تراهن صناعة الطاقة النووية بمستقبلها على جيل جديد من المفاعلات ذات الحجم الصغير التي يمكن تحميلها في شاحنة - وهي تقنية ناشئة تستخدم في الغالب بدائل للمياه كوسيلة تبريد، وتعمل بضغط أقل مما تحتاجه المحطات التقليدية، فضلاً عن كون تكاليف تشغيلها أقل بكثير من محطات الطاقة العملاقة وأبراج التبريد التي تميز المشهد النووي اليوم. لكن المدافعين عن الفكرة يصرّون على أن المسؤولين في واشنطن المنوط بهم مراقبة هذه الأعمال، يفتقرون إلى الأدوات التي يحتاجونها لتقييم التقنية سريعة التطور.
اقرأ أيضاً: بعد إيقاف مركزها للطاقة النووية..كيف تعوّض نيويورك الكهرباء؟
كان الكونغرس الأمريكي قد كلف اللجنة التنظيمية النووية باستبدال إطار عمل القواعد القائم، والذي يعود تاريخ إقراره إلى خمسينيات القرن الماضي. غير أنه لا يُتوقع التوصل إلى المبادئ التوجيهية الجديدة قبل عام 2025 على الأقل. وعليه، فإن اللجنة لاتزال تعمل، كما دأبت منذ عقود، على تقييم مفاعلات جديدة لا تشبه أي من المحطات النووية التي كانت اللوائح القائمة تهدف إلى تقييمها. على سبيل المثال، لإثبات سلامة التصاميم، تطلب اللجنة بيانات من محطات مماثلة، بينما لم يتم إنشاء أي من تلك المفاعلات الصغيرة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني عدم وجود سجل لأداء النظراء.
اقرأ المزيد: التحوّل للطاقة الخضراء يحتاج للتوافق مع أصحاب المصالح الخاصة
كما أن القواعد الحالية تستهدف ما يعرف بمفاعلات الماء الخفيف، والتي تقسم ذرات اليورانيوم لتكوين بخار يحرك التوربينات. أما التقنية الأحدث، فتستخدم عادةً مواد مثل الملح المصهور، والرصاص، أو الغازات مثل الهليوم، لمنع ارتفاع درجة حرارة قلب المفاعل. وعليه، لم تحصل أي شركة تستخدم هذه التقنيات على ترخيص بناء وتشغيل لتلك المفاعلات الجديدة، بينما تمت الموافقة على تصميم واحد فقط، وهو نموذج لمفاعل يستخدم الماء للتبريد قدمته شركة "نيوسكيل باور" (NuScale Power).
اقرأ أيضاً: لا تتنافسان... لكن كهرباء المصادر المتجددة تفوقت على نظيرتها النووية
قواعد قديمة
تقول إيمي روما، الشريكة في "هوغان لوفيلز" (Hogan Lovells) للمحاماة، والتي عملت على عشرات طلبات التراخيص، إن القواعد الحالية "لا تتناسب مطلقاً مع تصاميم المفاعلات المتطورة". وأضافت روما: "الأمر معقد، وعليك أن تتذكر أيضاً أن اللجنة التنظيمية النووية (NRC) تقوم على تطوير هذا الإطار بمعزل تام عن الفهم الفعلي والمتعمق للتقنية". من جانبها، رفضت اللجنة إتاحة أي مفتشين أو موظفين لإجراء مقابلة حول هذا الموضوع.
يقول مؤيدو المفاعلات المصغرة، التي بدأت تحظى باهتمام شديد قبل حوالي عشر سنوات، إنه نظراً لأن الطاقة النووية لا تطلق الكربون، سيمكنهم تقريب إدارة بايدن من تحقيق هدفها المتمثل في تصفير انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن توليد الطاقة في الولايات المتحدة بحلول عام 2035.
في هذا الإطار، سبقت وزارة الطاقة الأمريكية خطى اللجنة التنظيمية النووية، حيث طلبت الوزارة من الكونغرس ما يصل إلى 4 مليارات دولار على مدار سبع سنوات لتطوير المفاعلات المتقدمة. ويشمل المستفيدون من التمويل الذي تطالب به وزارة الطاقة شركات من بينها "تيراباور" (TerraPower)، وهي شركة ناشئة أسسها بيل غيتس وتعمل على أحد المشاريع النووية في وايومنغ. وكذلك شركة "إكس-إنيرجي" (X-Energy)، والتي تخطط لإنشاء أحد مفاعلات الحرارة العالية، والذي يستخدم الغاز الخامل للتبريد، في ولاية واشنطن. وأخيراً، شركة "كايروس باور" (Kairos Power)، التي تهدف إلى بناء مفاعل تجريبي بقدرة 35 ميغاواط يجري تبريده بالملح، في ولاية تينيسي، حيث تقدمت هذه الشركة بطلب للحصول على رخصة بناء في سبتمبر الماضي. وقالت وزيرة الطاقة الأمريكية، جينيفر غرانهولم، خلال اجتماع مع مستشاريها في 25 يناير، إن المفاعلات الجديدة "تعِد بالكثير" وستظل تحظى بدعم الوزارة.
معارضة شديدة
لكن، نظراً لأن الحوادث التي وقعت في موقع "ثري مايل آيلند"، وتشيرنوبل، وفوكوشيما دايتشي، لا تزال ماثلة في أذهان الكثير من الناس، فإن هذه المفاعلات تواجه معارضة شديدة. تقول المجموعات البيئية إن المفاعلات الصغيرة -بعضها يتمتع بقدرة تبلغ 1.5 ميغاواط فقط، أي 0.1% من حجم إنتاج المحطات التقليدية- لا تزال تنتج ما يكفي من المواد المشعة لتشكل خطراً تلويثياً. كما أن بناء المزيد من المحطات النووية، حتى الصغيرة منها، من شأنه أن يضيف إلى الكمية الهائلة من النفايات السامة التي لا يمكن لأحد أن يعرف كيفية التعامل معها. يقول جيف فيتوس، المحامي في مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية: "ستكون قوة الرد بنفس مستوى الجهود التي ستبذل لإضعاف الإطار التنظيمي".
على الصعيد العالمي، هناك أكثر من 70 مفاعلاً صغيراً، بطاقة إجمالية تبلغ حوالي 12 غيغاواط، تم اقتراح إنشائها أو هي قيد الإنشاء في خمسة دول على الأقل، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية. غير أن هناك مفاعلاً عائماً واحداً فقط أنشئ بالفعل في مدينة بيفيك الروسية، المطلة على المحيط المتجمد الشمالي، حيث يتم استخدامه لتوفير الطاقة اللازمة لعمليات التعدين. يقول غريغوري جاتشكو، الذي شغل منصب رئيس اللجنة التنظيمية النووية بين عامي 2009 و2012، إن جمود مثل هذه المحطات في جميع أنحاء العالم يشير إلى أننا سنكون مخطئين في الاعتماد عليها كوسيلة للخروج من أزمة المناخ. وتابع جاتشكو: "المفاعلات الصغيرة غير جاهزة وحسب. وبحلول الوقت الذي يمكن أن تصبح فيه جاهزة للعمل، لن تكون ناجعة".
إعفاءات وأبحاث نووية
من جهة أخرى، يتضمن مشروع قانون البنية التحتية، الذي تم إقراره في نوفمبر، تمويلاً بقيمة 2.5 مليار دولار لأبحاث المفاعلات المتطورة، بالإضافة إلى دعم فيدرالي بقيمة 6 مليارات دولار للمحطات النووية العاملة بالفعل. كما تتضمن حزمة الديمقراطيين لـ"إعادة البناء بشكل أفضل" العالقة في مجلس الشيوخ، إعفاءات ضريبية لإنتاج الطاقة النووية بقيمة 35 مليار دولار. وفي ديسمبر، تقدم عضوا مجلس الشيوخ، الديموقراطي جو مانشين عن ولاية ويست فيرجينيا، والجمهوري جون باراسو عن ولاية وايومنغ، وهما من كبار أعضاء لجنة مجلس الشيوخ للطاقة والموارد الطبيعية، بتشريعات لتمويل المفاعلات المتطورة بالقرب من محطات الطاقة المغلقة التي تعمل بالوقود الأحفوري، قائلين بأن الفكرة يمكن أن تعطي دفعة للمجتمعات التي تكافح للحصول على ما يكفي من الطاقة.
تقول اللجنة التنظيمية النووية إن ما لا يقل عن عشرين مطوراً يعملون على تصميمات جديدة. وقد تم التصريح ببناء نموذج المفاعل الذي قدمته شركة "نيوسكيل" بقدرة 50 ميغاواط، والمدعوم بما يصل إلى 1.3 مليار دولار من وزارة الطاقة، بعد حصوله على 17 إعفاء من متطلبات الترخيص الحالية، على الرغم من أنه لا يزال يتعين على المطورين الحصول على رخصة بناء وتشغيل. ورفضت اللجنة في يناير، طلباً تقدمت به شركة "أوكلو باور" (Oklo Power) للحصول على رخصة لبناء مفاعل بطاقة 1.5 ميغاواط، من المتوقع أن يعمل بالنفايات المشعة، وذلك بعد ما يقرب من عامين من المراجعة، مشيرة إلى افتقار الطلب "بشكل كبير" للمعلومات المتعلقة بالسلامة.
احتدام المنافسة
من جانبها، تقول "أوكلو باور" إن تقنيتها جاهزة، وإن القرار سلط الضوء ببساطة على التزام المفوضين بالقواعد القديمة. واعتبر الرئيس التنفيذي للشركة، جيكوب ديويت، الذي يخطط لتقديم طلب منقح هذا العام، أن ما حدث "ليس مفاجئاً، لأننا نقوم بشيء جديد. إنه خروج عما اعتادوا رؤيته".
حالياً، يجري تشغيل ما يقرب من 100 مفاعل نووي في الولايات المتحدة، والتي تنتج، مجتمعة، حوالي 20% من احتياجات البلاد من الكهرباء. لكن في السنوات الأخيرة، عانى الأسطول النووي المتقادم مالياً، وسط منافسة مع الشركات المنتجة للطاقة من الغاز الطبيعي منخفض التكلفة ومصادر الطاقة المتجددة. ومن ثم، مارست صناعة الطاقة النووية بعض الضغوط على صانعي السياسات لحماية الأسطول الحالي وتوسيع نطاق مفاعلات الجيل التالي.
في عام 2019، أقر الكونغرس قانوناً يطالب اللجنة التنظيمية النووية بتطوير إطار ترخيص للمفاعلات المتطورة بحلول عام 2027. ومنذ ذلك الحين، طالب المشرعون من كلا الحزبين اللجنة بإنجاز لوائح جديدة بشكل أسرع، مشيرين إلى أن ما لا يقل عن 50 تصميماً للمفاعلات لا تزال قيد التطوير، ما دفع اللجنة إلى تسريع موعدها المستهدف في عام 2025. وبحسب ستيفن بيرنز، الذي ترأس اللجنة ذاتها بين عامي 2015 و2017، فإن الوتيرة المقررة منطقية. وقال بيرنز إن اللجنة التنظيمية عكفت على دراسة المفاعلات الجديدة لسنوات، لكنها قررت مراراً وتكراراً عدم تحديث قواعد الترخيص، مضيفاً أن ذلك يرجع على الأرجح، إلى أن التكنولوجيا لم تكن قد انتشرت على نطاق واسع حينئذ، ولم يكن هناك ما يضمن أنها ستنتشر بالفعل. وأوضح الرئيس السابق للجنة التنظيمية النووية قائلاً: "لم يكن واضحاً من الذي سيتقدم للحصول على التراخيص. هل سننفق المال لدعم تقنية قد تحرز تقدماً وربما لا؟"