قبل عشرين عاماً، حضرت ريتشيل أيفي مؤتمراً عن العالمات في مجال علم الفلك في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة. واستعرضت أيفي، في إطار جلسة نقاش عامة حول التوزيع الديموغرافي للجنسين في هذا المجال العلمي، سلسلة من الشرائح التوضيحية التي تشير إلى حقيقة مؤسفة: وهي أنَّ 14% فقط من أعضاء هيئة التدريس في مجال علم الفلك هنَّ من الإناث – وهو معدل يزيد بقليل عن نصف المعدل في مجالات العلوم والهندسة مجتمعة.
عقب انتهاء الجلسة، اقترب من أيفي العديد من المشاركين لمعرفة سبب انخفاض هذه الأعداد بالرغم من كون 60% من علماء الفلك الشباب في ذلك الوقت كن من النساء. وتقول أيفي، التي تشغل منصب زميلة أبحاث في المعهد الأمريكي للفيزياء (AIP): "كان السؤال الأبرز: ما الذي سيحدث مع هذه المجموعة الكبيرة من العالمات الشابات؟ لماذا تترك النساء المجال؟".
دراسة طويلة الأمد
ظل هذا السؤال يلّح على أيفي، وبعد بضع سنوات شرعت في دراسة طويلة الأمد حول الأدوار الجندرية (التمييز على أساس الجنس) في المجال العلمي، وكانت الدراسة برعاية الجمعية الفلكية الأمريكية (AAS) والمعهد الأمريكي للفيزياء. وخلال سنوات الدراسة تابعت عالمة الفلك وفريقها المكوّن من 1300 من طالبات الدراسات العليا منذ عام 2007، عملية العودة والتحقق من أوضاعهن مجدداً في عامي 2013 و2016، وفي سنوات لاحقة إذا احتاج الأمر. وبالنظر إلى أنَّ بعض المشاركات في الدراسة هي حالياً خارج الأوساط الأكاديمية تماماً؛ فإنَّ الدراسة تسلط الضوء أيضاً على تجربة المرأة في العمل حتى خارج نطاق أقسام علم الفلك أو الفيزياء في الجامعات.
إجابات مفاجئة
كانت الفكرة المبدئية للدراسة تتمثل في توضيح الأسباب المتعددة التي تجعل المرأة تتخلى عن الوظائف العلمية. وعندما عادت النتائج، لفتت إجابات المستطلعات حول سؤال عن التحرش الجنسي والتمييز انتباه أيفي ومساعديها. عن ذلك، تقول أيفي: "شعرنا أنَّه من المهم الإبلاغ عن التفاصيل الدقيقة عن أماكن حدوث التحرش، ومن هم الذين يقومون بالاعتداء، وماهية هيكل السلطة الذي يتم ترسيخه في هذه الأماكن".
يسرد التقرير سلسلة من المواقف غير اللائقة. لكنَّ الأمر الأكثر إثارة للدهشة يتمثل في أنَّ التحرش لم يكن في صورة اعتداء يُمارس من قبل رجل يملك نفوذاً على موظفاته، على غرار ما حدث في قصة منتج هوليوود هارفي واينستين؛ بل إنَّ هذه المواقف تعرضت لها النساء العاملات خلال مقابلات توظيف، والندوات، واستراحات تناول القهوة، وغيرها من اللقاءات. وكان الجُناة فيها من الرجال على اختلاف درجاتهم العلمية والوظيفية من طلاب ومساعدين وأساتذة زائرين، وحتى رؤساء أقسام ومستشارين في هيئة التدريس ونظراء أيضاً.
تحرش وتمييز
يخيم شبح التحرش على علاقات العمل طويلة الأمد واللقاءات القصيرة على حد سواء، وفي المواقف التي يوجد بها شهود، وفي تلك اللقاءات الفردية التي تعقد في مكتب المرأة، أو داخل إحدى غرف الاجتماعات المعزولة. على سبيل المثال، قال أحدهم لعالمة من عالمات الفلك إنَّ علاقاتها الجنسية هي السبب وراء إصابتها بمرض "كثرة الوحيدات". كما ألمح أستاذ جامعي - مازحاً على ما يبدو - إلى أنَّ عالمة فلك كانت على علاقة جنسية مع زميلتها التي كانت تقضي الليلة في شقتها. بينما كان أستاذ متزوج آخر يسعى لدخول علاقة عاطفية والهروب مع عالمة فلك، مع أنَّ الأخيرة لم تكن تهتم لأمره.
من جهة أخرى، أفادت العديد من النساء بأنَّهن لم يحصلنَّ سوى على دعم قليل أو معدوم من قبل الرجال في المجال، إذ كان بعض أعضاء هيئة التدريس يصطحب طلابه من الذكور فقط لتناول القهوة، وأكدت النساء أنَّ أقرانهنَّ من الذكور تجنّبوا التعاون معهم. فكتبت إحدى المشاركات فى دراسة أيفي واصفة تعامل مجموعة عمل مكونة من خمسة رجال معها: "تجاهلوا ما قلته حرفياً. كان علي أن أتحدث بصوت مرتفع، وأن أكرر ما أقوله لعدة مرات". كذلك؛ فإنَّ حدة المشكلة لا تقلّ مع تقدّم النساء في العمر، بل تزداد حين يصبحن أمهات، حيث يتعرضنَّ لتعليقات متكررة حول شكل أجسادهنَّ، وأوزانهن، وحول رعاية الأطفال. ولم يكن المحرضون على تلك التصرفات من الرجال دائماً، إذ قالت مشاركة أخرى: "نشرت موظفة متعمدة شائعات كاذبة حول حياتي الجنسية في أنحاء القسم".
محاولة التجنب
حدّدت الدراسة أربعة أنواع رئيسية من المضايقات التي تتعرّض لها النساء في بيئات العمل، وهي: التنميط المنحاز (مثل: متى ستتركين العمل لإنجاب الأطفال؟)، والإساءة المعنوية (مثل: التهكم، والسخرية، والانتقادات، والتعليقات المحبطة)، والاهتمام الجنسي غير المرغوب (يتراوح من التعليقات البذيئة، حتى التهديد والمطاردة والاعتداء)، وأخيراً، المعاملة غير المنصفة (دعم أقل، تقدير أقل للمجهود، وفرص أقل).
في حين قدّمت بعض المشاركات شكاوى رسمية بشأن تلك المضايقات، إلا أنَّ العديد منهنَّ يتبنينَّ استراتيجية التجنب، فيقمن بدلاً من ذلك بالتخلي عن حضور الفعاليات، وعدم البقاء في العمل لوقت متأخر، أو تغيير المهنة.
ذكرت إحداهنَّ أنَّها "بدأت في ارتداء ملابس أقلّ لفتاً للنظر، بالإضافة إلى قمصان فضفاضة، خلال الأيام التي علمت فيها أنَّها ستقابل عضو هيئة تدريس بعينه". وتعلّق على ذلك تريسي ليفي، المؤسسة المشاركة في شركة "إيمباكت وركبليس تريننغ" (Impact Workplace Training) المتخصصة في مكافحة التحرش، وتقول إنَّ ردود الأفعال تلك هي ما تحصل في غالبية الأحيان: "لا تستطيع معظم النساء تنحية هذه المشاكل. وغالباً ما يقمن بتغيير المهنة، أو الخروج من المجال تماماً".
الحصانة الذكورية
كذلك، فوجئت أيفي بأنَّ المضايقات في عديد من الإفادات لم تكن في إطار سيناريو مضايقة الرؤساء للموظفات العاملات في درجة أقل منهم في السلم الوظيفي. ففي كثير من الأحيان كان زملاء العمل في مستويات وظيفية أدنى يوجهون تعليقات مهينة أو غير لائقة للنساء في مستويات وظيفية أعلى؛ ربما ببساطة لإثبات قدرتهم على القيام بذلك والإفلات من العقاب. تقول ريتشيل: "يمكن أن يعكس هذا السلوك التفاوتات في السلطة بين الجنسين. إنَّه أمر تحتاج الشركات أن تكون على دراية به حقاً".
وعلى الرغم من أنَّ الدراسة تركز على علم الفلك، لكنْ هذا المجال ليس بمثابة جحيم خاص بالنسبة للنساء، كما تؤكد بولا زكودي رئيسة الجمعية الفلكية الأمريكية. حيث تشغل النساء ربع مناصب التدريس في الوقت الحالي تقريباً في أقسام علم الفلك، في مقابل الخُمسَين في هيئات تدريس جميع كليات العلوم والصحة والهندسة. وتقول زكودي، مشيرةً إلى مراجعة عام 2017 لسياسات الجمعية المتعلقة بالأخلاقيات ومكافحة التحرش: "التقرير يجعل الأمر يبدو وكأنَّ علم الفلك هو أسوأ المجالات العلمية، لكن في الواقع أعتقد أنَّنا الأفضل من ناحية التصدي للمشكلة".
تتفق معها في ذلك كيا روبرتس، التي أشرفت على تحقيقات سوء السلوك في الاتحاد الوطني لكرة القدم الأميركية. فتقول المديرة الحالية لشركة "تراينغل" للتحقيقات (Triangle) التي تنظر في قضايا التحرش والتمييز في الشركات، إنَّ الدراسة تشير إلى حجم المشكلة في كل مكان تقريباً. وأضافت روبرتس أنَّ الجمعية الفلكية الأمريكية تستحق الثناء على كشفها لمثل هذه الحقائق الداخلية القاسية. وفي حين تجري بعض المؤسسات استبيانات دورية لقياس مدى رضا موظفيها أو تقييم ثقافتها، إلا أنَّ تلك الاستطلاعات عادةً ما تكون موجّهة للحصول على الإجابة عن سؤال متعلّق بالعمل مثل سبب مغادرة الموظفين الموهوبين، ونادراً ما يتم الإعلان عن النتائج. وأضافت روبرتس: "إذا لم تعرف كيفية وقوع السلوكيات المُسيئة في مؤسستك بشكل فعلي؛ فإنَّه لن يُمكِّنك من التوصل إلى إجراءات تصحيحية قوية وشاملة للتصدي لها".