
بينما ينتظر العالم ومعه الرئيس الأميريكي، الذي سمى نفسه قائداً لصانعي السلام، إعلان جائزة نوبل للسلام لهذا العام، خصصوا لحظة للتفكير في تنامي خطر الحرب ومنها العالمية.
حتى لو ألقينا نظرة سريعة على القوى العسكرية الكبرى اليوم نجد أن قادتها ونخبها السياسية مفرطو الثقة بشكل خطير، وقد ينزلقون إلى كارثة بسبب ما يسميه علماء العلاقات الدولية "التفاؤل المتبادل" كما في عام 1914 مثلاً.
إن لم تكن قلقاً حيال ذلك بعد، فتأمل دراسة، هي الأكبر والأوسع جغرافياً من نوعها، توصلت إلى هذا الاستنتاج تحديداً. نشر جيفري فريدمان من كلية دارتموث حديثاً نتائج استطلاعات أعدها (بين عامي 2016 و2022 تقريباً) وشملت نحو 2000 مسؤول في الأمن القومي من أكثر من 40 دولة غربية وكان منهم رجال ونساء، مدنيون وعسكريون، من دول أميركا الشمالية وأوروبا.
اتخذت أسئلة فريدمان شكل بيانات، وكان على المسؤولين ربطها باحتمالات. إليك بعض الأمثلة: الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تملك طائرات شبح. (الإجابة الصحيحة هي لا). عدد العسكريين العاملين في الخدمة الفعلية في الاتحاد الأوروبي أكبر منه في روسيا (نعم). قتل الإرهابيون الجهاديون في السنوات السابقة عدداً أكبر من الناس في فرنسا مقارنةً بالولايات المتحدة (نعم). أكبر عدد لللاجئين من سوريا موجود في فنزويلا (في ذلك الوقت، نعم).
أخبرني فريدمان أنه ابتداءً من عام 2020، بدأ يطرح كل سؤال بصيغتين. على سبيل المثال، تلقى نصف المشاركين هذا السؤال: "ما احتمال أن تكون بوكو حرام قد قتلت مدنيين أكثر من داعش منذ عام 2010؟" وتلقى النصف الآخر: "ما احتمال أن تكون داعش قد قتلت مدنيين أكثر من بوكو حرام منذ عام 2010؟"
كما استنتجتم، لم يكن فريدمان يسعى لاختبار معارف المسؤولين، بل كان يسعى لقياس ما اعتبره "تواضعهم الفكري" (أو غيابه أي غرورهم). وكانت البيانات واضحة: كان المشاركون مفرطي الثقة بأنفسهم.
قراءة النتائج مقلقة
عندما قدّر المشاركون أن احتمال صحة العبارات 90%، كانت هذه العبارات صحيحة بنسبة 58% فقط. ببساطة، كانت إجاباتهم ضربات حظ. حتى عندما شعر المشاركون باليقين التام (بتحديد احتمال 0% أو 100%) كانت نسبة الخطأ تفوق 25% من الحالات. ولم يكن هناك فرق بين الرجال والنساء أو الأميركيين والأوروبيين أو الضباط والمدنيين.
علاوة على ذلك، لم يكن المشاركون مخطئين عشوائياً فحسب، بل كانوا أكثر عرضة للنتائج الإيجابية المغلوطة؛ وهذا هو الهدف من قلب الأسئلة.
لماذا لن تخوض الهند وباكستان حرباً بسبب المياه؟
قد تظن أنه إذا طلبت من عدد كبير من الخبراء العقلانيين تحديد احتمالات أي من داعش أو بوكو حرام أكثر فتكاً من الأخرى، فإن مجموع المتوسطات يجب أن يكون 100%. لكنها كانت تزيد عن ذلك بكثير باستمرار (في 244 سؤالاً من أصل 280 سؤالاً في التجربة).
في سياقات أخرى، يُشير هذا التحيز نحو الإيجاب المغلوط إلى أن الناس أميل، على سبيل المثال، لإرسال شخص بريء إلى السجن بدلاً من إطلاق سراح شخص مذنب.
في العلاقات الدولية، يُساعد هذا، على سبيل المثال، في تفسير سبب شعور مستشاري البيت الأبيض عام 2002 باليقين من أن صدام حسين كان يحاول صنع أسلحة نووية (في حين أنه لم يكن كذلك)، وأنهم كانوا على ثقة من قدرتهم ليس فقط على إسقاط نظامه، بل أيضاً على إحداث استقرار وديموقراطية في العراق بسرعة، ولم يتمكنوا من ذلك.
نبالغ فيما يخطر على بالنا ونتجاهل ما سواه
في معرض طرحه لفرضيات هذا التباين المعرفي الخطير، يُشير فريدمان إلى أعمال علماء النفس مثل الراحل عاموس تفيرسكي ودانيال كانيمان، رواد كشف التحيزات المعرفية. أحد هذه الفرضيات هو الاستدلال بما هو متوفر، وهو ميلنا البشري إلى المبالغة في احتمالية أي شيء يخطر على البال، وتجاهل الاحتمالات الأخرى.
في عام 2002، على سبيل المثال، كان أسهل بكثير تخيّل أن صدام كان يستورد أنابيب الألومنيوم لبناء أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، بدلاً من الاعتقاد بأنه أراد هذا المعدن فقط لصنع صواريخ تقليدية (وهو ما اتضح لاحقاً) أو لشيء آخر تماماً.
فخ آخر هو ما يُسمى بتحيز الموافقة، أي ميلنا إلى الموافقة حتى قبل النظر في محتوى الاقتراح. ويزداد هذا الأمر سوءاً بمضاعفات عند إضافة التفكير الجماعي، أو ضغط الأقران، أو الخوف الصريح.
آلة بوتين العسكرية أصبحت جزءاً من الاقتصاد الروسي
لهذا السبب، تميل الأنظمة الاستبدادية إلى ارتكاب أخطاء أكثر كارثية من المجتمعات المفتوحة. لنأخذ غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا عام 2022، الذي أكد له مستشاروه وجنرالاته أنه سيستغرق أياماً.
الخبر السيئ الذي ينجم عن بحث فريدمان ذو شقين. أولاً، تلاشت ذكريات الحرب العالمية الأخيرة، ويظهر الجيل الحالي من القادة والخبراء -من الصين وروسيا إلى الولايات المتحدة وغيرها- علامات تراجع التواضع وتنامي الغطرسة، كما كان حال القادة الأوروبيين في صيف عام 1914.
ثانياً، تبتعد الولايات المتحدة، القوة العسكرية الأعظم في العالم، عن ثقافة التحليل المنفتح والموضوعي، وتتجه نحو التفكير الجماعي والتفكير الموجه القائم على اختبارات الولاء للقائد - وهو ما يمكن تسميته حرباً على الخبرة.
تدريب لدقيقتين
ولكن هناك أيضاً أخبار سارة. فقد اكتشف فريدمان في استطلاعاته أنه يمكنك تعزيز التواضع بشكل كبير وتحسين النتائج من خلال تدريب المسؤولين لمدة دقيقتين فقط، أي بمعنى تهيئتهم ليكونوا مدركين لتحيزاتهم.
غالباً ما تكون المخاطر في العلاقات الدولية هي الحرب والسلام، الحياة والموت. فكّر في بعض الأسئلة التي يواجهها البيت الأبيض حالياً. هل دمرت الولايات المتحدة فعلاً البرنامج النووي الإيراني، أم أنها أعاقته لفترة من الوقت؟ هل تشن روسيا حرباً هجينة ضد دول الناتو الأوروبية لمجرد مضايقة التحالف، أم لاختبار نقاط ضعفها استعداداً لهجوم شامل؟ هل لدى كوريا الشمالية خطط لمهاجمة الجنوب، أم تخطط الصين للاستيلاء على تايوان؟ إذا وصل الأمر إلى الحرب، من سيكون فوزه أرجح؟
إليكم الدروس التي أقترحها من بحث فريدمان لقادة جميع الدول: أولاً، أعطوا الخبرة حق قدرها واعترفوا بأن وظيفتها هي أن تقول الحقيقة للسلطة لا أن تطريها. ثانياً، لا تسمحوا للمستشارين بعرض سيناريوهات منفردة، بل أصرّوا على فرضيات بديلة؛ ثم اقلبوها، بحيث تجعلون ما هو تأكيدي ناقضاً.
قبل كل شيء، لا تُكافئ ثقة مسؤوليك بأنفسهم والأهم من ذلك استعراض القدرات، بل كافئ تواضعهم. وكن متواضعاً دائماً.
















