إس"، التي أرسلت طاقماً إخبارياً إلى الموقع. جاء في تقريرها الإخباري: "الأمر مضحك قليلاً حين تشاهده، والجيران يلاحظونه بالتأكيد." استعادت كينغ سكينة الممر المؤدي إلى منزلها بعد فترة قصيرة من ذلك.
نفت "وايمو" أن تكون تقنيتها فشلت، وقالت في بيان إن مركباتها "تلتزم بنفس قواعد الطريق التي يتعين على أي سيارة اتباعها". وصفت الشركة، كما تفعل الشركات الأخرى في وادي السليكون وديترويت، مثل هذه الحوادث بأنها مطبات منعزلة تشوب الطريق نحو مستقبل لا مقود في سياراته.
وعدت النماذج الأولية البراقة التي طرحتها شركات مثل "غوغل" و"جنرال موتورز" و"فورد" و"تسلا" و"زوكس" (Zoox) على مرّ أكثر من عقد بتقديم سيارات قادرة أن تقود نفسها في المناطق الحضرية الفوضوية وعلى الطرقات السريعة وفي أحوال الطقس المتطرفة، دون أي تدخل أو إشراف بشري. زعمت الشركات أنها موشكة على أن تنهي أمر وفيات الطرق والازدحامات المرورية في ساعات الذروة، وإحداث تحول في قطاع السيارات حول العالم، الذي تقدّر قيمته بحوالي تريليونيّ دولار.
الانعطاف يساراً
يبدو كلّ ذلك رائعاً، إلى أن تُصادف سيارة أجرة روبوتية في الشارع، وهو أمر نادر. بعد مضي ستّ سنوات منذ بدأت الشركات تقديم رحلات على متن ما تصفه بالسيارات ذاتية القيادة، وبعد حوالي عشرين سنة من إعلان أول نموذج قيادة ذاتية، ما تزال هذه السيارات نادرة جداً على الطرقات، لدرجة أنها تكاد تكون معدومة، وهي عادة تنحصر في عدد من المناطق الواقعة في الحزام الشمسي للولايات المتحدة، بما أن هذه السيارات ما تزال غير قادرة على التعامل مع أحوال الطقس المعقدة التي تفوق الجو الغائم جزئياً. تواجه السيارات الروبوتية المتطورة صعوبات أيضاً مع المباني والحيوانات وإشارات المرور المخروطية وحراس المرور، وما يصفه القطاع بـ"المنعطفات اليسارية غير المحمية" أو كما يسميها معظمنا "المنعطفات اليسارية" فحسب.
يقول قطاع السيارات ذاتية القيادة إن المشكلة التي يواجهها، والمستوحاة من شخصية "ديريك زولاندر" تنطبق فقط على المنعطفات اليسارية التي تتطلب التعامل مع حركة المرور القادمة (كم هذا رائع). رغم تخصيص موارد هائلة للتوصل إلى حلّ لمشكلة المنعطفات اليسارية، إلا أن العمل ما يزال مستمراً على ذلك. في وقت سابق هذه السنة، سحبت شركة "كروز" (Cruise) التي تملك "جنرال موتورز" غالبية أسهمها، كل سياراتها ذاتية القيادة من السوق، بعدما تسبب إخفاق إحداها بالانعطاف يساراً بحادث اصطدام في سان فرانسيسكو، أدى لجرح شخصين. قال آرون ماكلير، المتحدث باسم "كروز" إن سحب السيارات "لا يؤثر على عملياتنا الحالية على الطرقات ولا يغيرها". تخطط "كروز" للتوسع نحو أوستن وفينيكس هذا العام. قال ماكلير: "لقد سرنا بخلاف التسلسل الزمني، فيما قد تكون المرة الأولى في تاريخ المركبات ذاتية القيادة".
لم تنشر "كروز" مقطع الفيديو الذي صوّر ذلك الحادث، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي مكتظة بهذا النوع من مقاطع تظهر فيها سيارات ذاتية القيادة مرتبكة للغاية. قد يكون المشهد طريفاً جداً حين لا يؤدي هذا الارتباك إلى عواقب خطرة. في أحد الأمثلة، تبدو سيارة "وايمو" في حيرة من أمرها بسبب مخروط مرور، لدرجة أنها قادت نفسها بعيداً عن العامل التقني الذي أُرسل لإنقاذها. في مثال آخر، وصل أسطول كامل من سيارات "شيفروليه بولت" المعدلة إلى تقاطع ثمّ توقف ببساطة، معيقاً حركة المرور في مشهد يذكر بفيلم "ماكسيموم أوفررايد" (Maximum Overdrive). في مشهد ثالث، تسير سيارة "تسلا" ببطء شديد لترتطم مباشرة بذيل طائرة خاصة.
يبدو هذا أفضل ما يستطيع أن يقدمه القطاع، بعدما أن راهن المستثمرون عليه بما يصل إلى 100 مليار دولار، حسب تقرير صادر عن شركة "ماكنزي أند كو". فيما تواصل كبريات شركات القطاع الإعراب عن تفاؤلها، فإن الإجماع السائد بأن عالم سيارات الأجرة الروبوتية ما يزال أبعد من أن يكون عند المنعطف التالي على اليسار، وقد نضطر لانتظاره عقوداً، هذا إذا لم ننتظره إلى الأبد.
تبديد المليارات
يصف جورج هوتز الذي تصنع شركته "كوما دوت إي أي" (Comma.ai) نظاماً لمساعدة السائق شبيهاً بالسائق الآلي من "تسلا" الأمر "بالخدعة" وقال: "بددت هذه الشركات عشرات مليارات الدولارات".
قدّر محللون في 2018 قيمة "وايمو" التابعة لشركة "ألفابيت"بـ175 مليار دولار. لكن حسب جولة التمويل الأخيرة، قُدرت قيمتها بـ30 مليار دولار، أي نفس قيمة "كروز" تقريباً. كما خسرت الشركة الناشئة "أورورا إنوفيشن" (Aurora Innovation) التي شارك في تأسيسها كريس أورمسون، المدير السابق لقسم المركبات ذاتية القيادة في "غوغل"، أكثر من 85% من قيمتها منذ العام الماضي، وتساوي حالياً أقل من ثلاثة مليارات دولار. لخصت مذكرة مسربة من أورمسون في سبتمبر مشاكل التدفق النقدي التي تواجهها "أورورا"، وأشارت لاحتمال الاضطرار لبيع جزء أكبر من الشركة. كان عديد من أكثر الجهود الواعدة في القطاع قد لاقى المصير نفسه في السنوات الماضية، بينها شركات "درايف دوت إي أي" (Drive.ai) و"فوياج" (Voyage) و"زوكس" (Zoox)، وقسم القيادة الذاتية لدى "أوبر". قال مايك رامسي، المحلل في شركة بحوث السوق "غارتنر" (Gartner): "على المدى الطويل، أعتقد أنه ستُصنع مركبات ذاتية القيادة يمكن أن نشتريها أنا وأنت، لكننا سنكون مسنين حين يحصل ذلك".
يبدو مستقبل المركبات ذاتية القيادة بعيداً جداً، لدرجة أن أكثر المتحمسين له قد ارتدّوا عليه. كان أبرزهم أنتوني ليفاندوفسكي، المهندس الذي أنشأ إلى حدّ ما النموذج الذي تتبعه البحوث في مجال القيادة الذاتية، والذي كان طوال أكثر من عقدٍ النجم الأبرز في هذا القطاع. يدير ليفاندوفسكي اليوم شركة ناشئة تطوّر شاحنات ذاتية القيادة للمواقع الصناعية، ويرى أن هذا هو الحدّ الأقصى من التعقيد الذي سترتقي له المركبات ذاتية القيادة في المستقبل المنظور. قال في مقابلة: "صعب جداً إيجاد قطاع آخر استثمر هذا القدر من الدولارات في البحوث والتطوير دون أن يحقق سوى القليل... انسوا أمر الأرباح، ما هي إيرادات جميع شركات سيارة الأجرة الروبوتية والشاحنات الروبوتية وأي نوع آخر من المركبات الروبوتية مجتمعة؟ هل هي مليون دولار؟ ربما. لكنني أعتقد أنها صفر على الأغلب".
قد يبدو ليفاندوفسكي متحيزاً من بعض النواحي أكثر من أي شخص آخر. فركوبه موجة المركبات ذاتية القيادة لقيَ نهاية مخزية بعد أن انتقل من "غوغل" إلى "أوبر تكنولوجيز". تلى ذلك مقاضاة شركته القديمة شركته الجديدة، بعد اتهامه بأخذ بحوث تمتلكها "غوغل" معه. كانت الدعوى القضائية المقدرة بمليارات الدولارات إلى جانب دعوى جنائية فيدرالية قد تسببت بطرد ليفاندوفسكي وأجبرته على إشهار افلاسه، كما أدين بسرقة أسرار تجارية. لم يتجنب السجن إلا بفضل عفو من الرئيس دونالد ترمب.
من ناحية أخرى، يقرّ منتقدو ليفاندوفسكي بأنه أحد روّاد هذا القطاع، ويعود له الفضل الأساسي في تحويل السيارات ذاتية القيادة من علم إلى أمر أقرب للتجارة. فقبل 18 عاماً، كان قد أذهل البنتاغون بدراجة نارية ذاتية القيادة نوعاً ما. تحوّل ذلك المشروع إلى مركبات "بيروس" من "غوغل"، ما دفع عشرات الشركات لإطلاق مشاريع سيارات ذاتية القيادة. أسس ليفاندوفسكي في 2017 ديانة أسماها "طريق المستقبل" ترتكز إلى اعتقاد بأن الذكاء الصناعي يكاد يصبح "إلهياً".
البشر سائقون أفضل
فما الذي دمّر إيمانه؟ قال إنه في السنوات التي تلت إبعاده من "أوبر" راح يقارن بين الادعاءات الجامحة التي يدلي بها القطاع، وما بدا أنه انعدم أي تقدم واضح، وعدم تبني أي مسار واضح إلى الأمام. قال: "لم تكن تجارة، بل هواية". لكن ليفاندوفسكي يؤمن أن أحداً ما سيكتشف في نهاية المطاف كيفية تمكين الروبوتات من الانعطاف إلى اليسار وكلّ الأمور الأخرى، مضيفاً: "سنبلغ ذلك في مرحلة ما لكن أمامنا طريق طويلة"
بالنسبة للشركات التي استثمرت المليارات في مستقبل تسود فيه القيادة الذاتية كان يفترض أن يحلّ قريباً، جواب "سنصل حين نصل" ليس مقبولاً. فالقطاع الذي نشأ حول أفكار ليفاندوفسكي لا يستطيع الاستدارة للخلف مثل سيارات "غوغل" التي كانت تناور خارج غرفة نوم جنيفر كينغ. والشركات التي راهنت بكلّ شيء على تلك الأفكار، قد تجد نفسها على الأرجح أمام طريق مسدود.
تكاد كافة نماذج سيارات القيادة الذاتية تكون متشابهة. تجلس في الخلف وتراقب المقود يتحرك بنفسه فيما تظهر لك الشاشة ما "يراه" الكمبيوتر. تحوم على الشاشة مربعات صغيرة حمراء أو خضراء بشكل مثالي فوق كل سيارة ودراجة وعابر سبيل وإشارة توقف تمرّ قربها. تلاحظ كلّ هذه الأمور لا شعورياً حين تقود سيارتك بنفسك، لكن على شاشة تجمع ما بين رؤيتيّ فيلميّ "تيرمينتور" (Terminator) و"بريديتور" (Predator)، سيغمرك إحساس جارف. ستشعر أن القيادة أمر خطر من الأجدى تركه للآلات. تدرك شركات صناعة السيارات ذلك، لهذا السبب تُطوّر هذه السيارات أصلاً. تُصور الشركات إخفاقات برامجها وكأنها حالات شاذة من خلال رفع منسوب التوتر خلال الرحلة، ما يجعل نجاحاتها تبدو إنجازات كبرى.
من القواعد الأساسية المفضلة التي ينطلق منها القطاع، هي أن البشر سائقون سيئون. يبدو ذلك بديهياً لأي شخص استقل طريق كروس برونكس السريع في ساعة الذروة للعودة إلى المنزل، لكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. ضع أي روبوت عالي التطور في مهمة قيادة صعبة، وستكون محظوظاً إن مضت بضع ثوان قبل استسلامه.
قال هوتز: "البشر سائقون جيدون جداً لدرجة مذهلة". وفيات الحوادث المرورية نادرة، تقدر بحالة وفاة فقط لكلّ 160 مليون كيلومتر قيادة في الولايات المتحدة، حسب الإدارة الوطنية للسلامة على الطرقات العامة. حتى هذا الرقم يجعل الأشخاص يبدون أقل مهارة ممّا هم عليه فعلاً، لأن الحوادث القاتلة غالباً ما تنجم عن سلوكيات متهورة، مثل السرعة أو السكر أو إرسال الرسائل النصية، أو حتى النوم خلف المقود. بالإجمال، يتعرض سائقو حافلات المدارس لحادث قاتل واحد كلّ 800 مليون كيلومتر تقريباً. برغم أن معظم الحوادث التي تورطت بها السيارات ذاتية القيادة كانت بسيطة، إلا أن البيانات تشير إلى أن السيارات ذاتية القيادة تورطت في حوادث أكثر من السيارات التي يقودها البشر، بالأخص حوادث الارتطام من الخلف. قال رامسي، المحلل في "غارتنر": "المشكلة هي عدم وجود أي اختبار لمعرفة ما إذا كانت السيارة ذاتية القيادة آمنة للاستخدام... الأمر مبني على ما يروى".
تقول شركة "وايمو" الرائدة في السوق إن سياراتها سارت لأكثر من 20 مليون ميل على مرّ نحو عقد. يعني ذلك أن على سياراتها أن تسير 25 مرّة إضافية عن المجموع الذي اجتازته حتى نتمكن من التأكيد، ولو دون حسم، أنها تسبب عدد وفيات أقل من سائقي الحافلات. حتى هذه المقارنة ليست عادلة، بما أن الشركات أجرت معظم اختباراتها في ولايتيّ كاليفورنيا وأريزونا المشمستين.
متغيرات بلا نهاية
إليكم ما نعرفه حتى الآن: يمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تجري العمليات الحسابية أسرع منّا بكثير، ولكنها ما تزال لاتستطيع التعامل مع عديد من المتغيرات على الطرقات. يدرك الناس الذين يقودون السيارة في أحد أحياء المدن مثلاً أن الحمائم التي تتجمع قرب الفاصل الوسطي ستطير بعيداً، ما إن تقترب السيارة، وأن السائقين خلفهم يعرفون أيضاً أن الحمام سيطير. إذاً، يدرك السائقون دون حاجة لتفكّر أن الضغط على المكابح ليس فقط غير ضروري، بل قد يكون خطراً، لذا لا يخففون السرعة.
ولكن ما "تراه" حتى أكثر السيارات ذاتية القيادة ذكاءً هو عائق صغير. لا تدرك من أين جاء هذا العائق، وإلى أين قد يتجه، تعرف فقط أن على السيارة أن تتجنب العوائق، لذا قد تستجيب عبر الضغط على المكابح. في أفضل الأحوال، قد يتسبب ذلك بازدحام مروري بسيط، إلا أن الضغط على المكابح فجأة قد يجعل سيارة قادمة أخرى على الطريق ترتطم من الخلف بالسيارة التي تضغط على المكابح. تعالج أجهزة الكمبيوتر عيوبها عبر التكرار، بمعنى أنك إذا عرضت سيناريو الحمائم لسيارة ذاتية القيادة لما يكفي من المرات، قد تجد طريقة للتعامل مع الأمر بشكل ملائم. لكنها لن تعرف على الأرجح كيف تتعامل مع نوع مختلف قليلاً من الحمائم يطير بشكل مختلف قليلاً.
يستخدم القطاع مصطلح "التعليم العميق" لوصف هذه العملية، لكن الاسم يوحي أنها عملية أكثر تعقيداً ممّا هي عليه فعلاً. قال غاري ماركوس، أستاذ علم النفس في جامعة نيويورك الذي يدرس الذكاء الصناعي ومحدودية المركبات ذاتية القيادة: "ما يقوم به التعلم العميق شبيه إلى حدّ ما بالحفظ... لا تعمل هذه الطريقة إلا إذا كانت الظروف متشابهة بما يكفي".
نطاق هذه "الحالات المتطرفة" كما يصفها خبراء الذكاء الصناعي يكاد يكون لا متناهٍ. مثال على ذلك، السيارات التي تنتقل عبر ثلاثة مسارب سير دون أن تعطي إشارة، أو الدراجون الذي يقومون بالأمر نفسه، أو غزال يسير إلى جانب الطريق أو طائرة تحلق على ارتفاع منخفض أو نسر أو طائرة بدون طيار. حتى مشاكل القيادة السهلة نسبياً تحتوي على عدد لا متناه من المتغيرات حسب الطقس وأوضاع الطرق والسلوكيات البشرية. قال ماركوس: "قد تعتقدون أن الطرقات متشابهة جداً بين مكان وآخر، ولكن العالم مكان معقد، وكلّ منعطف يساري غير محمي يختلف قليلاً عن الآخر".
لجأت شركات صناعة المركبات ذاتية القيادة لبعض الاختصار، فبدل أن تسيّر مزيداً من السيارات على الطرقات لفترة أطول، تجري تجارب محاكاة داخل مراكز بيانات عملاقة، ثمّ تضيف تلك "الرحلات" إلى إجمالي المسافات التي قطعتها سياراتها، وتستخدمها لتدعم مزاعمها حول السلامة. بينما يمكن لتجارب المحاكاة أن تساعد في بعض السيناريوهات المحددة، مثل الانعطافات إلى اليسار، إلا أنها لا تستطيع أن تصنع "حالات متطرفة". تعتمد الشركات على البشر المزعجين حالياً للمساعدة في التعامل مع المشاكل الأعقد. تستخدم جميع الشركات مشغلين عن بعد لمساعدة السيارات التي تواجه مشاكل، إلى جانب سائقين احتياطيين لضمان السلامة، أو كما تسميهم "وايمو": "أخصائيو قيادة ذاتية" الذين يركبون بعض السيارات لتولي زمام الأمور في حال وقوع مشكلة.
تنويم مغناطيسي ذاتي
يرى ليفاندوفسكي الذيب نى أول سيارة ذاتية القيادة في 2004 أن أكثر شركات صناعة السيارات ذاتية القيادة تطوراً ما تزال تصنع ما يمكن وصفه بالنماذج الأولية عالية التطور. كما نعلم، فإن النماذج الأولية مضلِلة بطبيعتها. قال: "إنه وهم"، فقد يكون مقابل كلّ نموذج أولي ناجح عشرات النماذج الفاشلة، وفي حين يكفي أن ترى شخصاً خلف المقود لبعض دقائق لتحكم ما إذا كان سائقاً جيداً، فإن أجهزة الكمبيوتر لا تعمل بهذه الطريقة. فإن تمكنت سيارة ذاتية القيادة من السير على طريق ما بنجاح، فلا شيء يضمن أنها ستتمكن من القيام بذلك بعد 20 مرّة أو حتى في المرّة الثانية.
بنى ليفاندوفسكي في 2008 أول سيارة "بيروس" ذاتية القيادة، أجرت ما يصفه القطاع بأول اختبار ناجح لمركبة ذاتية القيادة في الشوارع العامة. سُجل هذا الحدث لتشاهده الأجيال المقبلة في برنامج "بروتوتايب ذيس" (Prototype This) على قناة "ديسكفري". كان ليفاندوفسكي مدركاً لمدى التحكم بالبيئة في المكان حيث جرى الاختبار، فقد مُنحت السيارة فسحة واسعة جداً، فيما شقت طريقها من وسط مدينة سان فرانسيسكو عبر جسر الخليج وصولاً إلى جزيرة تريجوز، حيث كان موكباً من 16 سيارة يحيط بها ليحميها من السيارات الأخرى ويحمي السيارات الأخرى منها. صحيح أن السيارة خدشت جداراً فيما كانت تغادر الجسر، إلا أنه كان يشعر بالذهول لأن التجربة نجحت. قال: "رأيتَ ذلك، وكنتَ تعرف أنه نموذج أولي وما يزال يتعين القيام بكثير. لكننا شعرنا أننا شارفنا على تحقيق الإنجاز وتبقى علينا تحسينه قليلاً فحسب".
على مدى معظم السنوات التي تلت صناعة سيارته "بريبوت" (Pribot) الأولى، بدا كأنه ومنافسيه قد اجتازوا 90% من الطريق نحو بلوغ سيارات روبوتية بالكامل. كان المديرون التنفيذيون الذين عمل معهم لاحقاً في "غوغل" و"أوبر" سعداء للغاية بإصرارهم على أن العلم الذي تستند إليه هذه التقنية بات متوفراً، وأن نماذج ليفاندوفسكي الأولية قادرة على مواجهة أي تحدّ، ولم يبق إلا التصنيع على المستوى التجاري. كانت ادعاءاتهم جامحة جداً لدرجة أن المستثمرين، وبينهم كاثي وود المؤمنة بصعود أسهم "تسلا"، استندوا إليها كنماذج لتقدير أن قيمة القطاع ستبلغ تريليونات الدولارات.
وصف ليفاندوفسكي ذلك بأنه أشبه بتنويم مغناطيسي ذاتي، فالنماذج الأولية المزودة برؤية حاسوبية مستوحاة من الخيال العلمي، قادته وزملاءه للاعتقاد أنهم وأجهزة الكمبيوتر يفكرون بطريقة متشابهة أكثر من الواقع. قال: "ترون هذا التمثيل المذهل للعالم ثلاثي الأبعاد فتعتقدون أن الكمبيوتر قادر على رؤية كلّ شيء وعلى فهم ما الذي سيحصل... إلا أن أجهزة الكمبيوتر ما تزال غبية جداً".
برأي ليفاندوفسكي، وعديد من ألمع الأدمغة في مجال الذكاء الصناعي، التقنية لا تحتاج لمجرد صقل لبضع سنوات كي تتوصل إلى حلّ، بل تحتاج إلى اختراق هائل يمكّن أجهزة الكمبيوتر من أن تستخدم بسرعة حدساً مشابهاً لحدس البشر بدل أن تتعلم من التكرار فحسب. يعني ذلك أن مهندسي "غوغل" قد يمضون بقية حياتهم يتجولون حول سان فرانسيسكو وفينيكس دون أن يتمكنوا من إثبات أن تقنيتهم أكثر أماناً من القيادة التقليدية.
دعوى "غوغل"
بدا المستقبل الذي تسود فيه القيادة الذكية أقرب لمتناول اليد في 2017 بعد انتقال ليفاندوفسكي إلى "أوبر"، ورفعت "غوغل" دعوى قضائية ضدهما. اتهمت "غوغل" ليفاندوفسكي بأخذ جهاز كمبيوتر محمول معه من الشركة، وتحميل محتواه ليستخدم تلك المعلومات للانطلاق في "أوبر". برغم أن ليفاندوفسكي لم ينف الجزء المتعلق بالكمبيوتر المحمول، إلا أنه لطالما نفى أن تكون أي من المعلومات المخزنة فيه قد استخدمت في صناعات "أوبر". أحدثت الدعوى القضائية خضة في القطاع لكنها أثبتت متانته من ناحية أخرى. أومأت مطالبة "غوغل" بتعويض 1.8 مليار دولار إلى أن حساباتها تستند إلى مدى قرب تحقيق تقنية القيادة الذاتية لعوائد ضخمة. قال ليفاندوفسكي: "كان الناس ينتظرون جائزة كبرى تُقدر بتريليونات الدولارات من تحويل كل المركبات إلى ذاتية القيادة... لو كنت تؤمن فعلاً بأن ذلك سيتحقق بعد عام فأنك ستستشرس".
تعهدت "أوبر" بالدفاع عن ليفاندوفسكي في حال مقاضاته، إلا أنها طردته في مايو 2017، وواجه دعوى تحكيم سعت من خلالها "غوغل" لاسترداد مئات ملايين الدولارات. واجهت "غوغل" خلال المحاكمة التي انعقدت في 2018 صعوبة بإثبات أن "أوبر" استخدمت أسرارها التجارية، ثمّ توصلت الشركتان لاتفاق تسوية، حصلت بموجبه "غوغل" على أسهم في "أوبر" بقيمة 250 مليون دولار، وهو لا يبلغ جزءاً بسيطاً من المبلغ الذي كانت تسعى له في الأساس، إلى جانب تعهد من قبل شركة خدمات النقل بعدم استخدام تقنية القيادة الذاتية من "غوغل".
استمرّ ليفاندوفسكي في مواجهة التداعيات في 2019، حين أعلن مدعون فيدراليون أن هيئة محلفين كبرى وجهت إليه 33 تهمة تتعلق بسرقة أسرار تجارية. انهارت بعد ذلك بوقت قصير الصفقة التي كانت تتفاوض عليها شركته الجديدة "برونتو إي أي" مع شركة صناعة شاحنات لاختبار نظام مساعدة السائق الأكثر تواضعاً من "برونتو". قال: "يبدو أن توجيه اتهامات فيدرالية لك يعيقك". كما أمرته لجنة تحكيم بدفع 179 مليون دولار لـ"غوغل". تخلى ليفاندوفسكي عن منصبه كرئيس تنفيذي لـ"برونتو"، وسلّم الشركة لكبير مسؤولي السلامة روبي ميلر، وأشهر إفلاسه. أقرّ ليفاندوفسكي في إطار اتفاق التسوية مع المدعين بالذنب في تهمة واحدة مقابل اسقاط 32 تهمة أخرى، وحكم عليه بالسجن 18 شهراً في سجن فيدرالي في أغسطس 2020. تأخر تنفيذ الحكم بسبب الوباء ولم يسجن، ثم أصدر الرئيس دونالد ترمب عفواً عنه في آخر يوم من ولايته.
كان بيتر ثيل، وهو أحد كبار ممولي ترمب، بين دعاة ذلك العفو إلى جانب حفنة من حلفاء ثيل بينهم المرشح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا بلايك ماسترز ومؤسس شركة "أوكولوس" بالمر لاكي، وفق البيان الصحفي الذي أصدره البيت الأبيض حينها. يقول ليفاندوفسكي إن لديه بعض الأصدقاء المشتركين مع ثيل الذين توسطوا له، لكن الرجلين لم يكونا قد تحدثا إلا بعد الإعلان عن العفو، كما يقول إنه لا يعرف السبب الذي دفع ثيل لتبني قضيته. إلا أن كره ثيل لـ"غوغل" معروف عنه، والعفو عن ليفاندوفسكي يتيح له الفرصة لتسديد هدف في مرمى الشركة. توصل ليفاندوفسكي في وقت سابق من هذا العام لتسوية مع "أوبر" و"غوغل" بشأن تغريمه 179 مليون دولار، ما سيتيح له الخروج من الإفلاس.
بلا تقدم
ما عاد القول بأن سرّ القيادة الذاتية كان مخبأً في كمبيوتر ليفاندوفسكي مقنعاً مع مضي الوقت، فبعد عام من طرده من "أوبر" تسببت إحدى سياراتها ذاتية القيادة بمقتل رجل في فينيكس، واتُهم السائق الاحتياطي بالقتل الناجم عن الإهمال ودفع بالبراءة، كما أوقفت "أوبر" اختبار سياراتها على الطرقات العامة وأضافت مزيداً من تدابير السلامة قبل أن تستأنف الاختبارات، فيما لم تُوجّه أي اتهامات للشركة. باعت شركة "أوبر" في 2020 حين كانت الظروف أفضل وحدة القيادة الذاتية التابعة لها لشركة "أورورا" (Aurora) الناشئة التي تتداعى الآن. زعمت "وايمو" في سبتمبر أنه استناداً إلى نتائج بعض اختبارات المحاكاة، ظهرت مركباتها أكثر أماناً من السائقين البشر في بعض الحالات. لكن بالعودة إلى العالم الحقيقي، فإن الأرقام المتعلقة بالسلامة أبعد من أن تكون حاسمة بهذا القدر، وما تزال "وايمو" عالقة في المكان الذي كانت فيه قبل خمس سنوات. تنفي "وايمو" ذلك".
قال ليفاندوفسكي إنه بدأ يشكك في صناعة المركبات ذاتية القيادة في حوالي عام 2018، وذلك بعد أكثر من نحو عام على إعلان إيلون ماسك على أنغام أغنية "بينت إت بلاك" (Paint It Black) عن نموذج أولي لسيارة "تسلا" تقود نفسها. راجع ليفاندوفسكي البيانات الرسمية لاختبار القيادة على الطريق التي قدمتها "تسلا" للهيئات الناظمة في كاليفورنيا، وقد أظهرت الأرقام حينها أن مجموع المسافة التي قطعتها سيارة "تسلا" ذاتية القيادة على الطرقات العامة في الولاية كان صفراً. لم تبلّغ "تسلا" عن أي مسافات اجتازتها سياراتها ذاتية القيادة في كاليفورنيا منذ 2019. ولم تستجب الشركة لطلب التعليق. رغم قول ليفاندوفسكي إنه معجب بـ"تسلا" ومنبهر بتقنية مساعدة السائق لديها وإنه يؤمن بأنها قد تصنع يوماً ما سيارة ذاتية القيادة فعلاً، إلا أن عدم تحقيق ماسك ونظرائه أي تقدم في هذا المجال دفعه للتساؤل حول جدوى السنوات التي قضاها هو نفسه في هذا القطاع. تساءل: "لماذا نقود السيارات ونختبر تقنيات ونتسبب بمخاطر إضافية دون أن نقدم شيئاً ذا قيمة؟"
فيما تقول "تسلا" إن النظام الحالي الذي تقدمه يمثّل نموذجاً أولياً عملياً، استمر ماسك بالخلط بين النماذج الأولية والواقع. كشف في 30 سبتمبر عمّا بدا أنه إنسان آلي بالكاد يعمل، واعداً أنه سيحدث "تحولاً جذرياً في الحضارة كما نعرفها". لم تطرح "تسلا" بعد ستّ سنوات من بدءها بيع إمكانيات "قيادة ذاتية كاملة" أي سيارة ذاتية القيادة. من جانبه، يمضي ليفاندوفسكي وقته في مقالع الحصى.
تفجر منذ أكثر من مئة سنة شركات التعدين الصخور في التلال في منطقة سانتا روزا في كاليفورنيا وتفتتها لجعلها حصى لبناء الطرق الخاصة والعامة والمجاري. يصف ليفاندوفسكي أحياناً مقلع "مارك ويست" حيث تشغل "برونتو" شاحناتها ذاتية القيادة منذ ديسمبر بـ"صندوق الرمل"، ويسهل سبب اختياره لهذه التسمية. إذ تعمل في الموقع المغبر نسخ بالحجم الحقيقي لجرافات "تونكا" اللعبة التي قد تجدها في غرف الأطفال. تضرب الحفارات صفراء اللون الصخور الضخمة لتسقطها عن المنحدر المدرج نحو حفرة التعدين، حيث ترفع آليات التحميل الأمامي الحجارة وتضعها على متن شاحنات تفريغ زنة 50 طناً تنقلها إلى الكسارة. يصف المشهد بأنه "حلم طفل في الثامنة من عمره". تمرّ الصخور في الكسارة ثمّ تخرج على شكل أكوام من الحجارة الأصغر حجماً.
تراجع عن الأحلام
انطلق العمل في المنجم كنوع من خطة احتياطية، فكان وسيلة لتحقيق إيرادات فيما تتأقلم شركات الشاحنات على استخدام تقنية "برونتو" المساعدة للسائق الموجودة في الشاحنات النصفية المخصصة للمسافات البعيدة. لكن يقول ليفاندوفسكي اليوم إن مواقع البناء باتت تحظى بالأولوية. نقلت "برونتو" النظام الأساسي نفسه الذي تستخدمه في الشاحنات النصفية واستخدمته لصنع شاحنات تفريغ ذاتية القيادة، مضيفة كاميرات وأجهزة استشعار وأجهزة كمبيوتر على متن المركبة. بما أن الاتصال بشبكة الإنترنت متقطع في مواقع المناجم، ابتكرت الشركة تقنية شبكة اتصال خاصة بها، تحولت إلى شركة منفصلة هي "بولن موبايل" (Pollen Mobile). قالت كبيرة المسؤولين التقنيين في "برونتو" كات كولكين: "في المناجم نعمل بالقيادة الذاتية لكننا نتحكم بالبيئة".
شركة "بوب دين" (BoDean) التي تملك مقلع "مارك ويست" هي واحدة من ستّ عملاء يدفعون رسوم التركيب لتجهيز شاحنات التفريغ بأجهزة استشعار، كما تدفع رسوم استخدام بالساعة. لم يفصح أي من ليفاندوفسكي أو "بوب دين" عن الرسوم التي تتقاضها "برونتو" أو حجم العمل الذي تقوم به.
تتمثل رؤية ليفاندوفسكي الجديدة لمستقبل القيادة الذاتية على الشكل التالي: على مدى حوالي تسع ساعات يومياً، تتناوب شاحنتا تفريغ مفصليتان من طراز "بيل" (Bell) على اجتياز مسافة 180 متراً من الحفر إلى الكسارة. الطريق متعرج ومنحدر وضيق، فتكاد الشاحنات الهادرة تكشط سفح الجرف فيما تجتاز الدرب الذي يشبه الأفعوانية، لكن الدرب لا يتغير في كلّ مرة وليس فيه حالات متطرفة أو ساعات ذروة أو طرقات مدارس أو سائقو دراجات يقومون بحركات متهورة. بدل أن تقوم الشاحنات الروبوتية باستدارات عجيبة متعددة المناورات قبل أن تفرغ حمولتها، فهي ترجع إلى الخلف، ما يسرّع عملية إعادة تحميل كلّ شاحنة. قال أنتوني بويل، مدير الإنتاج في "بوب دين"، إن شاحنات "برونتو" توفر عليهم أربع إلى خمس ساعات عمل، ما يتيح للسائقين العمل على آليات التحميل الأمامي والحفارات. يشرح أن شيئاً لم يتغير عدا ذلك "هي مجرد آليات صفراء تقوم بعملها، فيما تقف بعيداً عن طريقها".
يقرّ ليفاندوفسكي أن جعل المقالع أكثر فعالية قليلاً يعدّ تراجعاً عن أحلامه بأساطيل عملاقة من السيارات الروبوتية. تخطط شركته للبدء ببيع برنامجها الإلكتروني للشاحنات التي تجتاز مسافات طويلة في 2023 على أمل أن تتحقق كلّ الطموحات التي كان يتباهى بها سابقاً بعد بضعة عقود، من مدن تسود فيها السيارات ذاتية القيادة، حيث حركة النقل مريحة، وحيث تنعدم الوفيات نتيجة حوادث الطرقات، وحيث تستطيع أخذ قيلولة على الطريق بكلّ أمان. لكن حالياً، يقول: "أريد القيام بأمر حقيقي، حتى لو عنى ذلك التخلي عن الرؤى العظيمة".