ينتج مصنع قائم منذ أكثر من خمسة عقود قرب بلدة ستورغيس في جنوب ميشيغان نحو خمس حليب الأطفال في الولايات المتحدة، وتملكه "أبوت لابورتريز" (Abbott Laboratories) صانعة حليب "سيميلاك" الأشهر في البلاد.
أتى محققان من إدارة الغذاء والدواء الأميركية إلى تلك المنشأة في صبيحة يوم في سبتمبر 2021 لإجراء تدقيق سنوي كان قد تأخر عاماً بسبب قيود وباء كورونا، فوجدا لدى مراجعة سجلات الشركة أدلة على وجود "كرونوباكتر ساكازاكي"
(Cronobacter sakazakii) وهي بكتيريا تسبب مرضاً فتاكاً ويمكنها البقاء لأشهر وأحياناً لسنوات حيةً في حليب الرضع المجفف.
أظهر اختبار أبوت الاعتيادي وجود بكتيريا كرونو باكتر في المصنع خمس مرات في العامين الماضيين، وهو ليس مستغرباً في مصانع حليب الرضع، لكن المقلق كان أن البكتيريا قد وصلت مرتين إلى الحليب المجفف في علب جاهزة للتوزيع. أوقفت "أبوت" العلب في تلك الدُفعات لكنها لم تذكر أي شيء آخر. لم يكن لزاماً على الشركة إخطار إدارة الغذاء والدواء ولم تفعل ذلك. كان من المتوقع أن تصلح "أبوت" كل ما قد يسمح بالتلوث وقالت إنها فعلت ذلك. لكن المفتشان شاهدا عاملاً يدس يده في كيس يحتوي على مكون أساسي دون تنظيف قفازاته أو يديه، وهذا نوع من الإهمال قالا إنه من شأنه أن ينقل بكتيريا كرونو باكتر من الأسطح إلى الحليب المجفف. كما وجدا مزيداً من الأخطاء مثل معدات تجفيف مهمة بها ثقوب وشقوق منذ زمن وهي قابلة لإيواء بكتيريا كرونو باكتر كما لاحظا تجمعات مياه تساعدها على التكاثر.
بكتيريا فتاكة
في اليوم الأول من أيام التفتيش الخمسة، تلقت إدارة الغذاء والدواء تقريراً عن إدخال رضيع في مينيسوتا إلى المستشفى لثلاث أسابيع بعد إصابته بعدوى كرونو باكتر وكان قد رضع حليب "سيميلاك سنسيتيف" (Similac Sensitive) المصنوع في معمل ستورغيس. أبلغ شخص في إدارة الغذاء والدواء شخصاً في "أبوت" عن الحالة في اليوم التالي، إلا أن وكالة الغذاء والدواء و"أبوت" لم يبلغا المفتشين. رغم المشاهد المقلقة التي رصدها المفتشان، إلا أنهما لم يدقا أي جرس إنذار ولم يشيرا إلى أي خطر، فلم تُسحب علب الحليب ولم يغلق المعمل أو يتلقى أي تنبيه. كالمعتاد، اعتمدت إدارة الغذاء والدواء على الشركة لتعالج المشكلة بنفسها.
لكن تتالت الشكاوى والإنذارات. قدّم موظف سابق في المعمل في ستورغيس في أكتوبر تقرير وشاية إلى إدارة الغذاء والدواء زعم فيه أن التركيز على الإنتاجية يهدد أحياناً سلامة المنتج، متحدثاً عن إخفاء انتهاكات متنوعة وأنه كان معلوماً لدى الجميع أن ثمة ثقافة تسامح مع بعض الأشخاص. وصل هذا التقرير لعدد قليل من الموظفين في إدارة الغذاء والدواء إلا أن النسخ المرسلة إلى المسؤولين الكبار ضاعت في غرف البريد حسب قولها. أصيب ثلاثة أطفال آخرين في الأشهر التالية كانوا قد رضعوا الحليب المصنوع في ستورغيس. توفي اثنان منهما ووصل الطفل الثالث في تكساس إلى شفير الموت لدرجة أن كاهناً جُلب للصلاة عليه.
التهابات وأضرار
لم تتحدث والدة الطفل جاين هيرنانديز علناً عمّا مرت به قبل اليوم، وهي لا تريد كشف اسم ابنها الذي أصيب بالمرض بعد أسبوع من ولادته. إذ سببت له بكتيريا كرونو باكتر بالتهاب السحايا والدماغ والكليتين فلحق الضرر بالجانب الأيمن من دماغه، لكن لا يمكن بعد معرفة مدى هذا الضرر، حيث يخضع الطفل البالغ من العمر ثمانية أشهر لرعاية اختصاصي تدخل مبكراً وطبيب أعصاب وطبيب أمراض معدية.
حين عاد المفتشون إلى ستورغيس في نهاية يناير، بعد أربعة أشهر على زيارتهم الأولى، وثلاثة أشهر على تقرير الموظف السابق، وشهر واحد على مقابلتهم أخيراً للموظف مقدم الشكوى، عثروا على خمس سلالات مختلفة من بكتيريا كرونو باكتر. كما كانت الاختبارات التي أجرتها "أبوت" بنفسها في فبراير قد كشفت 20 مرة وجود كرونو باكتر. وصف مفوض إدارة الغذاء والدواء روبيرت كاليف لاحقاً لأعضاء في مجلس النواب الأميركي الوضع في ستورغيس بالصادم. قال: "لنفترض أن لديكم جاراً لديه تسرب في السقف وهو لا يغسل يديه ولديه بكتيريا تتكاثر في أرجاء المطبخ. تدخل وتجد مياهاً مجمعة على النضد وعلى الأرض، والأطفال يسيرون بأحذيتهم الملطخة بالوحل، دون أن ينظف أحد خلفهم. على الأرجح لن ترغب أن يأكل رضيعك في ذلك المطبخ. هذا ما أظهره التفتيش بشكل أساسي".
سُحب حوالي 70 مليون علبة حليب "سيميلاك" من الأسواق في منتصف فبراير، إلى جانب الحليب الخاص "إيليكير" (EleCare) و"أليمينتوم" (Alimentum). وتوقف معمل ستورغيس عن الإنتاج. إلا أن هذا الإغلاق خلق مشكلة جديدة، وهي شح في حليب الأطفال على امتداد البلاد. تبيّن للجميع لاحقاً أن قطاع صناعة حليب الأطفال مركز جداً، لدرجة أن هنالك مصنّعين كبيرين آخرين فقط لحليب الأطفال وهما "ميد جونسون" (Mead Johnson) و"غيربر" (Gerber) ولم يتمكنا من تعويض النقص. ذُعر الآباء، خاصة من يحتاج أطفالهم إلى حليب خاص واستمر النقص حتى عندما زادت الشركات الأخرى إنتاجها وخففت إدارة الغذاء والدواء القيود على الاستيراد.
تلقت الوكالة أكثر من 100 شكوى حول حليب أبوت في غضون أسابيع قليلة ومات سبعة أطفال وأصيب آخرون بالسالمونيلا. كان الرضع يتقيؤون ويعانون الإسهال وآلام المعدة والحمى.
أغلقت إدارة الغذاء والدواء تحقيقاتها في أربع إصابات كرونو باكتر في منتصف مايو وقالت إن الأدلة لا تثبت أو تنفي جزماً وجود صلة بين وفيات الرضع وأمراضهم والحليب المنتج في المصنع. اختارت "أبوت" التأكيد على عدم ثبوت الصلة وتقول إن سلالات كرونو باكتر الموجودة في العيّنتين الوحيدتين المتوفرتين من الأطفال لا تتطابق مع تلك الموجودة في ستورغيس ولا تتطابق إحداها مع الأخرى، وإنه لم يُعثر على كرونوباكتر في اثنتين من العينات الثلاث من علب الحليب المفتوحة التي فُحصت.
دخلت أبوت بعد أيام في اتفاق يسمى "مرسوم قبول" مدته خمس سنوات مع وزارة العدل الأميركية يمنح إدارة الغذاء والدواء إشرافاً استثنائياً على منشأة ستورغيس. تصف وثيقة المحكمة الشركة وثلاثة مديرين بأنهم "غير راغبين أو غير قادرين على تنفيذ إجراءات تصحيحية مستدامة لضمان سلامة وجودة الأغذية المصنعة للأطفال".
رفعت أكثر من عشرين أسرة دعوى قضائية ضد "أبوت" بسبب مسؤوليتها عن المنتجات والاحتيال والإهمال. قالت "أبوت" إنها "متعاطفة بشدة" مع تلك العائلات لكنها تعتقد أن "هذه الدعاوى بلا سند". تخضع إدارة الغذاء والدواء الأميركية لتحقيق من مكتب المفتش العام لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية. أخفقت الشركة في منشأة ستورغيس في منع انتشار العامل الممرض المعروف منذ عقود بتعريض الأطفال للخطر ، كما أخطأت الجهة المنظمة فتراكمت التبعات.
تاريخ متجذر
تقع مدينة ستورغيس التي يقطنها 11 ألف إنسان على حدود ولاية إنديانا. كانت المدينة في السابق أرض مروج وما تزال تربتها خصبة. فيما كانت تعتمد على خطوط سكك الحديد التي تمرّ بها، باتت اليوم موطناً لمصانع عديدة. باع عالم كيمياء حيوية من جامعة هارفرد وطبيب أطفال من بوسطن، وصفتهما لتركيبة حليب أطفال مصنوع من مزيج من حليب البقر والزيوت النباتية والكالسيوم وأملاح الفوسفور إلى شركة "مورس أند روس ميلك" (Moores & Ross Milk) في كولومبوس في أوهايو في 1924. سُمي هذا الحليب "سيميلاك" في اشتقاق من عبارة "شبيه الرضاعة" باللغة الإنجليزية، ليصبح بحلول أربعينيات القرن الماضي حليب الأطفال الأكثر رواجاً في الولايات المتحدة. عرضت حينها مدينة ستورغيس على شركة "مورس أند روس" صفقة، تبيعها بموجبها 45 ألف متر مربع من أرض شاغرة مقابل 3 آلاف دولار. بدأت الشركة بإنتاج "سيميلاك" هناك في 1949.
عُثر على سلالة من كرونو باكتر في العام التالي بداية في علبة حليب مجفف. فيما انكب العلماء على تحليل مدى قدرتها على الانتشار وضررها، بلّغ أطباء عن إصابة بعض المرضى بها وأغلبهم من الأطفال الذين تناولوا مسحوق حليب الرضع.
تتميز بكتيريا كرونو باكتر بخلايا قادرة على الحركة وهي عصوية انتهازية تتكاثر على دقيق القمح ونشاء الذرة وشاي الأعشاب والغبار والمياه، لكن الحليب المجفف وبودرة حليب الأطفال هي أماكن الاختباء المفضلة لديها. يمكن لهذه الخلايا المتناثرة والمجففة أن تعيش لما يصل إلى سنتين. في العادة حين يتعرض الراشدون لبكتيريا الكرونو باكتر تكون قد قتلتها الحرارة، مثلاً عند غلي المياه لإعداد الشاي أو عند خَبز الدقيق، كما أن أجهزة المناعة لديهم تؤمّن لهم الحماية. مع ذلك، يمكن أن تسبب للراشدين الإسهال والتهابات مسالك بولية. لكن حين يتعرض الأطفال إلى كرونو باكتر، يكون جهاز المناعة لديهم غير ناضج بما يكفي بعد، والجهاز الهضمي معرّض للخطر، كما أن البكتيريا في حليب البودرة هي حيّة في معظم الأحيان. على الأرجح لا تكون المياه التي تضاف إلى البودرة تغلي وحين تكون المياه بحرارة الغرفة، فهي تحفز كرونو باكتر. يمكن للخلايا أن تنقسم بسرعة ويتضاعف عددها في غضون عشرين دقيقة. فتخرج من المعدة وتدخل مجرى الدم لتلحق الضرر بالدماغ. قد تسبب للأطفال الإصابة بالإنتان والخراجات والتهاب السحايا، وإذا حدث ذلك، فهو يؤدي إلى الوفاة في نصف الحالات. سُميّت بكتيريا كرونو باكتر تيمناً بقائد الجبابرة "كرونوس" في الأساطير اليونانية الذي التهم أطفاله حين ولدوا.
حين اشترت "أبوت" معمل حليب الأطفال في 1964، أصبحت صاحب عمل كبير في بلدة صغيرة. تعدّ "أبوت" التي مقرّها في أحد ضواحي شيكاغو، أكبر دافع ضرائب في ستورغيس، والاسم الألمع فيها. يعرف معظم العمّال في المعمل بعضهم بعضاً. هناك يمكن التعرف على زوج أو زوجة المستقبل، وفي حال الطلاق يمكن التعرف على شخص آخر والزواج مجدداً، كما قد تكون زوجة أحدهم السابقة تعمل مع زوجته الحالية، وأن يكون أولادك وأخوتك وأصهارك يعملون هناك أيضاً. يتحدث البعض أحياناً كيف وظفت "أبوت" أربعة أجيال من العائلة نفسها.
تواصلنا مع أكثر من 80 موظفاً حالياً وسابقاً على مدى أربعة أشهر وقد أعرب بعض المتقاعدين عن تفاجئهم لما يحصل من مشاكل في العمل، فيما لا يصدق آخرون الأمر وحمّلوا المسؤولية لإدارة الغذاء والدواء. لم يرغب بعضهم الآخر بالحديث عن الأمر، فحتى الذين ما عادوا يعملون هناك، بدوا خائفين من تبعات التحدث في الموضوع، ولم يرغبوا في تحريك المياه الراكدة أو لفت الأنظار.
كان طموح كثير ممن انضموا للشركة في شبابهم أن يبقوا فيها حتى التقاعد في عمر 55 سنة أو أكثر. تمكّن عديد منهم من تحقيق ذلك، ويكادون يجمعون على التعليق بالطريقة نفسها على السنوات التي قضوها في "أبوت"، إذ يقولون إنهم كانوا يعملون بجهد وعاملتهم الشركة جيداً. قدمت "أبوت" أجوراً جيدة وخطة تقاعد وتأمين طبي، ومنحت أسهماً لبعض العاملين، وكانت تتوقع من موظفيها العمل بدوام إضافي في كثير من الأحيان لسبعة أيام في الأسبوع، وبالتأكيد الحفاظ على سير خط الإنتاج. حتى أن أحد العمّال طُلب منه العمل لساعات إضافية في أيامه الأخيرة في الشركة، وقد وافق. قال: "ارتأيت أنني أدين لهم بذلك". تقول "أبوت" إن جميع العاملين في ستورغيس يدركون مدى أهمية عملهم.
البحث عن إبرة في كومة قش
لفتت البكتيريا في 2001، بعد خمسة عقود على اكتشافها، انتباه الهيئة الناظمة لسلامة الغذاء في الولايات المتحدة والشركات الخاضعة لها. أصيب طفل خديج عمره 11 يوماً ويزن أقل من كيلوغرام ونصف في مستشفى جامعي في نوكسفيل في تينيسي في أبريل من ذلك العام ببكتيريا كرونو باكتر. كان يعاني من الحمّى وتسارع في القلب وإنتان. حين توقف دماغه، أزالت عائلته أجهزة الإنعاش ليفارق الحياة بعد تسعة أيام من ذلك. أصيب ثمانية أطفال آخرون داخل تلك الوحدة في المستشفى بالعدوى، تعافى ثلاثة منهم، فيما لم يعان الآخرون من المرض. كان مصدر كرونو باكتر المحتمل الغذاء المشترك للأطفال، وهو حليب "بورتاجين" (Portagen) من صنع "ميد جونسون". سحبت الشركة 17 ألف علبة من حليب الأطفال بعد حوالي سنة على وفاة الطفل الرضيع. أصدرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية توصيات بأن تتوقف وحدات العناية المركزة بالأطفال حديثي الولادة عن استخدام الحليب البودرة تماماً، بما أنه لا توجد أي طريقة لتعقيمه. في حين أن حليب الأطفال السائل معقّم إلا أنه أغلى ثمناً.
جمعت إدارة الغذاء والدواء في محاولة لتقييم المخاطر عينات عن حليب الأطفال من مصنّعين مختلفين، وتبيّن أن خمس عينات من أصل 22 كانت ملوثة بمستويات منخفضة من كرونو باكتر. أبلغ المسؤولون الأطباء وممثلي القطاع في 2003 عن هذا العامل الممرض الذي بدا جديداً، وقال مسؤول في إدارة الغذاء والدواء: "يمكنك دائماً تصميم شيء ما بشكل أفضل قليلاً أو تنظيفه بشكل أفضل قليلاً... تتغير الأوضاع، ويتعين علينا رفع المعايير. فلولا التايتانيك لما كان لدينا سترات إنقاذ على متن السفن السياحية؟" نظراً إلى ندرة إصابات كرونو باكتر، رأى بعض المعنيين بالقطاع أن إدارة الغذاء والدواء تبالغ بردة فعلها.
فعلاً عدوى كرونو باكتر نادرة وغالباً لا تُكتشف أو يُبلغ عنها. مينيسوتا هي الولاية الوحيدة التي تلزم الأطباء بتبليغ المسؤولين الصحيين عن الإصابات. يقول مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها إن أربعة إلى ستة أطفال يمرضون سنوياً بسبب كرونو باكتر، فيما يقدّر باحثون آخرون العدد بحوالي 18 طفلاً. كانت مينيسوتا وحدها قد رصدت ثلاث حالات في السنوات الخمس الماضية.
بعد فترة وجيزة من اجتماع 2003، بدأت إدارة الغذاء والدواء مفاوضات استمرت عقداً كاملاً مع المصنّعين حول بروتوكول اختبار كرونو باكتر. يتذكر موظفون سابقون في ستورغيس سماعهم عن هذه البكتيريا للمرّة الأولى منذ زمن، وارتياحهم لأن التدقيق العام استهدف شركة منافسة أولاً.
واجه المعمل في ستورغيس في 2010 مشكلة أخرى. عرض المشرفون في اجتماع لمراجعة شكاوى المستهلكين صوراً تظهر أثراً لخنافس الدقيق في علبة حليب أطفال. يستذكر عامل سابق ذلك قائلاً: "أخبرونا أنهم لا يعتقدون أنها أتت من المعمل"، لكن "قال عديد منّا إننا نشتبه أنها ربما أتت من هناك". خلصت إدارة الغذاء والدواء إلى أن خنافس الدقيق كانت موجودة في غرفة الحاوية القمعية والمستودع الرئيسي والقبو وبعض الصناديق الموجودة هناك منذ 2007. قال عامل سابق آخر: "كان يجب معالجة الأمر بالشكل الملائم على الفور... تقع ستورغيس بعيداً عن شيكاغو، أنا متأكد أنهم رغبوا بحصر الأمر في ستورغيس على أمل أن يمرّ بطريقة ما".
سحبت "أبوت" خمسة ملايين مستوعب من حليب "سيميلاك" وأوقفت الإنتاج. قالت إدارة الغذاء والدواء من جهتها إنه لا يوجد خطر فوري على الأطفال لكنهم قد يرفضون الأكل إذا كانت أجزاء صغيرة من الحشرات أو اليرقات تسبب تهيجاً في قنواتهم الهضمية. قال الموظف السابق "كان الأمر سيئاً ومقرفاً ومزعجاً لنا جميعاً... ولكنها لم تكن بكتيريا، لم تكن لتسبب موت أحد".
خضعت المنشأة للتنظيف بالبخار وبالماء وللغسيل جيداً، وأزيلت الشجيرات فيما استُبدلت النوافذ والكساء الخارجي، ومُنع أي شخص من فتح الأبواب بعض الشيء. لاحقاً وبّخ الرئيس التنفيذي في حينها مايلز وايت بعض العمّال في "ستورغيس". واستُبدل مدير المعمل لكنه بقي في الشركة.
كلّفت عملية سحب المنتجات "أبوت" 100 مليون دولار وما هي إلا ستة أشهر حتى عاد "سيميلاك" ليكون حليب الأطفال الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.
بقي تهديد كرونو باكتر قائماً، ونادراً ما كانت تنتهي التحقيقات بالتوصل لتأكيد رابط حاسم. أصيب طفلان تناولا حليب "إنفاميل" (Enfamil) الذي تصنعه "ميد جونسون" وتوفيا في آخر 2011. توقفت "وولمارت" بعدها عن بيع حليب الأطفال وتبعتها في ذلك شركات تجزئة أخرى. حين قالت إدارة الغذاء والدواء إنها لم تتمكن من تحديد مصدر العامل الممرض بشكل حاسم، أعاد الجميع "إنفاميل" إلى الرفوف. توفي طفلان آخران في 2017، وأعلنت إدارة الغذاء والدواء العثور على بكتيريا كرونو باكتر في معمل "ميد جونسون" في منطقة زيلاند في ميشيغان. قالت إدارة الغذاء والدواء إنها لم تغلق المنشأة أو تدفع باتجاه سحب المنتجات لأنها لم تكن تعتقد أن المنتج موجود في السوق الأميركية. قال متحدث باسم "ميد جونسون": "لم يُؤكد أن منتجاتنا هي مصدر لأمراض لدى مستهلكين منذ بداية الألفية".
يصعب الإثبات جزماً أن بكتيريا كرونو باكتر الموجودة في علبة حليب مفتوحة مصدرها المعمل وليس منزل الرضيع مثلاً. إذا كانت كرونو باكتر موجودة فعلاً في المعمل، فربما هناك أكثر من سلالة واحدة. قد يكون بعضها عابراً وبعضها الآخر قد بنى مستعمرات بكتيرية حيث يمكنها أن تتفادى اكتشافها والتخلص منها. قد تُكتشف سلالة واحدة أو عدّة سلالات في المعمل، فيما تُكتشف سلالة مختلفة في الحليب أو الطفل المريض. قد يعني ذلك أنه لا يوجد رابط، لكن ربما يعني أن السلالة المطابقة موجودة أو كانت موجودة في المعمل ولم يكتشفها أحد. قال سياموس فانينغ، الأستاذ في كلية دبلن الجامعية المختص بدراسة الكرونو باكتر: "هذا مثال عن الحالات التي لا تتطابق فيها قطع الأحجية".
كما يمكن اختبار عينة الحليب أن يعطي نتيجة سلبية حتى لو كان الطفل مصاباً بالمرض، فتركيبة حليب الأطفال البودرة مصنوعة من ملايين الحبوب الصغيرة، ما يعني أن التلوث قد لا يطال كلّ الحبوب. فلا تلوث البكتيريا علبة الحليب بشكل متماثل، فقد توجد مثلاً في الأعلى وليس في الأسفل. يصعّب ذلك العثور عليها، ويشبه كثير من الخبراء البحث عنها بالبحث عن إبرة في كومة قش.
وشاية موظف سابق
وصل إلى ستورغيس في عام 2015، بعد بضع سنوات من تخرجه من الجامعة، حاملاً توصية جيدة من وظيفته السابقة في شركة "مونسانتو" (Monsanto). بدأ العمل ككثيرين آخرين كمتعاقد يتقاضى أجره بالساعة، وسرعان ما نُقل إلى قسم ضمان الجودة حيث كُلف بمسؤوليات أكبر، وبات يتقاضى راتباً شهرياً. حسب تقييم أدائه السنوي، كان مبادراً ويسأل عن التعليقات حول عمله وإيجابياً. حاز على لقب "الأفضل في أبوت" مرتين تكريماً له على النتائج التي حققها. كتبت المشرفة عليه في 2019 أنه "لا يخشى من أخذ المبادرة والتعبير عن المخاوف عند الضرورة مع منح الأولوية للجودة". أشارت إلى أنه أسهم بفوز المعمل بجائزة دولية. إلا أنها رأت أن عليه تحسين مهارات تواصله، وذكرت سلسلة رسائل إلكترونية كان وقعها اتهامياً أكثر منه تعاونياً.
يرغب الواشي أن يبقى مجهولاً، وقد رفض عبر محاميه التعليق في هذا المقال. لكن نظراً للظروف القائمة، يعرف الكثيرون في ستورغيس هويته، وينصحه عامل متقاعد بأن يحمي نفسه. تقول "أبوت" من جهتها إنه عامل سابق ساخط يواصل الإدلاء بمزاعم متغيرة ومتصاعدة لا أساس لها من الصحة، ولا تتوافق مع الملاحظات التي توصل إليها تحقيق إدارة الغذاء والدواء.
نشرت النائبة الديمقراطية عن كونتيكيت، روزا دي لورو، المعروفة بمواقفها المنتقدة لإدارة الغذاء والدواء الشكوى التي تقدم بها الواشي إلى الإدارة، كما أشير إليها في عديد من الدعاوى القضائية المقدمة منذئذ.
حصلت بلومبرغ بزنيسويك من خلال طلب تقدمت به بموجب حق الاطلاع على السجلات العامة على مستندين آخرين يتناولان قضيته، ملفه لدى إدارة السلامة الوظيفية والصحة في ميشيغان الذي يحتوي على الرسائل الالكترونية المتبادلة وتقييماته السنوية وغيرها من السجلات الشخصية، إضافة إلى إفادات الشهود ودفاع الشركة، وشكوى منفصلة تقدم بها أمام إدارة السلامة الوظيفية والصحة في فبراير 2021 حول انتهاكات السلامة في ستورغيس. لم يذكر قطّ بكتيريا كرونو باكتر، لكنه وصف أوضاعاً تحفز على نموّها.
يزعم الواشي أن في ستورغيس: "غالباً ما كان تحقيق الأهداف يتقدم على سلامة المنتج"، وكان المديرون يتعمّدون التخفيف من خطورة المشاكل أمام رؤسائهم في المقرّ الرئيسي. سحبت "أبوت" في 2019 دفعة من حليب الأطفال "كالسيلو أكس دي" (Calcilo XD) بعدما تغير لونها وفاحت منها رائحة نتنة. قالت إن العمّال في المصنع كانوا يدركون أن المشكلة تكمن في أن مسحوق الحليب يعلق في حزوز العلب وإن المشكلة تشمل عدداً من الدفعات الأخرى التي تتضمن كلّ منها عشرات آلاف العلب. لتجنب العثور على مزيد من المشاكل، طلب المشرفون من العمّال التحقق من حزوز العلب الفارغة.
يقوم المعمل على أجهزة تجفيف، فيضمّ أبراجاً من أربعة إلى ستّة طوابق تحوّل المزيج السائل إلى بودرة. قبل أن يصل الحليب إلى جهاز التجفيف، يكون قد تم مزجه وبسترته وجعله متجانساً، ولكن دون تعقيم ثم يُغربل ويُغلف حين يخرج من جهاز التجفيف. يزيد احتمال تلوث الحليب في أجهزة التجفيف والمراحل التي تليها. يقول الواشي إن بعض أجهزة المعالجة في ستورغيس كانت تتطلب صيانة ضخمة منذ سنوات، إذ تشوب الأنابيب ثقوب تسمح بدخول البكتيريا، ما عرقل في بعض الأحيان التخلص من البكتيريا بشكل ملائم، وهكذا أمكن أن تدخل البكتيريا للحليب الذي يعبر هذه الأنابيب.
يقول الواشي إن الإدارة ارتأت أيضاً في 2019 أنه لم يعد من الضروري أن تخضع بعض إجراءات التنظيف لمراجعة من مهندس، بل يكفي أن يلقي عامل متعاقد نظرة عليها. يحمّل الواشي قلّة خبرة أحد العمّال مسؤولية عدم الانتباه لانقطاع وجيز بالتيار الكهربائي تسبب بعطل في جهاز التنظيف داخل ماكينة التصنيع، ما أدى لتجمّع كتل الحليب المتعفن عليه.
يزعم أن الاختبارات الدورية أظهرت أن عدّة عينات من تلك الدفعة من حليب الأطفال كانت ملوثة بكائنات مجهرية، إلا أن المديرين اتخذوا قراراً بعدم إتلاف كلّ علب تلك الدفعة، وطلبوا من العمال التخلص فقط من العلب المنتجة ضمن إطار زمني محدد، فيما وزّعوا العلب الأخرى دون إخضاعها لمزيد من الاختبارات. كان معمل ستورغيس قد أتلف حليب أطفال بقيمة 8 ملايين دولار، ولم يرغب المديرون بخسارة المزيد.
لم تذكر إدارة الغذاء والدواء الحادثة في تقرير التفتيش الذي أصدرته. قال الواشي إن أفراد الطاقم ومديري الأقسام تبادلوا التهاني لتمكنهم من تجاوز التدقيق دون تلقي أي إنذار، فيما أقرّ أحد المشرفين أنه كان من المحرج تجنب أسئلة المفتشين المباشرة. علم المفتشون بالفعل أن اختبار عينة من حليب "أليمينتوم" (Alimentum) أظهر تلوثها بالبكتيريا قبل شهر، وأن تلك الدفعة من العلب لم تطرح في السوق وستُتلف. قالت "أبوت" إنها وجدت مصدر التلوث وعقمت كلّ المناطق وأجرت اختبارات جديدة ثم استأنفت الإنتاج، وكان ذلك كافياً بالنسبة لإدارة الغذاء والدواء.
استجابة متأخرة
لم تكن كلّ تلك المخاوف سبب النزاع بين الواشي والإدارة. فيوم الجمعة 29 مايو 2020، أرسل رسالة إلكترونية إلى مشرفي المعمل بدأها بالتالي "مرحباً، أعتقد أن X جلبت صاعقاً كهربائياً إلى العمل اليوم... سمعنا صوته ينطلق مرتين. بدا وكأن أحدهم يتعرض لصعق كهربائي".
بالفعل كانت امرأة قد جلبت صاعقاً إلى العمل، ولم يُطلب منها العودة إلى منزلها. ببساطة أتى زوجها إلى المعمل وأخذ السلاح. يعتقد الواشي أن زميلته كانت محمية بفضل صداقتها مع "الثلاثة الكبار"، أي النساء الأعلى رتبة ونفوذاً في المعمل، فهي كانت محبوبة، أمّا هو فلم يكن. اتصل يوم الاثنين بقسم علاقات الموظفين في مقرّ الشركة، فنظر بعض العاملين في ستورغيس إلى هذه الخطوة على أنها انتهاك منه. قال أحد الموظفين: "لقد تجاوز الإدارة والمعمل من أجل التبليغ عن حادثة الصاعق، وهم لا يريدون أن يقوم العمّال بذلك".
ارتكب الواشي في ذلك الصيف خطأين فيما يخصّ مراجعة سجلات حليب الأطفال الموزع دولياً وكان قد ارتكب خطأً آخر في وقت سابق. برر ذلك بعدم تلقيه ما يكفي من التدريب، مشيراً إلى أن عمالاً آخرين ارتكبوا أخطاء مشابهة. قال المديرون في المنشأة إنه عرّض الشركة لخطر الاضطرار لسحب منتجات وطُرد من عمله في أغسطس.
تقدم الموظف السابق بشكوى أمام إدارة السلامة الوظيفية والصحة في ميشيغان بدعوى تعرضه لمعاملة انتقامية. ثمّ تقدم بشكوى فيدرالية بعد خمسة أشهر في فبراير 2021 أمام إدارة السلامة الوظيفية والصحة تحتوي صفحات من المزاعم المفصلة حول سلامة المنتجات. قال في الشكوى "إخفاء المعلومات عن إدارة الغذاء والدواء أمر تحتفي به إدارة المعمل" في ستورغيس، وإنه تم التغاضي عن "أخطاء في الأداء بما فيها أخطاء فادحة فطالما كانت الأرقام تحقق، يُغض الطرف". أبلغت إدارة السلامة الوظيفية والصحة على الفور إدارة الغذاء والدواء بالشكوى، كما أبلغت "أبوت" التي قالت إنها تعاونت مع التحقيق. أمكن إدارة الغذاء والدواء أن تحدد موعداً للتفتيش في حينها بدل الانتظار حتى موعد التفتيش السنوي في سبتمبر لكنها لم تفعل ذلك. تقول إنها تقوم حالياً بمراجعة استجابتها.
ردّت ميشيغان في يونيو 2021 شكوى الواشي حول تعرضه لمعاملة انتقامية، في حين ما تزال إدارة السلامة الوظيفية والصحة تحقق بذلك. أرسل شكوى الوشاية في أكتوبر إلى إدارة الغذاء والدواء زعم فيها أنه لو كان العمّال قادرين على التحدث بحرية لانهار معمل ستورغيس.
اطلع مفتشا إدارة الغذاء والدواء على تقارير عن التلوث بكرونو باكتر في سجلات "أبوت" في سبتمبر 2021 والتزما بالإجراءات المتبعة، فالتفتيش السابق قبل سنتين لم يكشف عن أي مخالفات فاضحة، لذا لم يأخذا عينات من المنشأة بنفسيهما، بل اعتمدا على سجلات الشركة بدل ذلك.
وصلت شكوى الواشي في أكتوبر إلى بعض موظفي إدارة الغذاء والدواء عبر البريد الالكتروني، وكانت النسخ المرسلة عبر "فيديكس" إلى كبار المسؤولين في الإدارة ما تزال ضائعة في غرف البريد، فيما الذين قرؤوها لم يشاركوها مع المسؤولين. قال مفوض إدارة الغذاء والدواء كاليف لاحقاً "كان الإجراء الاعتيادي المتبع هو عدم التصعيد". إلا أن المسؤول الكبير السابق في إدارة الغذاء والدواء ستيفن أوستروف قال: "حين تتلقى أمراً مفصلاً وموسعاً إلى هذا الحدّ، لا يعود الأمر اعتيادياً". قال براين رونهولم، مدير سياسة الغذاء في منظمة "كونسيومر ريبورتس" (Consumer Reports): "كان يجب أن يتضح على الفور أن الأمر أكبر من مجرد ضغينة ضد الشركة، كان يجب أن يلفت انتباه الجميع في إدارة الغذاء والدواء". لم تفاجأ دي لورو باستجابة إدارة الغذاء والدواء، وقالت: "لا أرى أن هذه الإدارة ترغب فعلاً بأن تكون هيئة ناظمة... هم عادة يقفون إلى جانب القطاع ضد الأفراد".
بالتالي، لم يقابل أحد الواشي حتى نهاية ديسمبر، حين رتب ثلاثة مفتشين اتصالاً معه عبر الفيديو دام ثلاث ساعات ثم اتصلوا بـ"أبوت" لترتيب زيارة في الأول من يناير.
تقول الشركة التي تنتج اختبار "بيناكس ناوس" (BinaxNow) السريع إنها تلزم موظفيها بتلقي لقاح كورونا وتخضعهم لاختبارات أسبوعية وإن نسبة الإصابة لديها أقل من المقاطعة المحيطة بها. لكن حين اتصل المفتشون طلبت منهم الشركة الانتظار بسبب تفشي فيروس كورونا في المعمل.
لم يعد باستطاعة المفتشين الانتظار أكثر في نهاية الشهر، فتوجهوا إلى ستورغيس وعثروا على كرونو باكتر. بررت "أبوت" لاحقاً أن عمالاً متعهدين استقدمتهم لإصلاح السقف قد دخلوا إلى أماكن يتعين أن تكون محظورة هم من حملوا معهم البكتيريا. لاحظ المفتشون مجدداً تاريخاً من التصدعات والتشققات في أبراج التجفيف، وشاهدوا مياهاً متجمعة في بعض الأجهزة بينما كان يتعين أن تكون جافة. أدرجت سجلات "أبوت" 310 مشكلات تتعلق بالمياه في العامين الماضيين، مثل التسربات والرطوبة والتكثيف، التي تعود بجزء منها إلى سقف يحتاج للإصلاح.
رغم حثّ من إدارة الغذاء والدواء في 15 فبراير وفي اليوم الذي تلاه لم تعلن "أبوت" عن سحب المنتجات من الأسواق. أصدرت إدارة الغذاء والدواء توصية للمستهلكين في17 من فبراير، فيما أعلنت "أبوت" عن سحب طوعي للمنتجات ثم وسعته بعد 11 يوماً.
عقود مع الولايات
بحلول ذلك الوقت، كان الطفل أوين باير قد بلغ من العمر خمسة أشهر وكان وزنه 6.8 كيلوغرام المولود بصحة جيدة، وأُطعم حليب "سيميلاك برو أدفنس" (Similac Pro-Advance) يرقد بمستشفى في سان لويس. كان الطفل يعاني من انزعاج وتقيؤ، وشرود في العينين فيما ارتفعت حرارته إلى أربعين درجة. قالت والدته جوردين
"لم يكن يستجيب جيداً لأي شيء"، لا الدواء ولا الضوء ولا اسمه. أبلغهم الأطباء أنه يعاني من نوبة. قال والده زاك إنه "لم يكن يرتجف بل كان متيبساً، بدا وكأن جسمه أغلق على نفسه".
تعيّن نقل أوين إلى مستشفى أكبر لكن حين وصلت الإسعاف، قال المسعفون إن حالته ليست مستقرة بما يكفي ليتحمل مسافة 45 دقيقة على الطريق ويجب نقله في مروحية. شاهد زاك وجوردين طفلهما الصغير فيما كان يوضع أنبوب له ويُنقل على حمالة على متن المروحية دون أن يتمكنا من مرافقته.
اشتبه الأطباء بإصابته بعدوى بكتيرية، على الأرجح التهاب السحايا، وبدؤوا بإعطائه مضادات حيوية عبر الوريد. كما أجروا له بزلاً قطنياً للتحقق من الإصابة وتمكّنوا من إيقاف النوبات. خدروا أوين وغطوه جيداً ونام طوال الليل حتى صباح اليوم التالي. أخبر الأطباء والديه أنه كان فعلاً مصاباً بالتهاب السحايا، معللين ذلك بسوء حظه فقط. قالت جوردين: "كانت طريقة وصف ذلك مروّعة لكنني شعرت بنوع من السلام بما أن ذلك يعني أنه لم يكن بإمكاني القيام بأي شيء لمنع ما جرى، فقد حصل ما حصل".
سمعت جوردين عن سحب منتجات "أبوت" بعد يوم أو يومين من الإعلان لكن لم تسمع شيئاً عن كرونو باكتر. ثمّ راحت تفكر بأن "الأمر أكبر من أن يكون صدفة... تقولون لي إن طفلي يتناول الحليب الذي سُحب من الأسواق والذي يسبب التهاب السحايا، لكن سبب إصابته هو مجرد حظّ سيئ. لم أصدق ذلك". لم يكن الأطباء قد بحثوا عن كرونو باكتر في البداية وأخبروها أن المضادات الحيوية التي أعطيت لأوين على مدى الأيام الثلاثة الماضية، ستجعل كشف إصابته بالبكتيريا مستحيلاً.
ما إن عاد أوين إلى المنزل وبدأ يتماثل للشفاء حتى جلبت جوردين أربع علب من الحليب الذي تم سحبه إلى إدارة الصحة وكبار السنّ في ميسوري. وتبين أن إحدى علب "سيميلاك برو سنسيتيف" (Similac Pro-Sensitive) المفتوحة كانت ملوثة بكرونو باكتر. لكن بما أن أوين لم يخضع لاختبار للتحقق من إصابته بكرونو باكتر، فهو غير مشمول بالأرقام الرسمية التي اعتمدتها إدارة الغذاء والدواء.
استيقظ أوين من قيلولته بعد ظهر أحد أيام مايو وهو يضحك بكلّ حيوية ويشعر بالجوع. بدأ الآن بتناول بعض الأطعمة الصلبة ويشرب حليب الأطفال السائل، وهو أيضاً من صنع "أبوت". صار يجلس وينقلب على بطنه وظهره ويزحف ولديه سنّان. يدرك زاك وجوردين أنهما محظوظان جداً ولكنهما لا يعرفان إلى متى سيدوم ذلك. قالت جوردين: "قد يعاني من تأخر ذهني أو تأخر جسدي أو صعوبات تعليمية، وهي كلّها أمور لن نكتشفها لفترة... يجب أن نبقى متيقظين. لذا دائماً أتساءل ما إذا كان أي أمر يقوم به طبيعياً".
تدين "أبوت" بمكانتها الرائدة في عالم حليب الأطفال جزئياً لتدخل الحكومة لمساعدة الأسر المحتاجة. يوفر برنامج التكملة الغذائية الخاص للنساء والرضع والأطفال الحليب المجفف فقط إلا في حالات استثنائية، إلى حوالي نصف الأطفال المولودين في الولايات المتحدة سنوياً. تبرم كلّ ولاية عقداً مع مصنّع واحد، ولدى "أبوت" حالياً عقود مع 35 ولاية ومقاطعة كولومبيا.
تقدم الشركات حسومات ضخمة للولايات. اشترت تكساس العام الماضي حليب أطفال عادي من "أبوت" بقيمة حوالي 210 ملايين دولار، مقابل 10 ملايين دولار فقط، لكن تمنح هذه المبيعات المضمونة الشركة حصة أوسع من الرفوف في المتاجر، ما يعني أن الأمهات اللواتي يشترين الحليب من جيبهن الخاص، غالباً ما يشترين الماركة نفسها، مثل الأهل الذين يعتمدون على برنامج التكميل الغذائي.
فيما كانت برامج التكميل الغذائي ما تزال تكافح لتأمين حليب الأطفال في مايو، وجّه وزير الزراعة توم فيلساك رسالة إلى "أبوت" أعرب فيها عن "قلقه العميق" لأنها لم تعد بحسومات على ماركات حليب أخرى في الفترة التي يستمر فيها النقص. أعلنت "أبوت" بعدها تقديم حسومات حتى أكتوبر على الأقل، وستخصص 5 ملايين دولار لمساعدة العائلات التي تعتمد على حليب "إيليكير" (EleCare) المصمم للأطفال المصابين بحساسية غذائية، في نفقاتهم الطبية والنفقات المعيشية.
نشرت الشركة بياناً حاسماً في مايو عبر "تويتر" حول التحقيق الذي أجرته إدارة الغذاء والدواء، وقالت "الحليب من هذا المعمل لم يسبب الأمراض لأولئك الأطفال". إلا أن البيان لم يرق للخبراء، فقد قال كريغ هيدبيرغ، الاختصاصي الوبائي في جامعة مينيسوتا: "لا يحق لهم أن يقولوا ذلك، لا يمكنهم استبعاد أن يكون معملهم هو المصدر". كما قال أوستروف، المسؤول السابق في إدارة الغذاء والدواء: "لم تعجبني حجتهم". برغم أن إثبات وجود رابط مباشر يتعذر على الأرجح، رأى أنه إذا كانت كلّ الأدلة تشير إلى أمر ما، فهو على الأرجح صحيح. أعلنت "أبوت" لاحقاً أنها أجرت اختبارات على أكثر من 10 آلاف علبة حليب ولم تجد كرونو باكتر في أي منها.
استعادة الثقة
أُعلن في 16 مايو عن التوصل لاتفاق تسوية و تعيّن على معمل ستورغيس تحسين إجراءات السلامة التي يعتمدها واختبار المنتجات وصيانة معداته واستبدال السقف وإصلاح الأرضية، كلّ ذلك تحت إشراف إدارة الغذاء والدواء، قبل أن يستأنف العمل مجدداً. قال المحامي المختص بسلامة الغذاء بيل مارليو إن الاتفاق "هو إقرار يمكنك تحويله إلى اتهام بسرعة". فيكفي أن يقوم المحامون الذين يتهمون "أبوت" بجنحة مخالفة القانون الفدرالي للغذاء والدواء ومستحضرات التجميل بإثبات مسؤولية الشركة، وليس عليهم إثبات نيتها. قال: "إذا كنت تنتج مأكولات في ظروف غير صحية، فلا مفرّ أمامك". من جهتها، تقول "أبوت" إن مرسوم الموافقة هو اتفاق مدني وإنها قررت عدم الاعتراض على المزاعم الواردة في المستند لتستأنف الإنتاج سريعاً.
جاين هيرنانديز واحدة من الآباء والأمهات الذين تقدموا بدعوى قضائية ضد "أبوت" وقد ينضم إليهم قريباً الزوجان باير. تقدمت النائبة دي لورو هذا الصيف بمشروع قانون لفصل قسم الغذاء عن إدارة الغذاء والدواء نهائياً، على أمل أن يساعد ذلك على محاسبتها. فيما لم تعلق إدارة الغذاء والدواء على ذلك بعد، فهي تقول إنها طلبت مراجعة خارجية إلى جانب المراجعة الداخلية وهي تعيد دراسة إجراءات التفتيش التي تتبعها، بالأخص متى تأخذ عينات بنفسها من البيئة المستهدفة. لكنها تقرّ بأنها لا يمكنها القيام بالكثير. قال متحدث باسمها: "تشدد إدارة الغذاء والدواء على أهمية أنظمة وثقافة الجودة داخل الشركات... في نهاية المطاف، حين اكتشاف المشاكل تكون معالجتها هي مسؤولية الشركة للحفاظ على سلامة المستهلك". بيّن متحدث باسم "أبوت" أن "العاملين في ستورغيس ملتزمون بمعايير الجودة والسلامة ومصممون على استعادة ثقة الأهالي، و(أبوت) مصممة على ذلك أيضاً".
هبّت عاصفة في ستورغيس في 15 يونيو، بعد أقل من أسبوعين على إعادة فتح المعمل أدت لفيضان في المعمل وعطلت الإنتاج. لم تعلن الشركة متى سيستأنف معمل ستورغيس إنتاج "سيميلاك"، لكنه ينتح حليب "إيليكير" منذ بداية يوليو. ستختبر 180 علبة من كلّ دفعة يحثاً عن كرونو باكتر خلال الإنتاج وفي حال اكتشاف وجودها يتعين توقيف الإنتاج تماماً وتبليغ إدارة الغذاء والدواء في غضون 24 ساعة أن العامل المسبب للمرض قد عاد.