من الصعب أن يفكر أحد في قطاع تضرّر من الوباء أكثر من قطاع الطيران، فخسائر القطاع مرشحة لأن تبلغ 201 مليار دولار بين عامَي 2020 و2022، لتمحو بذلك كل الأرباح المحققة على مدى تسعة أعوام تقريباً. عشرات الناقلات الجوية انسحبت من السوق، فيما اختفت ملايين الوظائف، إلا أن كل ذلك لم يكن كافياً ليردع بعض رواد الأعمال عن إنشاء شركات طيران في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة.
في هونغ كونغ، بدأ قطب العقارات بيل وونغ تأسيس شركة طيران، أملاً في منافسة شركة الطيران الرائدة "كاثي باسيفيك" التي تورّطت في التداعيات السياسية للاحتجاجات المناهضة للصين في عام 2019، أي قبل تفشي الوباء. وفي الهند، التي تُعَدّ إحدى أكثر أسواق الطيران شراسة في العالم، يضخ المستثمر الملياردير راكيش جونجهونوالا أموالاً في شركة الطيران "أكاسا إير" (Akasa Air) التي تأسست حديثاً. وفي المملكة المتحدة، بدأ متداول سابق في "جيه بي مورغان" تأسيس شركة طيران، أطلق عليها اسم "فلاي بوب" (Flypop)، سعياً لنقل الهنود المغتربين جواً إلى وطنهم الأم، وربط لندن بالمدن الثانوية الهندية.
اقرأ أيضاً: خطوط الطيران العالمية تستعدّ للتحليق نحو مستقبل غير مؤكد
أمّا في الولايات المتحدة فقد حلّق ديفيد نيلمان -الذي أسس سابقاً الخطوط الجوية "جيت بلو"، و"آزول" البرازيلية، و"ويست جيت" الكندية- في السماء في مايو، عبر أحدث مشاريعه "بريز اير" (Breeze Air) ومقرها ولاية يوتا، التي تقدم خدمة سفر من دون توقف بين المدن الأمريكية الأصغر حجماً، مثل لويزفيل وتامبا وتولسا.
هذا التفاؤل المساهم في إنشاء شركات طيران ناشئة، ينبع من انتعاش جزئي في الطلب على السفر، إذ أسهمت اللقاحات المضادة لكوفيد في تشجيع الدول على فتح حدودها.
في الوقت ذاته، أتاح توقف عديد من شركات الطيران عن العمل بسبب كوفيد الفرصة أمام شركات الطيران الأحدث لتوظيف الطيارين المسرَّحين وطواقم الطائرات والطواقم الأرضية في المطار مقابل أجور مخفضة، فضلاً عن أن أسعار الطائرات المستخدمة يُعَدّ جذاباً بشكل خاص.
بالنسبة إلى عديد من الناقلات الجوية الحديثة، ينصبّ التركيز على النموذج منخفض التكلفة، وسط الخطط الموضوعة للاستفادة من السياحة. كانت الشركات على استعداد بشكل تقليدي لدفع مزيد مقابل سفر موظفيها من أجل العمل، لكن توقيت استئناف مثل هذه الرحلات الجوية لا يزال غير مؤكد حتى الآن، بعد أن شهد عديد من أرباب العمل مقدار ما يمكن إتمامه عبر برنامج مكالمات الفيديو "زووم" رخيص الثمن.
اقرأ المزيد: قطاع الطيران العالمي أمام معضلة.. زيادة الرحلات مقابل خفض الانبعاثات
يقول تيم جوردان، المدير التنفيذي السابق في "فيرجن بلو" و"سيبو باسيفيك":
ما نتحدث عنه هنا هو السوق التي تتطلع إلى السفر لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، ربما من أجل الذهاب إلى عاصمة لم يستكشفوها، أو شاطئ جديد، أو وجهة جديدة
وأضاف جوردان، وهو أيضاً مؤسس شركة الطيران الأسترالية "بونزا" (Bonza) التي تخطط للانطلاق في الربع الثاني من العام المقبل: "التاريخ أظهر لنا أن الناقلات منخفضة التكلفة هي الشركات التي تتعافى وتنمو بأسرع ما يمكن للخروج من الأزمات المختلفة التي يمكن المرور بها، سواء كانت هجمات 11 سبتمبر أو الأزمة المالية العالمية أو كوفيد".
يؤيد نينو سينغ جودج، مؤسس شركة الطيران البريطانية "فلاي بوب"، رأي جوردان، إذ يقول إن "شركات الطيران القديمة ستعاني نظراً إلى اعتمادها على درجة رجال الأعمال والدرجة الأولى لدعم الطبقة الاقتصادية". الجدير بالذكر أن شركة "فلاي بوب"، التي تعتزم التركيز على ما يسمى سوق زيارة الأصدقاء والأقارب من خلال نموذج طويل المدى ومنخفض التكلفة، مدعومة بأسهم خاصة وتمويلات الحكومة البريطانية.
من المعروف أن أعمال الخطوط الجوية صعبة، حتى بالنسبة إلى الناقلات الجوية البسيطة ذات هوامش الربح الضئيلة والخسائر الفادحة بالنسبة إلى كثيرين.
وافدون جدد
في خضمّ تضرُّر شركات الطيران العالمية إثر تفشي الوباء، اتخذ الملياردير الأمريكي وارن بافيت قراراً بالتخارج من كل شركات الطيران للمرة الثانية خلال العام الماضي. وقال إنَّ "العالم تغير بالنسبة إلى شركات الطيران"، وذلك في أثناء إعلان قراره بالتخارج من استثمارات شركات الطيران في عام 2020.
مع ذلك، لم تتمكن هذه الأحداث من وقف الوافدين الجدد. اعتباراً من بداية موسم صيف 2021، كانت هناك 132 شركة طيران منتظرة تخطط لبدء الطيران هذا العام، إذ يسعى معظمها إلى إحياء المسارات الجوية الشاغرة بسبب تقليص الجدول الزمني أو توقف شركات الطيران عن العمل، وذلك حسبما أظهرت أبحاث أجرتها المجموعة الاستشارية "آي بي إيه غروب"، ومقرها المملكة المتحدة.
اقرأ أيضاً: طيارون عادوا إلى التحليق.. لكن بمهارات أقل
هذا يقارن بنحو 100 مخطط من المخططات السنوية المحددة قبل الجائحة، التي لم يُنفَّذ سوى 20% فقط منها بنجاح، فيما فشل نصفها في أول 24 شهراً، حسب رئيس "آي بي إيه غروب" فيل سيمور. لكن انخفاض أسعار النفط في منتصف العقد الماضي قلل من نقطة التعادل بالنسبة إلى شركات الطيران، وأدى إلى زيادة النشاط الذي شهد ارتفاع عدد الشركات الناشئة المعلن عنها إلى 150 شركة في العام، حسبما تقول "آي بي إيه".
من جانبه، يقول شكور يوسف، مؤسس شركة استشارات الطيران "إندو أناليتيكس" (Endau Analytics) في ماليزيا: "شركة الطيران لها جاذبية واضحة بإمكانها خداع أفضل وأذكى روّاد الأعمال واقتيادهم للاعتقاد بأنهم قد يصبحون ناجحين".
فرصة العمر
أوضح يوسف أن "المستثمرين ورجال الأعمال يشعرون بأن الوضع الذي أحدثه كوفيد قد أتاح أمامهم فرصة لا تأتي سوى مرة واحدة في العمر لدخول صناعة مثيرة للغاية"، إذ تُعَدّ الحواجز التي تحول دون الانخراط في مثل هذه الصناعة منخفضة للغاية الآن، وأسعار الطائرات زهيدة للغاية، والإيجارات لا تساوي سوى جزء ضئيل مما كانت عليه قبل الوباء.
ارتفع مستوى توافر الطائرات ضيقة البدن المستخدمة –"بوينغ 737" وعائلة "إيرباص إيه 320"، ذات الشعبية الكبيرة في المسارات القصيرة والإقليمية- بأكثر من الضعف منذ بداية الوباء، كما أن معظم شركات الطيران الناشئة يبحث عن مثل هذه الطائرات، حسبما يقول روب موريس، الرئيس العالمي للاستشارات في شركة "أسيند باي سيريوم" (Ascend by Cirium).
اقرأ أيضاً: نمو قياسي لسوق الطائرات الخاصة.. والمصنعون عاجزون عن مواكبة الطلب
بالنسبة إلى هذه النماذج، تراجعت أسعار الإيجار الشهري بنسبة تصل إلى 40%، وبدأ المؤجرون أيضاً في تقديم صفقات جذابة، مثل السماح لشركات الطيران بالدفع فقط عن الوقت الذي تحقق فيه الطائرة إيرادات، على حد قول موريس.
عمالة ماهرة وفيرة
كما أن المعروض الوفير الحالي من العمالة الماهرة يُعَدّ سبباً آخر لتحفيز شركات الطيران الناشئة. فقد يقضي الوباء على 2.3 مليون وظيفة حالية مرتبطة بشكل مباشر بشركات الطيران والمطارات والمصنعين وإدارة الحركة الجوية، فيما يتعرض ما مجموعه 44.6 مليون وظيفة تدعمها صناعة الطيران للخطر أيضاً، وفقاً لاتحاد النقل الجوي الدولي. فعلى سبيل المثال، معظم الطيارين وأفراد الطاقم الذين توظفهم شركة "غريتر باي إيرلاينز" (Greater Bay Airlines) في هونغ كونغ هم موظفون سابقون في شركة "كاثي باسيفيك" أو "دراغون إير" (Dragonair) أو "هونغ كونغ إيرلاينز" (Hong Kong Airlines).
كذلك يقول روبرت مان، رئيس شركة "آر دبليو مان آند كو" (R.W. Mann & Co) الاستشارية للطيران ومقرها نيويورك إنّ الناقلات الجوية الناشئة تتمتع برفاهية تكاليف العمالة في "العام الأول" في سوق الأجور، التي تتسم بالانضباط الوبائي. ويوضح أن الاحتفاظ بالموظفين المهرة، بما في ذلك الطيارون والمنظمون والميكانيكيون المعيّنون في أثناء الوباء، يمثل تحدياً بالفعل، خصوصاً أن القوى العاملة بدأت بالعودة إلى شركات النقل القديمة نظير أجور أعلى.
يبدو أن الحماس لا يقتصر على تأسيس ناقلات تجارية فقط، ففي إيطاليا بدأت شركة "إيطالي تراسبورتو أيرو" (Italia Trasporto Aereo)، المملوكة للدولة، والتي خلفت شركة "أليتاليا" (Alitalia) التي أعلنت إفلاسها، في التحليق جواً في أكتوبر، رغم إدراكها صعوبة النجاة دون تمويل من شركة طيران كبيرة.
كذلك تهدف شركة "سايرس كابيتال" (Cyrus Capital) إلى إعادة إحياء شركة الخطوط الجوية البريطانية "فلاي بي" (Flybe) بعد شراء العلامة التجارية من الإداريين، فيما تحاول مجموعة من المستثمرين في الهند إعادة إحياء شركة "جيت إيرويز إنديا" (Jet Airways India) التي انهارت وسط كومة من الديون في عام 2019. وتعمل شركة "تاتا سونز" (Tata Sons) -وهي أكبر تكتل في الهند وتدير إمبراطورية تعمل في كل شيء، من الملح إلى البرمجيات- على شراء شركة "إير إنديا" (Air India) التي تعصف بها الخسائر والمثقلة بالديون، لتضيف علامة تجارية ثالثة لشركة طيران إلى مشاريعها المشتركة الحالية مع الخطوط الجوية السنغافورية (Singapore Airlines) و"إير آسيا غروب" (AirAsia Group).
مما لا شك فيه أن الاقتصاد الذي يقود مثل هذه الصفقات يبعث روح التفاؤل لدى شركات الطيران الجديدة، مثل "فلاي بوب"، التي تمكنت من استئجار طائرات "إيرباص إيه 330" ذات البدن العريض وفقاً لما تطلق عليه تخفيضات قياسية. ويعلق مؤسس "فلاي بوب" جودج على الأمر قائلاً: "حتى وارين بافيت يمكن أن يخطئ".