في خطاب متلفز يوم 16 مارس، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن القوى الغربية أخضعت بلاده لما وصفها بأنها "حرب اقتصادية خاطفة" من خلال العقوبات. لكن بالنسبة إلى مراقبي روسيا الذين يحاولون استقراء حجم الضرر الواقع على الاقتصاد الروسي، ليس هناك الكثير من البيانات ليستندوا إليها بعد.
في بداية جائحة كورونا، لجأ العديد من المحللين إلى مؤشرات غير تقليدية، مثل بيانات التنقل وازدحام المرور، التي تزودهم بها شركات مثل "غوغل" و"توم توم" (TomTom) - صانعة نظام الملاحة وتحديد المواقع العالمي (GPS) الهولندية- لقياس التأثير الاقتصادي لـ"كوفيد-19" في الوقت الفعلي. لكن بالنسبة إلى روسيا، فهم بحاجة إلى دليل استرشادي جديد نظراً لأن مجموعات البيانات عالية التردد (عندما تتم معالجة صفقة تداول أو عرض أسعار أو أمر إلكتروني، يتم جمع البيانات ذات الصلة وإدخالها في شكل سلسلة زمنية. على هذا النحو، غالباً ما يشار إلى البيانات عالية التردد ببيانات المعاملات) المزعومة تلك، لا تثبت فائدتها.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد الروسي قد ينمكش بأكثر من 10% العام الجاري بسبب العقوبات
تقول ناتاليا غوروشينا، كبيرة الاقتصاديين في قطاع استراتيجية الدخل الثابت للأسواق الناشئة في شركة "فان إيك أسوشيتس" (.Van Eck Associates) ومقرها نيويورك: "لا يتعلق الأمر كثيراً بالقيود المفروضة على حركة الاقتصاد"، بل "بتعديل أنماط الإنفاق" في ظل انهيار قيمة الروبل الروسي (كانت قيمة العملة الروسية قد انخفضت بنسبة 30% تقريباً مقابل الدولار الأمريكي منذ يناير). كما أغلقت سلاسل تجارية مملوكة للأجانب، بما في ذلك، "إيكيا" (Ikea) و"ماكدونالدز" و"ستاربكس" (Starbucks) أبوابها، وانقطع تدفق البضائع المستوردة.
حتى الآن، تشير البيانات القليلة المتاحة إلى زيادة حادة في الأسعار الاستهلاكية، وارتفاع حجم الإنفاق، حيث تحاول الأسر الروسية تخزين السلع المستوردة التي قد يكون نقص المعروض منها وشيكاً.
اقرأ المزيد: الكرملين: "الجميع يتضرر" إن حظر الاتحاد الأوروبي نفط روسيا
زيادة الإنفاق
تشكل بيانات المعاملات الاستهلاكية الأسبوعية الصادرة عن "سبيربنك" (Sberbank)، أكبر البنوك الروسية، أحد المؤشرات الاقتصادية، حيث تظهر تلك البيانات زيادة الإنفاق بنسبة 20% في الأسبوع المنتهي في 12 مارس، مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق، والتي شهدت ضعف معدل المعاملات الاستهلاكية خلال الأسبوع الذي سبق الغزو. كانت القفزة واضحة بشكل خاص في العديد من فئات السلع التي يُرجح استيرادها من دول أخرى، مثل قطع غيار السيارات، والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، والأثاث، والأدوية.
يقول ليام بيتش، الخبير الاقتصادي المسؤول عن تغطية الأسواق الناشئة في شركة "كابيتال إيكونوميكس" (Capital Economics) لاستشارات الأبحاث الاقتصادية في لندن: "ما شهدناه في روسيا خلال الأزمات السابقة، كما حدث في فبراير 2020، وفي شهري نوفمبر وديسمبر من عام 2014، هو أن إنفاق الأسر يميل إلى الارتفاع بشكل حاد للغاية، في محاولة منها للتغلب على الانخفاض الكبير في قيمة العملة". يقول بيتش إن هذا النمط يبدو أنه يتكرر الآن.
كما هو الحال في معظم الدول حول العالم، يُنشر العديد من المؤشرات الاقتصادية الصادرة عن الحكومة الروسية بفاصل شهر واحد على الأقل عن نطاقها الزمني. يعني هذا التأخير أن الإحصاءات الرسمية مثل الواردات والصادرات لشهر مارس، أو الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول، لن تكون متاحة حتى منتصف مايو.
إغلاق السوق
من جهة أخرى، يشير تقرير "بلومبرغ إيكونوميكس"، لـ"التنبؤ الآني" الخاص بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي الروسي، إلى أنه اعتباراً من 10 مارس، كان الاقتصاد الروسي قد انكمش بالفعل بنسبة 2%. ويعتمد نموذج التنبؤ الآني على بيانات السوق المالية اليومية مثل أسعار النفط، وعوائد سندات الشركات، وسعر الصرف، وأسعار الأسهم، لإعطاء قراءة أقرب إلى الوقت الفعلي للنشاط الاقتصادي. ولكن حتى في هذا النطاق، فإن توافر البيانات يشكل عقبة نظراً لإغلاق سوق الأوراق المالية الروسية منذ فرض العقوبات.
في غضون ذلك، يلجأ المحللون إلى أي بيانات يمكنهم الحصول عليها، خصوصاً إذا كانت تعبرعن علاقة روسيا سريعة التغير بالاقتصاد العالمي. وفقاً لتقرير صدر عن المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، في نوفمبر، فإن سوق التجزئة غير الغذائية في روسيا تعتمد اعتماداً كبيراً على السلع المستوردة، والتي شكلت 75% من إجمالي حجم السوق في عام 2020.
على صعيد التصدير، أصبح النفط والغاز الطبيعي الروسيان -اللذان أفلتا في الغالب من العقوبات- أكثر أهمية بالنسبة إلى اقتصاد البلاد من أي وقت مضى. وبات العثور على طرق لمراقبة الحركة المادية للسلع، أمراً بالغ الأهمية لفهم ما يحدث في روسيا.
تقول غوروشينا: "الناس يستخدمون بيانات الأقمار الصناعية. إنهم يتتبعون حركات الشحن. إذا كنت تريد إلقاء نظرة على البيانات في الوقت الفعلي، فمن المحتمل أن يكون هذا مؤشراً جيداً لصدمات التوريد التي تعصف بالاقتصاد الروسي".
الوظائف والرواتب
من جهة أخرى، قد يكون تأثير العقوبات على التوظيف هو الأصعب في تحديده. قالت بعض الشركات إنها أوقفت الإنتاج في روسيا، وأعادت الموظفين إلى منازلهم، لكنها ستواصل دفع الرواتب في الوقت الحالي.
يقول سكوت جونسون، الذي يغطي أخبار روسيا في "بلومبرغ إيكونوميكس": "خلال الأزمات الأخيرة، مع كل من (كوفيد)، ومع انكماش الاقتصاد الروسي في عامي 2015 و2016، أدى انتشار الشركات المملوكة للدولة إلى الحد من الارتفاع المفاجئ في معدلات البطالة". حينذاك، نزعت الشركات الروسية إلى الاحتفاظ بكامل عمالتها، إما طوعاً أو تحت ضغط سياسي، "لكننا نتوقع تأثيراً أكبر على ساعات العمل، والتي من الممكن أن تنشر البيانات المتعلقة بها بعد مرور أشهر على بيانات التوظيف الأولية بشكل غير مناسب. قد لا نفهم هذه التغييرات بشكل كامل قبل مرور فترة طويلة على انتهاء الأسوأ".
لكن أحد الإحصاءات الرسمية، يأتي في الوقت المناسب، ألا وهو مؤشر الأسعار الاستهلاكية، حيث تنشر دائرة الإحصاء الفيدرالية الروسية بيانات أسبوعية لمؤشر الأسعار الاستهلاكية. وقد أظهرت القراءة الأولى للأسعار بعد العقوبات -التي تغطي الأسبوع المنتهي في 4 مارس- زيادة بنسبة 2.2%، مسجلة أكبر قفزة في الأسعار لمدة أسبوع واحد على الإطلاق مقارنة بجميع البيانات ذات الصلة منذ عام 2008. كما أشارت بيانات الأسبوع الثاني حتى 11 مارس، إلى ارتفاع آخر في الأسعار بنسبة 2.1%، ليصل إجمالي التضخم بعد الغزو إلى 4.4%.
حجم السيولة
أيضاً، يشكل حجم السيولة اليومية في النظام المصرفي، والذي ينشره البنك المركزي الروسي، مؤشراً آخر لتقييم أداء الاقتصاد. وقد أظهر ذلك المؤشر 14 مليار دولار من السحوبات في يوم واحد عندما بدأ الغزو، متبوعة باستمرار التدفقات الخارجية في الأيام التي تلت ذلك. لكن خلال الأسبوع الماضي، بدأت الأرصدة النقدية في الارتفاع مرة أخرى. وقال إيفان تشاكاروف، الاقتصادي في "سيتي غروب" ، في تقرير صدر في 15 مارس، إن هذا "يشير إلى مهلة وقتية في ما يتعلق بالصدمة الأولية التي عانى منها النظام المالي".
من جانبه، يعتقد بيتش بأن الناتج المحلي الإجمالي سينخفض على الأرجح بنسبة 12% متأثراً بالعقوبات، ويتوقع أن يرتفع معدل التضخم صوب 20% بحلول منتصف العام. يقول الخبير الاقتصادي: "كان الانخفاض في الروبل حاداً للغاية، ويبدو أن ذلك يؤدي إلى ارتفاع التضخم بسرعة كبيرة أيضاً. من المحتمل أن نرى تأثيراً واضحاً في الأشهر المقبلة على ثقة المستهلك وإنفاق الأسر، بسبب نقص هذه السلع وارتفاع الأسعار".
التكيف مع العقوبات
أما مادينا خروستاليفا، المحللة في شركة "تي إس لومبارد" (TS Lombard) الاستشارية في لندن، فتقول إن العديد من مراقبي روسيا يركزون، في الوقت الحالي، على محاولة فهم كيف سيتكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات على المدى الطويل. وبحسب خروستاليفا، فإن الفكرة القائلة بأن الفوضى الأكثر إلحاحاً الناشئة عن العقوبات ستضعف قبضة بوتين على السلطة إلى حدٍّ كبير إنما هي فكرة في غير محلها، لأن العبء الأكبر من تلك الفوضى سيقع على عاتق شريحة محدودة نسبياً من السكان الذين يستمتعون باستهلاك البضائع المستوردة نظراً لارتفاع دخولهم.
أضافت المحللة الاقتصادية: "إذا كان شخص ما يتوقع، في الوقت الحالي، أن الناس سيكتشفون أنهم غير قادرين على شراء سيارة رخيصة للغاية، وأن ذلك سيدفعهم للنزول إلى الشوارع للاحتجاج - فذلك لن يحدث. يجب أن تفهم الهيكل العام للاستهلاك في روسيا. لن يحدق بالبلاد خطر الجوع الذي اجتاحها، على سبيل المثال، حينما انهار الاتحاد السوفيتي، ذلك أن روسيا مستقلة إلى حدٍّ ما في ما يتعلق بالإمدادات الغذائية".