خطوة جريئة إلى الأمام تلوح في أفق عملية الإصلاح المستمرة منذ عقود في طريقة إدارة السياسة النقدية في الصين، إذ يقود محافظ البنك المركزي بان جونغ شنغ تلك المؤسسة لاستكشاف التغييرات التي يمكن أن تجعلها أقرب إلى طريقة عمل أقرانها في العالم، بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
وفقاً للمقترحات التي طرحها بان في خطاب ألقاه في شهر يونيو، سيتحول "بنك الشعب الصيني" إلى استخدام سعر فائدة رئيسي واحد فقط على المدى القصير، والبدء في تداول السندات الحكومية لإدارة السيولة.
ستستمر بعض الاختلافات الجوهرية بينه وبين أقرانه الغربيين، مثل عدم استقلالية البنك عن الحكومة، واستمرار معارضة الصين لسياسة التيسير الكمي، غير أن هذه التحولات ستمثل الخطوة التالية في رحلة بدأت في تسعينيات القرن الماضي بالاعتماد على قوى السوق بدلاً من الكوادر الشيوعية في إدارة تكاليف الاقتراض.
1) كيف تحدد الصين سياستها النقدية حالياً؟
في الوقت الحالي، يستخدم "بنك الشعب الصيني" عدداً من أسعار الفائدة، وتشمل قرض السياسة النقدية لمدة عام واحد للبنوك التجارية، وهو ما يحظى بمتابعة واسعة النطاق، وآلية الإقراض متوسطة الأجل، وسعر إعادة الشراء العكسي لمدة سبعة أيام، وهو قرض أقصر أجلاً في السياسة النقدية.
وهناك أيضاً سعر الفائدة الأساسي على القروض الممتازة، والذي يعتمد على سعر الفائدة في آلية الإقراض متوسطة الأجل وينشره "بنك الشعب الصيني"، وسعر الفائدة على قروض البنك المركزي للبنوك، والذي يُعتبر الحد الأعلى لنطاق سعر الفائدة، والذي يوجه "بنك الشعب الصيني" أسعار الفائدة في السوق في إطاره.
في ما يتعلق بإضافة سيولة إلى القاعدة النقدية للاقتصاد، اعتمد "بنك الشعب الصيني" على مدار العقد الماضي على إقراض البنوك –ويشمل الإقراض من خلال آلية القروض متوسطة الأجل– بالإضافة إلى خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي، مما يطلق الأموال من أرصدة الاحتياطي للبنوك حتى تقوم بإقراضها أو استثمارها.
ولدى البنك هدف عام من التوسع في النقود المعروضة والائتمان الممنوح كل عام، وهو أن يتناسب ذلك مع هدف النمو الاقتصادي الاسمي الذي يبلغ نحو 8% هذا العام.
2) ما هي المشكلة في الوضع الحالي؟
يقول دينغ شوانغ، كبير الاقتصاديين لمنطقة الصين الكبرى وشمال آسيا في بنك "ستاندرد تشارترد"، إن تعدد أسعار الفائدة يؤدي إلى "فوضى في إشارات السياسة النقدية".
ومن النتائج المترتبة على ذلك أن أسعار الفائدة في السوق انحرفت بشكل كبير عن أسعار الفائدة الأساسية للسياسة النقدية. وعلى سبيل المثال، فإن سعر الفائدة الأساسي على القروض الممتازة، الذي بدأ تطبيقه في عام 2019، والذي يُفترض أن يعكس ما تتقاضاه البنوك التجارية من أفضل عملائها مقابل القروض، أصبح عاجزاً عن ذلك بشكل متزايد.
انخفض متوسط سعر الفائدة على القروض الجديدة الممنوحة بوتيرة أسرع بكثير من سعر الفائدة الأساسي على القروض الممتازة في السنوات الأخيرة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن حركة سعر الفائدة الأساسي للقروض الممتازة مقيدة بسعر الفائدة في آلية الإقراض متوسطة الأجل، والذي يتخوف "بنك الشعب الصيني" من خفضه بهدف حماية عملة البلاد في مواجهة قوة الدولار الأميركي.
عطل انحراف أسعار الفائدة في السوق عن سعر آلية الإقراض متوسطة الأجل، قدرة "بنك الشعب الصيني" على ضخ ما يكفي من السيولة النقدية في الاقتصاد.
ونظراً لأن اقتراض البنوك من بعضها البعض أرخص حالياً من اقتراضها من البنك المركزي عبر أرصدة آلية الإقراض متوسطة الأجل، فقد تراجع طلبها على الاقتراض من هذه الأرصدة.
ويواجه "بنك الشعب الصيني" مأزقاً مماثلاً مع وسيلة أخرى أساسية في السياسة النقدية تسمى الإقراض التكميلي، أو تقديم قروض مباشرة للبنوك مقابل ضمانات.
أدى عدم التوافق بين أسعار الفائدة الأساسية لدى "بنك الشعب الصيني" مثل سعر الفائدة في آلية الإقراض متوسطة الأجل وسعر الفائدة على الإقراض التكميلي وأسعار الفائدة في السوق، إلى انكماش الميزانية العمومية للبنك المركزي، "مما أدى إلى تعقد المعركة ضد الانكماش في الصين، وإضعاف فعالية التواصل في سياسة البنك المركزي"، وفقاً لتومي شيه، رئيس قسم أبحاث الاقتصاد الكلي في آسيا في شركة "أوفرسي تشاينيز بانكينغ" (Oversea-Chinese Banking).
3) ماهو سعر الفائدة الأساسي المعياري الجديد؟
لتحقيق هذا التحول، سيحتاج "بنك الشعب الصيني" إلى مساعدة السوق على الاعتراف بسعر واحد فقط للفائدة الأساسية.
ومن المتوقع على نطاق واسع أن يكون ذلك السعر هو سعر إعادة الشراء العكسي لمدة سبعة أيام– وهي أداة يومية تسمح للبنوك بالاقتراض من "بنك الشعب الصيني" مقابل ما بحوزتها من السندات.
في الوقت الحالي، تتماشى أسعار الفائدة في السوق مع هذا المعدل أكثر من سعر الفائدة في آلية الإقراض متوسطة الأجل.
إن استهداف سعر أساسي واحد فقط يقترب بالبنك خطوة نحو الطريقة التي تعمل بها البنوك المركزية الرئيسية الأخرى، فعلى سبيل المثال، يستخدم بنك "الاحتياطي الفيدرالي الأميركي" عمليات السوق المفتوحة للتأثير على تكلفة القروض قصيرة الأجل بين البنوك، وتنتقل التغييرات عبر المعاملات إلى تكلفة القروض على المنازل والشركات والمنتجات المالية.
سيقلل "بنك الشعب الصيني" أيضاً من أهمية وضع أهداف لمعدلات نمو الائتمان والنقود.
4) ماذا عن خطة تداول السندات الحكومية؟
من شأن تداول السندات أن يمنح البنك المركزي الصيني أداة جديدة تُعتبر أكثر فعالية في إدارة السيولة من أدواته الحالية، لأنها تؤثر على قطاع أوسع من المشاركين في السوق.
ويستطيع البنك أن يستخدمها بطريقة أكثر مرونة، وذلك على النقيض من آلية الإقراض متوسطة الأجل، التي تعتمد على مدى إقبال البنوك عليها، ولا تُستخدم إلا مرة واحدة في الشهر.
ومن شأن ذلك أيضاً أن يعزز قدرة البنك المركزي على مساعدة الحكومة على جمع الأموال لتمويل الاستثمار وغيره من أوجه الإنفاق لدعم الاقتصاد.
وتحتاج الحكومة إلى ذلك الآن أكثر من أي وقت مضى، إذ أصبحت الموارد المالية لدى السلطات المحلية شحيحة على نحو متزايد، مما يحد من قدرتها على مساعدة الاقتصاد الذي يواجه تحديات الانكماش وأزمة العقارات.
غير أن الصين لم تزل مترددة حيال سياسة التيسير الكمي. وسعى بان، عند الإعلان عن إصلاحاته المقترحة، إلى نفي فكرة أن "بنك الشعب الصيني" يشرع في تنفيذ عملية تحفيز ضخمة.
وقال بان إن "ضم نشاط شراء السندات الحكومية وبيعها إلى مجموعة أدوات السياسة النقدية لا يعني أننا سنقوم بالتيسير الكمي"، في إشارة إلى سياسة البنوك المركزية التي كانت غير تقليدية في السابق وتتمثل في شراء السندات الحكومية بهدف تحفيز الاقتصاد.
5) ما هي مزايا الإطار الجديد المقترح؟
يستطيع هذا الإطار أن يلبي بشكل أفضل الطلب المتزايد باستمرار على السيولة في الاقتصاد، إذ إن تداول السندات الحكومية يمنح "بنك الشعب الصيني" أداة قوية لضمان وجود أرصدة كافية من الأموال في السوق لتوفير التمويل للمقترضين من القطاع الخاص وكذلك الحكومة.
كما أن هذه الأداة يمكن نظرياً أن تسمح للبنك المركزي بالتأثير على عوائد السندات من خلال بيع أو شراء السندات حتى تتماشى العوائد مع تفضيلاته.
ومن المؤكد أن هذا الإصلاح لن يعالج بالضرورة التحديات الفورية التي يواجهها الاقتصاد، مثل أطول سلسلة انكماش منذ تسعينيات القرن الماضي، وواقع أن الطلب على الاقتراض لا يزال بطيئاً.
كذلك لن يحل مشكلة الأهداف المتعددة والمتنافسة في بعض الأحيان عند "بنك الشعب الصيني"– على سبيل المثال، يواجه البنك عراقيل أمام خفض أسعار الفائدة بسبب هدف تحقيق الاستقرار في سعر اليوان.
6) ما هو الهدف طويل الأجل لتحرير سعر الفائدة؟
الهدف طويل الأجل يتمثل في تخصيص أكثر كفاءة للائتمان ورأس المال في المجالات الأكثر إنتاجية في الاقتصاد، مما يعني تخفيض إهدار الديون. ويمكن لذلك أن يعطي دفعة لفرص النمو الاقتصادي، وهو أمر ضروري في ظل تصاعد الرياح المعاكسة على المدى الطويل مثل شيخوخة السكان والتوترات التجارية العالمية.
وقال لو شيا، خبير الاقتصاد الآسيوي في بنك "بي بي في إيه" (BBVA) إن "التأثير على المدى الطويل يتزايد، لأن النظام النقدي والمالي يحتاج إلى التطور مع الاقتصاد بوجه عام، الذي يمر بمزيد من الإصلاحات القائمة على السوق".
وأضاف: "ستتحول عملية السياسة النقدية نحو نموذج الاقتصادات المتقدمة، حيث إن البنوك المركزية مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي لديها ممارسة ناضجة للتحكم في أسعار الفائدة على المدى القصير، والسماح للسوق بصياغة أسعار الفائدة على المدى الطويل عبر المعاملات".
7) متى ستحدث الإصلاحات المقترحة؟
من غير المرجح أن تُطبق التغييرات المقترحة بين عشية وضحاها. فقد أوضح بان أن البنك المركزي لا يزال يدرس الإجراءات، وحذر بأن تداول السندات سيحدث تدريجياً.
قال بعض المحللين إن فرصة بدء تداول السندات من قبل "بنك الشعب الصيني" ربما تُتاح بعد نهاية اجتماع مهم للحزب الشيوعي يتعلق بالإصلاح، والذي سيُعقد في وقت لاحق من شهر يوليو، بينما يقول آخرون إن هذه الخطوة قد لا تأتي قريباً.
أوضح دينغ من بنك "ستاندرد تشارترد" أن "سعر الفائدة على آلية الإقراض متوسطة الأجل قد يفقد أهميته تدريجياً على المدى البعيد، ولكن ذلك لن يحدث بين عشية وضحاها. وفي خطاب بان، كانت صياغة الحديث في ما يتعلق بالتغييرات في أغلبها تتحدث عن دراسة الموضوع أو التفكير فيه مستقبلاً".