عندما انتقل الزوجان الصحفيان تشارلي وارزل، وآن هيلين بيترسن من بروكلين إلى مونتانا في عام 2017، اعتقدا أنَّ الوقت المتوفر من رحلتهما الشاقة في مترو الأنفاق إلى مانهاتن سيُستبدل برفاهيات الحياة مثل: المشي لمسافات طويلة، والتجديف بالكاياك والتزلج، لكنَّهما اكتشفا أنَّهما يقضيان الوقت الإضافي ببساطة في إتمام المزيد من العمل.
مر ملايين الأمريكيين بشيء مماثل خلال تجربة العمل عن بُعد بسبب تفشي الوباء. فعلى الرغم من أنَّ الكثير من الشركات الأمريكية لم تعد عالقة في الازدحام، أو في القطارات، كان اندماج المنزل والمكتب سبباً في صعوبة فصل الأمرين عن بعضها.
بعد عامين تقريباً من تفشي الوباء؛ لم يعد أي شيء من هذه الأمور يشكل أي مفاجأة، لكنَّ وارزل وبيترسن يقولان في كتابهما: "خارج المكتب" (Out of Office)، الذي صدر في الوقت المناسب، إنَّ أفضل سُبل العمل عن بُعد تأتي عند إصلاح علاقتنا المتهالكة بوظائفنا في المقام الأول.
مما لا شكَّ فيه أنَّ الاستقلال بعيداً عن المكتب يعد فرصة ليس لخفض ساعات التنقل فقط؛ بل أيضاً لمعالجة القضايا الأكبر المتعلقة بالقوى العاملة الأمريكية، بما فيها أزمة رعاية الأطفال، وعدم كفاءة أساليب العمل، وإنهاك العمال، والنزعة الفردية السامة، وتحقيق التوازن بين العمل والحياة.
إدمان العمل
في عام 1930، توقَّع الاقتصادي جون ماينارد كينز أن يرث أحفاده عالماً يكون فيه العمل لـ 15 ساعة أسبوعياً شيئاً ممكناً تماماً في ظل زيادة كفاءة الوظائف بسبب التكنولوجيا، لكن هذا النوع من الشركات الأمريكية لم يظهر على الإطلاق. بدلاً من ذلك؛ ومع توسع الاقتصاد الأمريكي، أصبح إدمان العمل هو القاعدة الأمريكية السائدة- كما كتب المؤلفان- وهي نتيجة حتمية لثقافة الشركات المتمركزة حول المساهمين دون أي حواجز للحماية.
أصبحت الوظائف شيئاً مرادفاً لهوية المرء والمحور الرئيسي لحياتنا. وبرغم أنَّ الإنتاجية الأكبر والثروة تؤدي عادةً إلى زيادة أوقات الفراغ في الدول الغنية مثل ألمانيا أو هولندا، إلا أنَّ الولايات المتحدة قاومت هذا الاتجاه تماماً، وبالتالي؛ صنفتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كواحدة من أكثر الدول الغنية المُنهكة.
يحذر وارزل وبيترسن من أنَّ استمرار ثورة العمل من المنزل دون تلبية احتياجات العمال قد تؤدي إلى تفاقم مستوى تهالك قيم الشركات وعادات العمل لدينا. وبالتالي؛ يحتاج أرباب العمل أولاً إلى النظر في الشؤون الداخلية، وتجربة الطرق اللازمة للحد من الاجتماعات غير الضرورية، ومنع الموظفين من القيام بالمهام نفسها باستمرار، مثل إرسال رسائل البريد الإلكتروني أثناء الإجازة، أو في الساعات التي لا يصلح العمل فيها لإثبات وجودهم الدائم. وينطوي جوهر نظرية الكاتبين على شيء بسيط، وهو أنَّ العمل على نحو أفضل غالباً ما يكون "عملاً أقل لعدد ساعات أقل، مما يجعل الناس أكثر سعادة، وأكثر إبداعاً، وأكثر استثماراً في العمل الذي يجرونه والأشخاص الذين يفعلون ذلك من أجلهم".
محاولة التعويض
جرى على نطاق واسع توثيق الكثير مما انطوى عليه كتاب "خارج المكتب" من خلال التدفق المستمر للمواد المنشورة حول مستقبل مكان العمل منذ مارس 2020 (بما في ذلك المواد المنشورة من قبل مجلة بلومبرغ بيزنس ويك). لكنَّ المؤلفين يأخذان القارئ في جولة بحثية عميقة عبر مشهد العمل المحطم في الولايات المتحدة، ويرسمان تصوراً لما قد يبدو عليه المستقبل الأفضل.
يعتقد المؤلفان أنَّ إحدى النتائج الثانوية الخطيرة لمكان العمل الهجين هو ظهور التسلسل الهرمي للعالم الموازي، إذ يظهر الموظفون الطموحون للغاية شخصياً، في حين يعيش "العاملون عن بُعد، بدافع القلق من عدم الظهور بمظهر الشخص المنتج، في خوف من المديرين، ومحاولة تعويض الأمر عبر الإفراط في العمل".
تحدث الكاتبان مع رئيس الموارد البشرية لشركة "تويتر"، الذي أعلن في وقت مبكر أنَّ العمل عن بُعد سيصبح شيئاً مهيمناً، من أجل إيضاح أنَّ ثمة حلاً ربما يكون غريباً، لكنَّه مناسب لمكافحة هذا الاختلال، وهو التأكد من أنَّ كل شخص داخل غرفة الاجتماعات يشارك عبر حاسوبه المحمول للسماح للمشاركين عن بُعد برؤية كل الوجوه بوضوح.
برغم أنَّ وارزل وبيترسن- وهما صحفيان لهما عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي- ليسا مناهضين للمكاتب، إلا أنَّهما يتحدثان بلا هوادة عن وعود العمل عن بُعد. فبعد أن استقلا عمداً عن ثقافة المكتب من خلال الانتقال عبر البلاد أولاً، ثم ترك أرباب العمل من أجل إطلاق النشرات الإخبارية؛ فإنَّ موقفهما ليس مفاجئاً تماماً (انضم وارزل منذ ذلك الحين إلى مجلة ذا أتلانتيك). كما أنَّهما يقران أنَّ "المساحات المكتبية التقليدية ستختلط بشكل ما بمساحات العمل المشترك لدى معظم الناس".
(تغطي بيترسن الشؤون الثقافية بشركة "بازفيد"، كما أنَّ "وارزل" كاتب عمود في التكنولوجيا والسياسة لدى صحيفة "نيويورك تايمز").
ثغرة كبيرة
ثمة ثغرة كبيرة في هذا الكتاب، وهي التركيز المحدد للمؤلفين على العاملين من أصحاب المهارات المعرفية في الولايات المتحدة، فهما يركزان في الأساس على أولئك الذين يمكنهم إتمام مهام العمل من المنزل، وهي فئة تشكل 42% تقريباً من القوى العاملة. مع ذلك؛ فإنَّ الوباء يُحتم حساب الأمر في مختلف أنحاء قطاعات الاقتصاد، خاصة أنَّ الأمريكيين يتركون وظائفهم بمعدلات مذهلة. في غضون ذلك، يكتشف أشخاص كثيرون ممن بقوا في وظائفهم، خاصة بالنسبة إلى العاملين في الوظائف منخفضة الأجر، المزيد من القوة اللازمة للإضراب والمطالبة بشروط أفضل.
يتعمق الكتاب أيضاً في السياسة، خاصة عندما يتعلق الأمر برعاية الأطفال. على أنَّ المؤلفين لم يخصصا حيزاً كبيراً لمناقشة دور السياسة الأمريكية في تمكين ممارساتنا العملية. وثمة كلمة واحدة غائبة بشكل ملحوظ، وهي الصين؛ إذ يعمل الصينيون بجد أكبر من نظرائهم الأمريكيين، ونجحوا في بناء شركات تنافس التكتلات الأمريكية الكبيرة. وفي حين أنَّ شعوب أوروبا ربما تتمتع في المتوسط بتوازن أفضل بين العمل والحياة؛ فإنَّهم كافحوا أيضاً لمواكبة الولايات المتحدة والصين عندما يتعلق الأمر بالابتكار.
يرى وارزل، وبيترسن الأمل في شركات مثل "بافر" (Buffer)، وهي شركة ناشئة حققت زيادة في الإنتاجية بالفعل عندما انتقلت إلى نهج العمل لمدة 4 أيام أسبوعياً أثناء فترة الوباء. ووجدا أيضاً أنَّ تجارب أخرى أسفرت عن نتائج مماثلة، فعلى سبيل المثال؛ عندما حددت شركة "مايكروسوفت اليابان" العمل لمدة 4 أيام أسبوعياً؛ زادت الإنتاجية بنسبة 40%.
وقال الكاتبان، إنَّ "الابتكار الحقيقي الذي حققه العمل لأربعة أيام أسبوعياً، مثل الجداول الزمنية المرنة والمتعمدة الأخرى، هو التبادل الواعي للإنتاجية الزائفة لتحقيق عمل تعاوني حقيقي على مستوى المؤسسة".
مما لا شكَّ فيه أنَّ كتاب "خارج المكتب" سيصبح كبسولة زمنية للحظات عابرة ومضطربة، وعلى أحسن تقدير سيكون دليلاً استشرافياً وعاماً لكيفية قيام الشركات والعاملين بإنشاء علاقة صحية بشكل أكثر مع بعضهم.
ختاماً، كتب بيترسن ووارزل أنَّ "العمل عن بُعد-وليس العمل عن بُعد أثناء الوباء، وليس العمل عن بُعد بالإكراه- يمكن أن يغير حياتك".