تسببت جائحة "كورونا" بسلسلة من العقد المثيرة للاضطرابات في الاقتصاد العالمي، إلا أن سلاسل التوريد، وبعيداً عن تأخرات النقل ونقص قطع الغيار، تواجه تحدياً أكثر استدامة، ألا وهو تغير المناخ.
قلنتذكر أن العام الماضي وحده شهد إعصار "إيدا"، والإعصار الذي وقع قرب موانئ في الصين، وعاصفة التجمد في ولاية تكساس الأمريكية، وفيضانات مقاطعة كولومبيا البريطانية، وأعاصير شهر ديسمبر الغريبة التي انتشرت في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. من الواضح أن التجارة العالمية تكافح للتعامل مع ما هو أكثر بكثير من مجرد أزمة صحية. في ظل ارتفاع درجات الحرارة، من المرجح أن تكون الطبيعة هي العامل الأكثر قوة وعشوائية وتكراراً في إثارة الاضطرابات الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: أوميكرون يضرب تجارة السلع العالمية مع ارتفاع المخاطر
ظواهر مناخية متطرفة
يُظهر تحليل أجراه "كاربون بريف" (Carbon Brief)، وهو موقع إلكتروني في لندن معني بعلوم المناخ، لـ405 ظواهر مناخية متطرفة خلال العقد الماضي، أن 70% من هذه الظواهر كان من المرجح أن تحدث، أو أن تكون أكثر حدة، بسبب الاحتباس الحراري.
يقول جايسون جاي، مدير مبادرة الاستدامة في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "هذه ليست أزمة سلسلة التوريد الكبيرة التالية، بل إنها أزمات سلاسل التوريد الكبيرة التالية، بصيغة الجمع".
اقرأ المزيد: هل يمكن للشركات الوثوق بالموردين بعد أزمة سلسلة التوريد العصيبة في 2021
أضاف جاي: "ما يؤول إليه الأمر في النهاية هو مجموعة من الأزمات المنفردة في أماكن مختلفة وفي أوقات مختلفة. إنها تضرب جزءاً مختلفاً من سلسلة التوريد بطريقة لا يمكن التنبؤ بها إلى حد ما".
تداعيات متلاحقة
كما هو الحال بالنسبة إلى الوباء، فإن الظواهر الجوية المتطرفة حادة ويصعب اتخاذ إجراءات وقائية ضدها. فهي تبدأ في منطقة واحدة، لكنها قابلة للانتشار سريعاً عبر سلاسل التوريد، ما يؤثر في أوقات الإنتاج والتسليم. ففي ولاية تكساس على سبيل المثال، حيث وصلت درجات الحرارة إلى مستوى قياسي منخفض في فبراير، تعطلت صناعة البتروكيماويات لأيام عدة، ما أثر في إمدادات مادة الراتنج والبلاستيك، وكذلك إمدادات المواد الكيميائية المستخدمة على نطاق واسع، مثل حمض الستريك وثاني أكسيد الكربون، وفق تقرير صدر عن جامعة نورث كارولينا.
اقرأ أيضاً: أوميكرون يُعقد تعافي الاقتصاد العالمي في 2022
يقول روبرت هاندفيلد، أستاذ إدارة سلسلة الإمداد في الجامعة والذي أعدّ التقرير، إن "الجزء الأكبر من طاقة التكرير والبتروكيماويات، يتواجد في منطقة معرضة ليس فقط للأعاصير، بل وأيضاً لحالات التجمد كالتي عانينا منها".
أضاف هاندفيلد أن "هذه الواقعة كانت مجرد تجربة متواضعة، وإذا استمرت تغيرات الأحوال الجوية بسبب الاحتباس الحراري العالمي، فسيتعين على الشركات البحث عن طرق بديلة لإدارة سلاسل توريد المواد والبلاستيك".
رسم خريطة للمخاطر
يمكن للشركات اتباع خطوة أولى لمكافحة آثار الظواهر المناخية المتطرفة، والتي تتمثل في تحديد أو رسم خريطة سلاسل التوريد الخاصة، لكي تفهم بشكل أفضل أين تكمن المخاطر بالضبط، سواء كان ذلك مورّداً عرضة للأعاصير على ساحل الخليج الأمريكي، أو مركز نقل معرضاً للفيضانات.
اقرأ المزيد: صندوق النقد يخطط لإقراض الدول 50 مليار دولار لدعم استقرارها ومكافحة تغير المناخ
عن ذلك، يقول جاي، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن "الشركات لا تعرف حتى مواقع مورديها بالدرجة الأولى، ناهيك عن المواقع التي يشتري منها موردوها. ففي أحيان كثيرة يصل عمق سلاسل التوريد هذه إلى أربع أو خمس خطوات".
من المؤكد أن إجراء تلك التقييمات وإعادة تهيئة شبكات الإمداد بالكامل لن يكون أمراً زهيد التكلفة، حيث يقول هاندفيلد: "أنت لا تحد من المخاطر التي يمكن مواجهتها مجاناً. الأمر يكلف أموالاً للحصول على هذه المخازن الوقائية، وتغيير إستراتيجيتك. كل هذه الأمور تكلف أموالاً، ولذلك أعتقد بأننا سنشهد ارتفاع تكاليف التشغيل لسلاسل التوريد بشكل عام".
زيادة التكاليف
ربما تؤدي السياسات الحكومية المصممة لمكافحة تغير المناخ، إلى خلق تكاليف إضافية على المدى القصير، بما فيها التشريعات التي سيقرها البرلمان الأوروبي هذا العام، والتي تتطلب من الشركات تنفيذ المساعي اللازمة لحماية البيئة على مدى سلاسل الإمداد الخاصة بها.
يقدر تقرير صدر في أكتوبر عن كل من "إتش إس بي سي هولدينغز" (HSBC Holdings) ومجموعة "بوسطن كونسالتينغ غروب" (Boston Consulting Group)، أن سلاسل التوريد العالمية ستحتاج إلى استثمارات بقيمة 100 تريليون دولار للوصول إلى هدف انبعاثات كربونية صفرية صافية على مدى العقود الثلاثة المقبلة.
من الممكن أن تتسبب المساعي الحثيثة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في اضطرابات غير متوقعة. ويمكن النظر إلى الصين قبل بضعة أشهر باعتبارها مثالاً على ذلك، حيث أدى إغلاق محطات الفحم إلى أزمة طاقة، أجبرت المصانع على إغلاق أو تقليص جداولها الزمنية.
يقول إيثان هاريس، رئيس قسم بحوث الاقتصاد العالمي لدى "بنك أوف أميركا": "أعتقد بأن هناك بعض التحديات الكبيرة الماثلة أمامنا، والتي تم تجاهلها لعقود زمنية. وعواقب ذلك تزداد".
مما لا شك فيه أن الزراعة هي أكثر القطاعات عرضة للخطر. فقد قضت موجات الجفاف أو الفيضانات على جزء كبير من محصول البن البرازيلي، ودمرت إنتاج الأرز في الهند، ودفعت مزارعي كاليفورنيا إلى اقتلاع أشجار اللوز من جذورها.
تأثر المحاصيل الزراعية
يمكن أن يتسبب تغير المناخ خلال العقود المقبلة في انخفاض غلة المحاصيل العالمية بنحو 30%، ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على الغذاء بنسبة 50%، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. وتصبح أعمال البناء وزراعة الحدائق وغيرها من الأعمال التي تتم في الهواء الطلق أكثر خطورة في درجات الحرارة الأعلى من المعتاد. وحتى في الدول التي لا ينتشر فيها تكييف الهواء، يمكن أن تصبح الأعمال الداخلية غير محتملة خلال موجات الحر غير المسبوقة، مثل تلك التي أجبرت بعض الشركات والمدارس في فرنسا وإسبانيا على إغلاق أبوابها في يونيو 2019.
أظهرت نتائج الأبحاث المنشورة مؤخراً في مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" (Proceedings of the National Academy of Sciences) أن سكان المدن حول العالم شهدوا زيادة بنسبة 200% تقريباً في عدد أيام الحر الشديد في الفترة من عام 1983 إلى عام 2016.
من هذا المنطلق، يقول جاي إن "أيام الحر الشديدة هي في الواقع الأثر المناخي الذي يقلقني بشكل أكبر".
في الوقت ذاته، يقول ميكالا كريشنان، الشريك المتخصص في مخاطر المناخ لدى "معهد ماكينزي العالمي" (McKinsey Global Institute)، إن هذا العام ربما لا يشهد "مستوى الاضطراب الشديد ذاته الذي شهدناه في عام 2021 إثر تفشي الوباء، لكن التحديات ستزداد باستمرار مع مرور الوقت". وأضاف: "افتراضات المناخ المستقر مدمجة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية بطرق لا نقدرها".