الشرق
تمر المملكة العربية السعودية اليوم بمحطة مفصلية في مسيرة تحقيق "رؤية 2030" التي انطلقت قبل تسع سنوات لإحداث نقلة نوعية شاملة في الاقتصاد والمجتمع، وهو ما يتأكد من تقرير الرؤية لعام 2024 الصادر اليوم الجمعة والذي جاء فيه أن 93% من مؤشرات البرامج والاستراتيجيات حققت مستهدفاتها المرحلية أو تجاوزتها أو قاربت على تحقيقها.
تضم الرؤية حوالي 1502 مبادرة تستهدف نمو وتنويع الاقتصاد في أكبر مُصدر للنفط وثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، ناهيك عن تمكين المجتمع، وتعزيز مكانة البلاد كوجهة للحياة والعمل والسياحة، مع عدم إغفال محور الاستدامة وسط زحمة الأهداف الآنية، وقد كشف التقرير أن 85% من المبادرات أصبحت مكتملة. تأتي هذه المنجزات رغم توالي الصدمات الخارجية منذ سنة 2016 حيث تجلى أن خيار التنويع كان سلاحاً خفف من تأثير الأزمات التي شهدها العالم.
رصد تفاصيل هذا التقرير وما حققته السعودية في مساعيها للتحول من اقتصاد معتمد على النفط حصراً إلى الاستثمار في قطاعات متنوعة كان موضوع حلقة خاصة على قناة "الشرق" شارك فيها خبراء قدموا رؤاهم وتحليلاتهم لحصيلة السنوات التسع وآفاق المرحلة المقبلة.
تسع سنوات من النجاح
علي الحازمي، عضو جمعية الاقتصاد الأميركية، قال إن المرحلة السابق من الرؤية كان عنوانها النجاح، وأضاف خلال مشاركته ضمن البرنامج أن "العالم واجه خلال هذه السنوات العديد من التحديات، بدءاً من أزمة النفط في 2016 مروراً بجائحة كورونا ووصولاً إلى أزمة التعريفات، ومع ذلك، مضت المملكة قُدماً في تنفيذ رؤيتها دون تعطل، إذ لم توقف أياً من مبادراتها بل وترسخت لديها العزيمة لإنجاز المشاريع بحلول نهاية العقد".
"المؤشرات تُشير إلى أن العديد من الأهداف قد تم تحقيقها حتى قبل حلول موعدها، وهو ما يعكس الجاهزية الكاملة للاقتصاد السعودي الذي احتاج إلى إعادة هيكلة لاستيعاب التحولات الهائلة"، بحسب الحازمي.
الخبير الاقتصادي توقف عند أداء صندوق الاستثمارات العامة السعودي بالإشارة إلى نمو أصوله من 150 مليار دولار في عام 2016 لتصل إلى 925 مليار دولار في عام 2024، مسجلةً بذلك نمواً مركباً بنسبة 390% وبمعدل نمو سنوي قدره 22%. وهو ما أرجعه الحازمي إلى "التحولات الكبرى التي عرفها من خلال تنويع القطاعات والدخول في شراكات دولية"، وأضاف: "الصندوق أصبح الذراع الاستثمارية الرئيسية للدولة بعوائد تتراوح بين 7% و8%، متفوقاً على المتوسط العالمي البالغ 5% إلى 6%".
وفي ضوء هذه النتائج، أشار عضو جمعية الاقتصاد الأميركية إلى أن مُستهدف ارتفاع أصول الصندوق إلى 10 تريليونات ريال بحلول 2030 يبقى هدفاً متحفظاً، وتوقع أن يتجاوز الرقم 12 تريليون ريال في ذلك التاريخ.
نمو القطاع غير النفطي
تمكنت السعودية من تحقيق منجزين على صعيد الإيرادات غير النفطية التي وصلت إلى 502.5 مليار ريال، ومساهمة الأنشطة غير النفطية بنسبة 51% في الاقتصاد في العام الماضي وذلك لأول مرة على الإطلاق، بحسب التقرير.
كورنيليا ماير، رئيسة مجلس إدارة "ميير ريسورسز لندن" (Meyer Resources London)، أوضحت أن ما تحقق على صعيد الأنشطة غير النفطية كان مدعوماً بسياسات مبتكرة شجعت شركات القطاعين الحكومي والخاص على الاستثمار في قطاعات متعددة، وأضافت: "صحيح أن الحكومة استثمرت في عدة مشاريع، لكن ذلك ساهم في دعم الاستثمارات الخاصة أيضاً".
سجلت الصادرات السعودية غير النفطية نمواً ملحوظاً بنسبة 73% منذ عام 2016، بارتفاع من 177.7 مليار ريال إلى 307.4 مليار ريال في العام الماضي، وترى ماير "هذا النمو يعكس قرار السعودية الحكيم في تقليل الاعتماد على النفط كسلعة رئيسية وتوجيه الاقتصاد نحو التنوع، وهذا سيتجلى بشكل أكبر على المدى الطويل".
التعدين والقطاع اللوجستي والصناعة العسكرية
تركز رؤية السعودية بشكل كبير على الصناعة كمحرك رئيسي لنمو الاقتصاد وتنويعه، مع تسليط الضوء بشكلٍ خاص على التعدين الذي ارتفعت قيمة ثرواته الكامنة من 4.9 تريليون ريال عند إطلاق الرؤية عام 2016 إلى 9.4 تريليون ريال بنهاية العام الماضي، تُضاف إليها استثمارات تراكمية في القطاع بنحو 1.5 تريليون.
بحسب سليمان المزروع، الرئيس التنفيذي لبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (ندلب)، فإن "رؤية 2030 تُمثل نقلةً نوعيةً وهدفها الأساسي هو تنويع الاقتصاد السعودي وتعزيز الاستثمارات في قطاعات عديدة لضمان اقتصاد متين ومستدام"، وأشار إلى أن "قطاع التعدين يلعب دوراً كبيراً في هذا التحول بالنظر لما يتوفر من معادن في باطن الأرض بالسعودية حيث شمل المسح الجيولوجي لحد الآن النصف فقط".
من مُنجزات الرؤية تجاوز نسبة توطين الصناعات العسكرية نسبة 19% العام الماضي، حيث تتجه للوصول إلى مستهدف 50% عام 2030، بعدما كانت قبل تسع سنوات أقل من 2%. قال المزروع حول هذا المنجز: "في الصناعات العسكرية كنا نطمح لشراء الأفضل الآن نسعى لتصنيع الأفضل، ولدينا أكثر من 200 مصنع للصناعات العسكرية في المملكة ونطمح إلى الوصول إلى صناعات عسكرية متنوعة بشراكة مع الدول المتقدمة مثل الهند وأميركا".
على مستوى القطاع اللوجستي، يرى المسؤول السعودي أن الرؤية جلبت فكراً جديداً للمناطق اللوجستية بهدف خدمة السعودية والعالم معاً، وذلك يتجلى في زيادة نشاط إعادة التصدير بشكل ملحوظ، كما لفت إلى أن ارتفاع عدد الرخص اللوجستية إلى أكثر من ألف رخصة بعد أن كان الرقم صفرياً قبل إطلاق الرؤية.
وجود مناطق لوجستية في الموانئ على البحر الأحمر والخليج العربي يُوفر مساراً أسرع لتحقيق أهداف المملكة، بحسب المزروع، حيث قال إن "موقع المملكة الجغرافي وقربها من أوروبا وأفريقيا وآسيا، يجعلها محوراً مهماً في عملية إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية".
جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة
تمكنت السوق السعودية من استقطاب تدفقات استثمارية بنهاية 2023 بواقع 96 مليار ريال، بما أدّى لتجاوز مؤشر نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر في الناتج المحلي مستهدفه بواقع 16%. لكن تقرير الرؤية كشف أن حجم هذه الاستثمارات تراجع إلى 77.6 مليار ريال حتى الربع الرابع 2024.
بحسب حمزة الكعود، محلل شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "تي إس لومبار" (TS Lombard)، فإن التراجع في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر سُجل أيضاً على مستوى العالم وليس فقط في السعودية، وقال إن "التدفقات اتجهت نحو الاقتصادات النامية مثل فيتنام والهند هرباً من الرسوم الجمركية التي كان يتحدث عنها دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية العام الماضي".
استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتعزيز حصتها من الناتج المحلي، يوجد ضمن أكثر المؤشرات تحت مجهر الأسواق ومراقبي أداء رؤية 2030 لما يمثل من مقياسٍ مباشر لمدى نجاعة الإجراءات والمبادرات المتخذة لتحسين بيئة الأعمال وجاذبية الاستثمار في المملكة. وقد نجحت المملكة بجذب الشركات العالمية إلى العاصمة الرياض حيث بلغ عدد مقراتها الإقليمية نحو 571 شركة متجاوزة مستهدف عام 2030.
على مستوى التضخم، تشير البيانات الرسمية إلى أن معدله سجل العام الماضي 1.7% مقابل 1.6% في العام السابق، بينما تبلغ النسبة حالياً 2.3%. لكن الكعود يرى أن هذا التحرك يبقى طفيفاً مقارنة بما سُجل على المستوى العالمي. وأشار المتحدث إلى أن تقلبات الدولار والرسوم الجمركية تثير مخاوف لمنطقة الخليج بتأثيرها على أسعار النفط لأنها تؤثر على الإيرادات التي يتم استثمارها في المشاريع، وأضاف: "عندما يهبط سعر النفط نتوقع أن ينخفض طبعاً النمو الاقتصادي السعودي، لكن الاقتصاد غير النفطي كان أداؤه جداً في الأشهر الأخيرة".
إصلاحات بيئة الأعمال
تولي السعودية أهمية كبيرة لإصلاح بيئة الأعمال لزيادة الاستثمارات ورفع مساهمة الأنشطة غير النفطية، وقد اعتمدت عدة إصلاحات في هذا الصدد لجذب المستثمرين.
فواز العلمي، رئيس مجلس إدارة المكتب الاستشاري في التجارة الدولية، قال إن المملكة أنجزت حوالي 800 إصلاحٍ في بيئة الأعمال لتحتل بذلك المرتبة الأولى عالمياً لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، كما تحتل المرتبة الأولى في مؤشر الاستقرار الاقتصادي والمرتبة 16 في التنافسية والمرتبة الثالثة في مؤشر حماية أقلية المستثمرين.
العلمي أشار إلى أن الإصلاحات المتخذة في إنجاز الأعمال ومشاريع الاستثمار من شأنها أن تحدث تحولاً جذرياً في الاقتصاد وزيادة الصادرات غير النفطية.
بإمكان السعودية أن تستفيد أيضاً من تصاعد التوترات التجارية عبر إقامة تحالفات مع الاقتصادات الكبرى. وأشار العلمي في هذا الصدد إلى الشراكة التي تمت مع إيطاليا، إضافة إلى الشراكات الاستراتيجية مع دول كبرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي.
شدد الخبير الاقتصادي على أن "المملكة ستستفيد من هذه الشراكات لزيادة تصنيع المنتجات وإعادة تصديرها، كما يمكن استغلال فرص موقعها على البحر الأحمر الذي تمر منه 13% من التجارة العالمية".
الصناعة تقود القاطرة وتخفض البطالة
كان لافتاً انخفاض معدل البطالة في السعودية خلال العام الماضي إلى 7%، وهذا الهدف كان متوقعاً تحقيقه عام 2030، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى تطور القطاع الصناعي الذي استقطب استثمارات مهمة ساهمت في خلق فرص الشغل، بحسب محمد مكني، أستاذ الاقتصاد في جامعة الإمام محمد بن سعود.
"الصناعة لها أهمية كبيرة في أي اقتصاد"، وأضاف مكني قائلاً: "لا يمكن لأي دولة أن تتقدم دون صناعة، والسعودية ركزت على هذا الجانب مستهدفةً 13 صناعة نوعية وخلقت خمس مناطق اقتصادية ودعمت المستثمر المحلي، وهذا نتج عنه نمو في القطاع الصناعي بنسبة 124% منذ بداية الرؤية".
يضم القطاع الصناعي في السعودية حالياً نحو 12 ألف منشأة صناعية، من سبعة آلاف قبل تسع سنوات. ويرى مكني إلى أن حركية القطاع الصناعي تتجلى في بلوغ مؤشر مديري المشتريات في شهر يناير الماضي رقماً قياسياً لم يتحقق منذ أكثر من عشر سنوات، وهو ما يعني أن هناك إنتاجاً وطلبيات واستثمارات متزايدة.
في ظل تصاعد الحرب التجارية بين الصين وأميركا، حث مكني على ضرورة استغلال الفرص المتاحة من هذه الأزمة لتكثيف الشراكات الاستراتيجية وزيادة الاستثمار في الصناعات وزيادة الإنتاج المحلي.
طفرة الذكاء الاصطناعي والرياضة في السعودية
تشهد السعودية طفرةً في قطاع التقنية، سواء تعلق الأمر بالأمن السيبراني أو استعمال الذكاء الاصطناعي، إذ تسعى المملكة أن تكون ضمن أول 15 دولة في الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم بحلول نهاية العقد الجاري، وفقاً للهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي.
تحتل المملكة السعودية المرتبة الثالثة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي وفق مرصد سياسات الذكاء الاصطناعي، كما تُصنف 11 عالمياً في المؤشر العالمي لسلامة الذكاء الاصطناعي. وتشهد سوق الأمن السيبراني نمواً مستمراً حيث يُقدر حجمها نحو 13.3 مليار ريال، إذ يعمل فيها نحو 19.6 ألف مختص في حوالي 355 شركة تقدم الحلول والخدمات السيبرانية.
يرى عبد الله السبع، مقدم برنامج "تك بلاس" على قناة "الشرق" أن "المملكة شهدت نقلة كبيرة في قطاع التقنية، حيث باتت البلاد تستعمل الذكاء الاصطناعي في جوانب مختلفة من الحياة لتقديم العديد من الخدمات للمواطنين بطريقة سلسة وسهلة".
السبع أشار إلى أن "الذكاء الاصطناعي بدأ كخطة وأصبح واقعاً نعيشه"، وأشار إلى أن السعودية تسجل أرقاماً ملفتة في جانب التكنولوجيا المالية مع بروز عدة شركات ناشئة "يونيكورن".
على مستوى الرياضة، تستعد المملكة لاستضافة كأس العالم 2034، وهي خطوة تعكس مكانتها المتصاعدة كمركز رياضي عالمي وقدرتها على تنظيم أكبر نسخة في تاريخ البطولة تُقام في دولة واحدة. يشير عبد الرحمن الشويخ، المحلل الاقتصادي لقطاع الرياضة لدى "الشرق" إلى أن استضافة هذه التظاهرة هي أعلى مرحلة يمكن الوصول إليها في الرياضة.
وأضاف الشويخ أن تنظيم كأس العالم له تداعيات إيجابية عديدة على الاقتصاد بصفة عامة، على اعتبار أن الحدث سجل خلال آخر نسخة خمسة مليارات مشاهدة، كما أن التنظيم يحشد الاستثمارت في قطاعات عدة من البنية التحتية والنقل والمواصلات، إضافة إلى توقع توافد الملايين من المشجعين لمتابعة المباريات في المدن المستضيفة للمباريات، وهو ما سيكون له أثر إيجابي على مختلف قطاعات الاقتصاد.
زيادة أصول صندوق الاستثمارات العامة
يحظى صندوق الاستثمارات العامة باهتمام كبير في تنفيذ الرؤية السعودية، حيث قفز حجم الأصول تحت إدارته منذ إطلاق الرؤية بنحو 400% إلى 3.53 تريليون ريال، متجاوزاً مستهدفه للعام الماضي عند 3.3 تريليون ريال، في وقتٍ تمّ رفع مستهدف 2030 من 7 إلى 10 تريليونات ريال.
يرى نايف الغيث، كبير الاقتصاديين في بنك الرياض، أن المستهدف لنهاية العقد الجاري لن يشكل تحدياً كبيراً، وأضاف: "في البداية كانت جميع الأرقام والمستهدفات تشكل تحدياً وتبدو صعبة جداً، الآن بعد تسع سنوات يسود الذهول أمام ما تحقق، لذلك لن يكون صعباً على الصندوق زيادة أصوله".
وبالإضافة إلى دور الصندوق المحوري كقاطرة لمشاريع ومبادرات الرؤية، حيث يشير التقرير إلى إعادة هيكلته ليكون أكثر فاعلية في الاقتصاد المحلي عبر استثمار قوته المالية في تطوير قطاعات استراتيجية وواعدة، فإن تضمين أداء الصندوق كأحد 46 مؤشراً في التقرير يسهم في إجلاء مفهومٍ خاطئ لدى كثيرين بأن "رؤية 2030" هي صندوق الاستثمارات العامة ودرّة مشاريعه "نيوم".