تتسابق بورصات العملات المشفرة، التي تسعى إلى زيادة إيراداتها بعد تدهورها، لرفع عمليات الإقراض، مما قد يؤدي إلى مخاطر جديدة في السوق بعد أقل من عام من آخر أزمة كبرى.
أطلقت بعض المنصات، من أمثال "كوين بيس غلوبال" و"بينانس"، مؤخراً برامج إقراض بأشكال متعددة، بدءاً من قروض الهامش لتحفيز التداول، مروراً بتسهيل الاقتراض من خلال منصاتها، ووصولاً إلى تقديم قروض مباشرة للعملاء.
ما يزال إقراض العملات المشفرة محدوداً مقارنة بفقاعة الرفع المالي التي أطاحت بنماذج كبيرة من القطاع عندما انفجرت في عام 2022، حيث يقول المسؤولون التنفيذيون إنهم بذلوا جهداً لتجنب تكرار هذه الأزمة.
ومع ذلك، فإن العودة تهدد باستحداث جيوب جديدة من أشكال الرفع المالي يكتنفها الغموض على امتداد أسواق التشفير، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم تأثير أي تصحيح كبير في الأسعار.
قد يتمثل القلق الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى هذه البورصات، في أن مبادرات الإقراض هذه، تُظهر علامات محدودة على عودة الانتعاش إلى أنشطة التداول المتدهورة.
وقالت هيلاري ألين، الأستاذة في كلية واشنطن للقانون، والتي تدرس تأثير التقنيات الجديدة، مثل التشفير، على الاستقرار المالي: "قد تترتب على ذلك نتائج عكسية للبورصات بالتأكيد. ففي أي وقت تحصل فيه على أصل من هذه الأصول وتقرضه، فإنك تخلق رافعة مالية تضعف المنظومة. أعتقد أن قطاع التشفير بشكل عام يبذل قصارى الجهد الآن في صراع وجودي".
البيانات المجمعة حول الإقراض عبر بورصات التشفير غير متوافرة. ومع ذلك، فقد شهدت الأشهر القليلة الماضية إعلان العديد من هذه البورصات عن مبادرات جديدة.
اقرأ أيضاً: إقراض التشفير على شفا الانقراض بعد انهيار "جينيسيس"
منافسة شرسة
في أغسطس الماضي، بدأت "كوين بيس" السماح للعملاء من المؤسسات بإقراض عملاتهم المشفرة لتحقيق إيرادات. وقبل شهر، بدأت بورصة "بيتغيت" (Bitget) الأصغر حجماً إقراض عملات ورقية أو مشفرة للمستخدمين الذين وضعوا عملاتهم المشفرة كضمان. كذلك، قدمت الشركة العملاقة في هذه الصناعة "بينانس"، التي عانت من انخفاض حاد في حصتها في السوق، قروضاً بهامش فائدة صفرية لمدة ساعة واحدة، في مرات عدة. كما انضمت منصات أخرى مثل "بيتستامب" (Bitstamp) إلى هذه المبادرات.
وتؤكد هذه الجهود على المنافسة الشرسة من أجل اقتناص حصة من هذه السوق، إذ لا تزال أحجام التداول أقل بنسبة 90% تقريباً مما كانت عليه عندما أفلست شركة سام بانكمان-فريد في نوفمبر الماضي.
انخفضت أحجام التداول الفوري في الربع الثالث لدى "كوين بيس" بأكثر من 50% عن العام السابق، مسجلة أدنى مستوى لها منذ ما قبل الطرح العام الأولي الذي جرى في أبريل 2021، وفقاً لتقديرات "سي سي داتا" (CCData). كذلك انخفض التداول لدى "بينانس" بما يُقدر بأكثر من 64%.
اقرأ أيضاً: قطاع التشفير يزداد توتراً وسط ترقب لبيع حيازات "FTX" المفلسة
ويلات فقاعة 2022
تسبب انهيار فقاعة الإقراض في عام 2022 إلى حد ما في ويلات لبورصات العملات المشفرة. وانهارت منصات الإقراض، أمثال "سلزيوس نتورك" (Celsius Network) و"بلوك فاي" (.BlockFi Inc) و"جينيسيس" (Genesis)، والتي كانت قد حفزت هذا النشاط من خلال تحويلات ائتمانية بمليارات الدولارات إلى المتداولين، عندما كشف هبوط الأسعار عن خلل في إدارة المخاطر.
تقول البورصات إنها تعلمت دروساً من الانهيارات التي ضربت القطاع في العام الماضي. بعض الشركات، مثل "كوين بيس"، تعمل فقط على تسهيل الحصول على القروض المدعومة بالكامل بضمانات، فيما يرفض البعض الآخر قبول أي شيء غير العملات المستقرة أو الرموز الرئيسية، مثل "بتكوين" كضمان. هناك طريقة أخرى، وهي العمل مع مزودي القروض التابعين لجهات خارجية، مما يتيح للمنصات تجنب المخاطرة المباشرة بميزانياتها العامة. تقول بعض البورصات إنها تجمع معلومات مفصلة عن المقترضين قبل منحهم الائتمان، ويحق للمقرضين رفض إقراض الأطراف المقابلة، إذا لم تشعر بارتياح تجاههم.
قال جان-بابتيست غرافتيو، الرئيس التنفيذي لشركة "بيتستامب"، إن الصناعة تضيف المزيد من القيود مع طرح مبادرات إقراض جديدة.
تعمل "بيتستامب" مع "تيسيراكت" (Tesseract) التي بدأت أنشطتها من مقرها في فنلندا منذ خمس سنوات، لتيسير الإقراض من قبل عملائها للمقترضين، مثل صانعي السوق. تقول "تيسيراكت" إنها تقبل فقط الضمانات في "بتكوين" و"إيثريوم" والعملات المستقرة، وهي رموز مميزة مرتبطة بأصل مثل الدولار الأميركي، وتودعها لدى أمناء إيداع من أطراف ثالثة.
اقرأ أيضاً: انهيار العملات المشفرة يهبط بعوائد الإقراض من 25000% إلى صفر تقريباً
غموض إضافي
يقول بعض مراقبي شؤون هذه الصناعة إنه حتى في ظل توافر الضمانات، فإن الإقراض الإضافي يفاقم حالة الغموض في خضم سوق عُرضة للتقلبات الشديدة. ونظراً لأن البورصات لا تفصح في العادة عن حجم قروضها، فإنه يتعذر تقييم التأثير على الرافعة المالية الإجمالية في هذه المنظومة.
قال توبي لويس، الرئيس التنفيذي لشركة "نوفوم إنسايتس" (Novum Insights)، المتخصصة في تحليلات العملات المشفرة: "كلما حدثت مواقف معقدة تقيّد السوق، زادت المخاطر، ما يتسبب في حالة من الارتباك لدى المستخدمين. أشعر أنه ربما لا يزال الوقت مبكراً نسبياً. أما مسألة أن الناس بدأوا يتقبلون المخاطرة على المدى القصير، فهذا أمر إيجابي إلى حد ما، ولكن بعد ذلك يجب التعامل مع هذا الوضع بشكل مناسب، وليس بالطريقة ذاتها التي كانت متبعة في الماضي".
بالنسبة إلى تداول الأسهم، فهناك شركات مقاصة مركزية وقواعد هامش موحّدة تحكم التسوية في حال تخلف المقترض عن السداد. قال لاري تاب، رئيس أبحاث هيكل السوق في "بلومبرغ إنتيليجنس"، إن العملات المشفرة لا تنطوي على غرف مقاصة مركزية، وتعتمد على معايير الضمانات التي تتباين وفقاً لكل بورصة، مما يجعل من الصعب تحديد مَن هو المتعثر عن السداد عندما ينهار مركز الهامش".
اقرأ أيضاً: أزمات السيولة تتفشى بمنصات العملات المشفرة
منافسة بين "سوان بتكوين" و"وينترميوت"
تواجه بورصات العملات المشفرة أيضاً مخاطر تدقيق من قِبل الجهات التنظيمية بسبب زيادة الإقراض. على سبيل المثال، أشارت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية إلى أنها تريد من هذه المنصات التعامل مع مهام أقل. أحد الجوانب التي تميّز العملات المشفرة عن نظيراتها من الأسهم التقليدية هو أن منصات مثل "بينانس" تتعامل مع مجموعة متنوعة من المهام أكبر بكثير من بورصات الأسهم -مثل إيداع الأصول وتقديم قروض الهامش- وهو ما يمنحها عوامل ربح إضافية، غير أن ذلك يتسبب أيضاً في تركيز المخاطر.
في النهاية، هناك سؤال يفرض نفسه على هذه الصناعة، وهو ما إذا كانت منافسات الإقراض تستحق كل هذه المنغصات المحتملة. فالمنافسة تشتد حدّتها، في الوقت الذي يخطط لاعبون، من أمثال منصة "سوان بتكوين" (Swan Bitcoin) ومشروع مدعوم من منصة "وينترميوت" (Wintermute)، لدخول السوق، وهو ما يمكن أن يضغط على الهوامش.
أما بالنسبة إلى تأثير ذلك على التداول، فإن البيانات لا تبدو مبشّرة. فقد انخفض إجمالي التداول الفوري في أكبر خمس بورصات تشفير بحوالي 22% بين الربعين الثاني والثالث من العام الجاري، وفقاً لبيانات "سي سي داتا".
قال أناتولي كراشيلوف، الرئيس التنفيذي لشركة إدارة الاستثمار البديل "نيكل ديجيتال" (Nickel Digital) ومقرها في لندن: "طالما أن السوق لا تزال متشائمة، فإن هذه الحوافز الترويجية قد لا تحدث فارقاً كبيراً".