غالباً ما تغذي طفرات العملات المشفرة أحلاماً بالثروات التي تغيّر الحياة. في أفغانستان، ينتهز مشترو العملات المشفَّرة فرصة حيازتها بدلاً من ذلك، على أمل الحفاظ على الثروة التي لديهم، مع إبقائها بعيدة عن متناول طالبان.
في مكتب ذي جدران بيضاء يقع بجوار سوق مفتوحة لصرف العملات الأجنبية، يقوم حبيب الله تيموري مع موظفيه الأربعة بإجراء صفقات للعملاء باستخدام هواتف "سامسونغ" الخاصة بهم. في حين تقوم كاميرات صينية الصنع بالمراقبة. وعلى الحائط علّقت لافتة كتب عليها: (يرجى الامتناع عن طلب قرض).
المكان هو مدينة هرات، ثالث أكبر مدينة في أفغانستان، واحة في الصحراء الغربية على بعد 75 ميلاً (120 كيلومتراً) من الحدود الإيرانية. يقول تيموري، إنَّ شركة "ميهان كريبتو" (Maihan Crypto) الخاصة به هي الأكبر من بين ست شركات سمسرة للعملات المشفَّرة في البلاد، علماً أنَّ أربعاً منها تتخذ من هرات مقراً لها.
اقرأ ايضاً: إيران تستهلك 10 ملايين برميل نفط سنوياً لتعدين بتكوين
لا يتطلّع العديد من العملاء إلى شراء "بتكوين". بدلاً من ذلك؛ يريدون عملات مستقرة رقمية مرتبطة بأصل مثل الدولار ومصممة كي تحتفظ بقيمتها.
في مقابلة بالفيديو، قال تيموري (26 عاماً: "الطلب على العملات المشفّرة مرتفع.. خلال الأزمات الأخرى، كان الناس يحتفظون بنقودهم ومجوهراتهم تحت الأرض أو تحت وسائدهم. لكن هذه المرة قرروا الاحتفاظ بها مدفونة في العملات المشفَّرة".
زار ناصر علي، تاجر عقارات في المدينة، شركة "ميهان" لأول مرة في أكتوبر، ودفع 150 أفغانياً (1.73 دولار أمريكي) مقابل جلسة تدريب على العملات المشفَّرة مدتها 45 دقيقة، ثم سجل حساباً في "بينانس"، أكبر بورصة عملات رقمية في العالم.
أعرب علي (26 عاماً) عن قلقه من أن تسعى طالبان إلى مصادرة أصوله، وسط تقارير عن اقتحام الجماعة المتشددة لمنازل سكنية وأخذ ممتلكات منها.
في نوفمبر، أخذ علي 30 ألف دولار من مدخراته، وحوّلها إلى "تيذر"، أكبر عملة مستقرة. وقد ساعدته "ميهان" في إتمام الصفقة.
يقول علي في مقابلة: "أتمنى لو أنني كنت أعرف عن العملات المشفَّرة قبل أن تتولى طالبان زمام الأمور".
إنَّه مثال آخر على كيفية اكتشاف العملات المشفَّرة لاستخدامات جديدة في العام الماضي في بلدان مزّقتها الصراعات الأهلية أو الحروب. تلقّت أوكرانيا أكثر من 60 مليون دولار من التبرعات بالعملات المشفَّرة منذ الغزو الروسي في أواخر فبراير. وفي ميانمار، اعترفت الحكومة في المنفى بــ"تيذر" كعملة رسمية في سعيها لتمويل حملة للإطاحة بالمجلس العسكري الذي استولى على السلطة العام الماضي.
يقول أليكس زيردين، الملحق المالي السابق لوزارة الخزانة الأمريكية في أفغانستان، الذي تُقدّم شركته "كابيتول بيك ستراتيجيز" (Capitol Peak Strategies) استشارات لشركات العملات المشفَّرة، إنَّ استيلاء طالبان على السلطة كان له العديد من العواقب المؤسفة على شعب أفغانستان. ويضيف أنَّه ليس من المستغرب أن يستخدم الناس الأصول الرقمية كوسيلة للحد من تدخل طالبان في شؤونهم الاقتصادية.
سيطرت طالبان على مدينة هرات في أغسطس، وتوغلت في العاصمة بعد يومين، واستعادت السيطرة الكاملة على البلاد بعد عقدين في أعقاب خروج القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي. صدمت مشاهد سقوط كابول الجماهير في جميع أنحاء العالم.
اقرأ أيضاً: من سيرشد طالبان هذه المرة: باكستان أم قطر؟
بعد أشهر، باتت البلاد تعاني من عقوبات قاسية. حجبت الولايات المتحدة 9 مليارات دولار من احتياطيات النقد الأجنبي عن أفغانستان، وبات الاقتصاد على وشك الانهيار، والنظام المصرفي على حافة الهاوية، إذ يُسمح للأشخاص فقط بسحب 400 دولار في الأسبوع. من جهتها، قالت الأمم المتحدة في شهر مارس، إنَّ حوالي 95% من السكان لا يملكون ما يكفيهم من الطعام.
مؤخراً، علّقت الجماعة المتشددة التعليم الثانوي للفتيات المراهقات، وفرضت الفصل بين الجنسين في مدن الملاهي، وأمرت موظفي الحكومة بإطلاق اللحى.
لكن بالنسبة لتيموري؛ فقد كانت عودة طالبان جيدة بالفعل للأعمال التجارية، على الأقل حتى الآن.
يقول تيموري إنَّ شركة "ميهان" تتعامل الآن مع حوالي 400 ألف دولار من معاملات العملات المشفَّرة كل أسبوع، أي أكثر من ضعف المستوى الذي كانت عليه قبل سيطرة طالبان.
في تقرير صدر العام الماضي عن شركة "تشين أناليسيس" (Chainalysis) للأبحاث تناول سلاسل الكتل "بلوكتشين"؛ صُنّفت أفغانستان كواحدة من أفضل 20 دولة في العالم من ناحية تبني العملات المشفَّرة. تم ترجيح النتائج من خلال تعادل القوة الشرائية للفرد، الذي يفضل الدول الفقيرة.
إنَّ شراء العملات المشفَّرة ليس بالأمر السهل في أفغانستان، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّه من المستحيل نقل الأموال مباشرة من حساب مصرفي أفغاني إلى بورصة مثل "بينانس". فبسبب العقوبات؛ قُطعت الروابط المصرفية مع الدول الأخرى. وهنا يأتي دور الوسطاء مثل شركة "ميهان".
يستخدم تيموري وموظفوه نظام الحوالة التقليدي، وهو طريقة غير رسمية لتحويل الأموال التي تمثل حوالي 90% من المعاملات المالية في أفغانستان. إذ يرسلون الأموال -بالدولار الأمريكي غالباً- إلى جهات اتصال في دول مثل إيران وتركيا والولايات المتحدة، وبدورهم يقوم هؤلاء الأشخاص، في المقابل، بنقل الرموز الرقمية مثل "بتكوين" والعملات المستقرة إلى محفظة "ميهان" في "بينانس".
هذا يعني أنَّه يمكن للعميل جلب الأموال إلى شركة "ميهان"، والحصول على "تيذر"، أو "بتكوين"، أو العملات الرقمية الأخرى بالمقابل. وتحتفظ شركة الوساطة أيضاً بمخزون من الأموال في متناول اليد عندما يريد العملاء استبدال عملاتهم المشفَّرة بالنقد.
اقرأ أيضاً: لماذا تريد تركيا حراسة بوابة أفغانستان إلى العالم؟
بالطبع؛ ليس بالضرورة أن تكون العملات المستقرة خالية من المخاطر. فقد عانت سمعة "تيذر"، التي تبلغ قيمتها السوقية حوالي 83 مليار دولار، من تكهنات حول ما إذا كانت تغطي كل أصل من أصولها بالدولار كما تزعم.
رجل "بيتزا بتكوين"
تتقاضى شركة "ميهان" عمولة تصل إلى 1.5% على كل معاملة عملات مشفَّرة، أي ما يزيد عدة مرات عما تفرضه عادةً بورصات مثل "بينانس". ووفقاً لتيموري؛ فإنَّها تدر عائداً يتراوح بين 16 ألف دولار و20 ألف دولار شهرياً.
يقول تيموري إنَّه يحتفظ بحوالي 6000 دولار من ذلك المبلغ، وهو مبلغ كبير في بلد يجني فيه الموظف الحكومي العادي حوالي 400 دولار شهرياً، وفقاً لبيانات وزارة المالية.
هذا لا يعني أنَّ لديه أسلوب حياة مترف. إذ إنَّ تيموري هو المعيل الوحيد لأسرة مكوّنة من 11 شخصاً مع والديه وإخوته. لكنَّه تمكّن من مساعدة والده في سداد دين قدره 60 ألف دولار، كان إرثاً من انهيار أعمال البناء الخاصة به في عام 2016.
دخل تيموري إلى عالم العملات المشفَّرة لأول مرة في عام 2016 عندما قرأ عن رجل "بيتزا بتكوين"، الذي اشترى في عام 2010 اثنتين من البيتزا الكبيرة مقابل 10 آلاف "بتكوين"، بقيمة 40 دولاراً تقريباً. لو احتفظ بتلك العملات المشفَّرة، لكانت قيمتها اليوم تبلغ حوالي 400 مليون دولار.
في ذلك الوقت، كان تيموري يدرس التخطيط الحضري في "جامعة هرات". وبعد حصوله على شهادته، قرر فتح شركة سمسرة للعملات المشفَّرة.
بدأ تيموري عمله في منزله في هرات في عام 2017، باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتسويق. عرض "بيع وشراء العملات المشفَّرة في غضون ثانية". نمت "ميهان" بسرعة، وانتقلت الشركة إلى المكتب ذي الجدران البيضاء في وقت لاحق من ذلك العام.
مدينة العملات المشفرة
أصبحت هرات مركزاً للعملات المشفَّرة لعدة أسباب. الأول؛ هو قربها من إيران، حيث تنتشر الأعمال التجارية بشكل أكبر. والسبب الآخر؛ هو أنَّ أشخاصاً آخرين في سوق صرف العملات الأجنبية الواقعة في مكان مفتوح بالقرب من مكتب تيموري قد حذوا حذوه، ودخلوا اللعبة.
يقول تيموري إنَّه يشعر بأمان أكثر منذ عودة طالبان. في العام الماضي، عندما تصاعدت عمليات الخطف والسرقة في هيرات، احتفظ بمسدسات في مكتبه لحماية نفسه. لكن مع قيام طالبان باتخاذ إجراءات صارمة ضد عمليات الخطف في المدينة، يقول إنَّه شعر براحة أكبر بشأن سلامته، مما جعله يسلّم بنادقه إلى النظام.
ومع ذلك، في حين أنَّ عودة طالبان ربما عززت أعماله، إلا أنَّها قد تكون أيضاً أكبر تهديد بالنسبة له.
السؤال الآن: هو كيف ستحكم الجماعة الدينية التي لديها أحد أكثر تفسيرات الإسلام تشدداً في العالم على مستقبل العملات المشفَّرة؟.
تحت ضغط العقوبات واسعة النطاق، قالت المجموعة إنَّها تبحث في جميع الخيارات لإنعاش الاقتصاد، بما في ذلك، احتمال تبني العملات المشفَّرة. وقال سهيل شاهين، رئيس المكتب السياسي لطالبان في العاصمة القطرية الدوحة، في مقابلة مع "بلومبرغ" في فبراير، إنَّ علماء الاقتصاد وعلماء الدين يجب أن يدرسوا ما إذا كان يمكن السماح بالعملات الرقمية بموجب الممارسات المالية الإسلامية.
الجناح المتشدد
لكن بحسب إحسان صادق، محاضر الاقتصاد السابق في "جامعة جوزجان" في شمال أفغانستان؛ فإنََ الجناح المتشدد في حركة طالبان سينتصر في نهاية المطاف، إذ يقول إنَّ المتمسكين بالتقاليد في وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعرّفونها بأنَّها قمار، "وهو محرّم بشكل تام في الإسلام".
هناك بالفعل سابقة في العالم الإسلامي. ففي نوفمبر؛ أعلن مجلس الزعماء الدينيين في إندونيسيا أنَّ العملات المشفَّرة محظورة على المسلمين لأنَّ فيها عناصر من عدم اليقين والمراهنة والأذى.
يقول صادق الذي غادر أفغانستان بعد عودة الجماعة المتشددة إلى السلطة، وهو الآن يقيم في ألمانيا: "طالبان ستحظرها بالتأكيد".
اقرأ أيضاً: مجلس علماء إندونيسيا يُحرِّم على المسلمين استخدام العملات المشفرة
ووفقاً لتيموري؛ فإنَّ النظام قد شدّد القيود بالفعل على بعض معدّني العملات المشفَّرة، ولكن ليس لأنَّهم كانوا يقومون بتعدين "بتكوين". يروي قصة أحد أصدقائه، الذي أحرقت طالبان 50 من أجهزة الكمبيوتر الخاصة به المخصصة للتعدين، لاعتقادها أنَّ الأمريكيين يستخدمونها للتجسس على البلاد. إذ يقول، إنَّ صديقه هرب إلى إيران.
ويقول تيموري إنَّ هذا هو بالضبط ما سيفعله إذا حظرت طالبان العملات المشفَّرة. إذ إنَّه سيحزم أيضاً كل ممتلكاته وحاجياته، ويقطع مسافة ساعتين تقريباً بالسيارة إلى الحدود. وبمجرد وصوله إلى إيران؛ سيبدأ نشاطه التجاري مرة أخرى.
يختم تيموري حديث بالقول: "لا ينبغي أن يُنظر إلينا على أنَّنا مضرّون لطالبان.. نحن نساعد في إنقاذ اقتصاد البلاد من الانهيار.. يجب أن تفهم طالبان ذلك".