
أعلن دونالد ترمب للعالم بأسره في نهاية الأسبوع الماضي أن صناعة السينما باتت هدفاً آخر لرسومه الجمركية.
وكتب على منصّته للتواصل الاجتماعي "صناعة السينما في أميركا تموت موتاً سريعاً. الدول الأخرى تقدّم حوافز متنوعة لاستقطاب صنّاع أفلامنا واستوديوهاتنا بعيداً عن الولايات المتحدة... هذا جهد منسّق من دول أخرى، وبالتالي يشكّل تهديداً للأمن القومي. وهو، إلى جانب كل شيء آخر، وسيلة للدعاية والبروباغندا! ... نريد أفلاماً مصنوعة في أميركا مجدداً!"
اقرأ أيضاً: ترمب يخطط لفرض رسوم بـ100% على الأفلام الأجنبية
كيف تُفرض الرسوم على الأفلام؟
بداية، لإعطاء كل ذي حق حقه، وكما في السياسة العامة التي تتبعها إدارة ترمب في ما خصّ الرسوم الجمركية، في هذه الحالة أيضاً ثمة مسألة اقتصادية حقيقية تستحق التوقف عندها. إذ تستغل الاستوديوهات الكبرى المنتجة للأفلام الضخمة الإعفاءات الضريبية، وانخفاض كلفة اليد العاملة، وحوافز أخرى لتصوير أعمالها في لندن ونيوزيلندا وكندا وغيرها. أما الأفلام ذات الميزانيات المتوسطة والمنخفضة، فغالباً ما تُصوَّر في دول أوروبا الشرقية مثل رومانيا وبلغاريا للأسباب نفسها. كذلك تُعهَد الرسوم المتحركة وأعمال ما بعد الإنتاج، من مونتاج ومؤثرات خاصة، إلى جهات خارج البلاد.
لكنّ اللجوء إلى "حلّ" كاسح من هذا النوع أشبه باستخدام منشار كهربائي لمعالجة مسألة تتطلّب مشرطاً جراحياً، وهي سمة غالبة في نهج هذه الإدارة. كيف يمكن أساساً فرض رسوم جمركية على "الأفلام"؟ إنها نوع من الفنون، وليست سيارة أو تلفزيوناً تُشترى أجزاؤه وتُجمّع لتنقل في حاوية شحن. فالأفلام نتاج أفكار يجسدها محترفون من أصحاب المواهب، وغالباً ما تُنقل اليوم بصيغة رقمية لا مادية. فهل ينوي فرض رسوم على أسعار التذاكر؟ أم يقترح مضاعفة سعر أقراص "بلو راي" للأفلام الأجنبية؟ وماذا عن منصات البث التي تعتمد عادة على إنتاج عالمي من أجل إغناء محتواها؟
اقرأ أيضاً: هوليوود في مهب السياسة.. كيف تهدد رسوم ترمب مستقبل الإنتاج السينمائي في العالم؟
والأهم، كما أشار أستاذ الاقتصاد جاستن وولفرز على منصة "بلو سكاي"، أن الولايات المتحدة تُصدّر أفلاماً وبرامج تلفزيونية أكثر بكثير مما تستورده. وغالباً ما يدرّ بيع تذاكر الأفلام الهوليوودية الضخمة في الخارج إيرادات تعادل تلك التي تحققها السوق المحلية، بل تتجاوزها أحياناً. لذا، إذا قررت أسواق عادة ما تكون مربحة لقطاع صناعة السينما الأميركي، مثل الصين والمملكة المتحدة واليابان وأستراليا، فرض رسوم انتقامية على الأفلام الأميركية، فذلك سيشكل، وفق تعبير ترمب نفسه "موتاً سريعاً جداً" لصناعة السينما في أميركا. وكانت الصين قد لوّحت باتخاذ مثل هذا الإجراء قبل نحو شهر، حتى قبل أن يبدأ ترمب في الحديث عن الأفلام.
قوة أميركا الناعمة
لكن المسألة تتجاوز الخسائر المالية. فالفن، أياً كانت وسيلته، يقدّم رؤى متنوّعة ويوحّد بين المجتمعات. وتتميّز السينما بقدرتها على معالجة قضايا معقّدة ضمن زمن قصير نسبياً، ولطالما شكّلت لغة عالمية لنتبادل قصصنا الفردية وتاريخنا وأفكارنا. وقد وكانت استفادة الولايات المتحدة عظيمة من هذا التبادل، حتى باتت هوليوود من أبرز أدوات قوتها الناعمة.
هذه العلاقة ليست من طرف واحد. فالأفلام الأجنبية أيضاً تتيح لمزيد من أفراد مجتمعنا المتنوّع أن يروا أنفسهم على الشاشة، كما تُلهم صُنّاع الأفلام المحليين وتسهم في تطوّر هذا الفن. وبعيداً عن المثاليات، هناك منافع أخرى. فالفيلم الكوري الجنوبي Parasite، على سبيل المثال، حقق أكثر من 50 مليون دولار في السوق الأميركية، ولم يقتصر إنفاق رواد السينما على ثمن التذاكر، بل شمل أيضاً الفوشار والحلويات والمشروبات، ما عزّز إيرادات صالات العرض.
يبدو أن فرض رسوم جمركية على الأفلام لم يخضع لتفكير متأنٍّ من حيث التفاصيل اللوجستية. وكما هو متوقّع، سارع البيت الأبيض إلى إصدار بيان بدا أشبه بتراجع ضمني عن خطاب الرئيس الغاضب.
مع ذلك، الرسالة وصلت. فكما هو الحال مع تراجع الإدارة عن سياسات التنوع والإنصاف والشمول، ومحاولات التبييض الانتقائي لتاريخ الولايات المتحدة، يكشف الإعلان عن رسوم جمركية على الأفلام عن مسعى متواصل لحركة "لنعد لأميركا عظمتها" لإعادة تشكيل نمط الحياة والثقافة الأميركية.
خطر التضييف على المبدعين
سينشأ عن ذلك فراغ ثقافي، ولكن من سيملأه؟
ترمب، بطبيعة الحال، لديه تصوّراته. أتذكّر في عام 2019، حين خصّص وقتاً خلال أحد تجمعاته الانتخابية للحديث عن اكتساح الفيلم الكوري الجنوبي Parasite لجوائز الأوسكار. قال وقتها "الفائز هو... فيلم من كوريا الجنوبية! ما هذا؟ لدينا ما يكفينا من المشكلات مع كوريا الجنوبية في التجارة، والآن يمنحونها جائزة أفضل فيلم للعام؟ هل كان جيداً؟ لا أدري. أعيدوا لنا Gone With the Wind. هل يمكن أن نستعيد Gone With the Wind من فضلكم؟"
العبارة الأكثر إثارة للقلق في منشوره الأسبوع الماضي، على الأقل في نظر من يفقهون التاريخ، هي تلك التي قد تبدو هامشية للوهلة الأولى، أي استياؤه من أن "دولاً أخرى"، وإلى جانب التداعيات الاقتصادية للإنتاج في الخارج، تستخدم الأفلام كوسيلة لبثّ رسائلها ودعايتها" الخبيثة.
وهذا تحديداً الاتهام الذي واجهه الكتّاب والمخرجون ذوو الميول اليسارية خلال الحقبة القاتمة للقائمة السوداء في هوليوود والتحقيقات التي أجرتها لجنة الأنشطة المعادية لأميركا في الكونغرس. في تلك الفترة، كُمِّم الإبداع، وأُقصي كثير من العاملين في القطاع من الوظائف والفرص المهنية.
لا شيء يوحي بأن إدارة ترمب التي اعتادت التذرّع بـ"الأمن القومي"، لن تسلك المسار نفسه. قد يرى البعض في هذا تهويلاً أو مبالغة في الارتياب، وربما يكون كذلك. لكن إن كان ثمّة درس تعلّمناه خلال العقد الماضي، فهو أن الاستهانة بترمب، وبمن عينهم في السلطة، وبمدى تطرّف رؤاهم وأهدافهم، إنما تكون على مسؤوليتنا الخاصة.