
بلومبرغ
ودِّعوا كؤوس المشروبات الفارهة "Moet & Chandon" قبل الإقلاع، الماء الفوار في منتصف الرحلة، وعربة وجبات التحلية المتجولة بعد العشاء؛ فلم تعُد درجة رجال الأعمال في الطائرة كما كانت عليه من قبل.
كلُّ الجهود التي بُذِلَت لتقليل التلامس البشري والحماية من العدوى، يبدو أنَّها نزعت بريق الدرجات العليا من متن الطائرات التجارية أيضاً، فزمن المآدب متعددة الأطباق، وخدمات الضيافة الدافئة قد ولَّت، ربما بغير رجعة، على المدى المتوسط على الأقل.
قيود فرضتها "كورونا"
هذه الميزات التي كانت يوماً ما أهمّ السمات التي تتفاخر بها شركات الطيران مثل "الخطوط الجوية السنغافورية"، وخطوط "كاثي باسيفيك" (Cathay Pacific) لم يبقَ كثير منها حالياً، فعلى أرض الواقع، ما هو موجود من مميزات السفر بالدرجة الأولى، ودرجة الأعمال؛ قد يقتصر على الفاعلية والنظافة في الوقت الحالي، مما يجعلها أقرب إلى الدرجة الاقتصادية مع متسع أكبر للساقَين فقط.
إنّ القيود الجديدة التي فرضها كورونا باتت تمثِّل مشكلة أخرى في صناعةٍ تُصارِع انهيارَ الطلب شبه الكامل عليها، وذلك بعد منافسة الشركات على مدى سنوات لاستعراض مختلف ميزات الرفاهية التي تجذب الركاب الأكثر ربحاً.
وبشكل مفاجئ، بات من الصعب التمييز بين شركات الطيران عندما تصبح على متن الطائرة، وهو ما زاد على الشركات صعوبة كسب العملاء الأكثر إنفاقاً، كما خاطر بدفع بعضهم إلى الدرجة الاقتصادية في مؤخرة الطائرة.
ساندرا ليم، التي سافرت على درجة رجال الأعمال إلى سنغافورة من لوس أنجلوس على متن شركة الخطوط الجوية السنغافورية في أواخر أغسطس 2020، تقول عن تجربتها: "لا يوجد أحد لمساعدتك على حمل حقيبتك، ولا تُرافَق إلى مقعدك، وبالتأكيد لا شمبانيا قبل الرحلة. يبدو الأمر كأنَّ درجة رجال الأعمال تراجعت إلى الدرجة الاقتصادية".
وتضيف ليم أنَّ أفراد الطاقم كانوا يرتدون أقنعة الوجه، والدروع الواقية للعين، ويتجنَّبون المخالطة، ونقاط التلامس بقدر الإمكان، وفي حين يمكن للركاب أن يطلبوا مشروباً؛ لكنه لم يُقدَّم مجانًا كما كان الوضع سابقاً، واختفت أيضاً قوائم الطعام المنمقة، كما جاءت الوجبات بكل الأطباق في صينية واحدة، تماماً كما هي الحال في الدرجة الاقتصادية.
ليم، البالغة من العمر 38 عاماً، وتعمل مستشارة في قطاع الأطعمة والمشروبات، تقول أيضاً: "عندما تنزع منها الطعام والخدمة تصبح مجرد وسيلة نقل للانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب".
وعلى الرغم من أنَّ بعض خطوط الطيران استأنفت رحلاتها الخارجية، فإنَّ حركة الطيران العالمية بالكاد بدأت العودة التدريجية إلى العمل، خصوصاً مع انخفاض الطلب الدولي من الركاب بنسبة 92% في يوليو الماضي. والطائرات التي حلَّقت في هذه الفترة كانت عملياً نصف فارغة، وفقاً لاتحاد النقل الجوي الدولي (IATA).
تغيير هيكلي
لا يزال الوضع ضبابياً بالنسبة إلى تعافي الطلب على الدرجات العليا في الرحلات، التي شكَّلت وفقاً لـ"IATA" في عام 2019، ما نسبته 30% من إيرادات شركات الطيران الدولية. واليوم باتت ظروف كثيرة تهدد هذه النسبة؛ لأنَّ العديد من المسافرين من رجال الأعمال باتوا معتادين على إتمام مؤتمراتهم، واجتماعاتهم باستخدام مكالمات الفيديو عبر الإنترنت بدلاً من اللقاءات الشخصية. كذلك، ومع تهديد الركود العالمي لميزانيات الشركات بات إنفاقها على السفر أقل بشكل ملحوظ.
مجموعة الخطوط الجوية الدولية (IAG SA)، مالكة الخطوط الجوية البريطانية، وطيران "أيبريا" (Iberia)، صرَّحت في يوليو الماضي أنَّ الطلب على السفر الترفيهي سيتعافى قبل رحلات الأعمال. وأضافت الشركة أنَّ هذا "التغيير الهيكلي" في القطاع سيؤدي إلى تخطيط جديد للمقصورات. وخلال مؤتمر عبر الإنترنت، قال كبير المسؤولين الماليين في مجموعة الخطوط الجوية الدولية، ستيفن جانينج، إنَّ الخطوط الجوية البريطانية سحبت أسطول طائراتها من طراز "بوينغ 747s" في وقت مبكِّر جزئياً، لكونها تضمُّ كثيراً من مقاعد الدرجات الأعلى.
كذلك قال المدير التنفيذي لشركة "فيرجن أستراليا" القابضة، بول سكوره، في مؤتمر له في أغسطس، إنَّ انتعاش السفر بغرض العمل سيكون أبطأ من السوق ككل، إذلا تزال الشركات تتبع سياسات العمل من المنزل.
وكان المدير التنفيذي لخطوط "كانتاس" الجوية (Qantas Airways Ltd)، آلان جويس، قد قال إنَّه متفائل بتعافي الطلب على الطيران بشكل كامل، ولكن ليس قبل عام 2023 أو 2024. ووفقاً لتقرير مجموعة "UBS" الصادر في 21 أغسطس بقيادة جارود كاسل؛ فإنَّ محللي المجموعة يرجِّحون انتعاش شركات الطيران منخفضة التكلفة، مثل "رايان إير" القابضة، و"إيزي غيت" بشكل أسرع من شركات الطيران الكبرى التي تركِّز على الرحلات الدولية، إذ إنَّ الشركات المنخفضة التكلفة تركِّز في خدماتها على المسافرين لمسافات قصيرة بغرض الترفيه على نطاق واسع.
ماذا عن العوائد؟
جاذبية المقعد الأكبر والأكثر راحة، الذي يمكن فرده بشكل كامل؛ تشكِّل ميزات قد تكون كافية للحفاظ على عودة ركاب درجة رجال الأعمال. لكنَّ الأمر قد يكون مختلفاً بالنسبة إلى مَن هُم في الدرجة السياحية الممتازة. هذا بحسب فولوديمير بيلوتكاتش، المحاضر في إدارة النقل الجوي في "معهد سنغافورة للتكنولوجيا "، الذي يقول: "في شركات الطيران التي جرَّبت الدرجة السياحية الممتازة، كان هذا المنتج اقتصادياً أكثر منه ممتازاً. لا أعرف ما إذا كان الركاب على استعداد لدفع هذا الفارق في السعر الآن أم لا".
ومع ذلك، تحتاج شركات الطيران بطريقة ما إلى الاستمرار في شَغْل المقاعد الممتازة، أو التخلص منها. ووفقاً لبيلوتكاتش، فإنَّ مقعداً واحداً في درجة رجال الأعمال، الذي يمكن بسطه بشكل كامل، يحتاج إلى تحقيق أربعة أضعاف أرباح المقعد الاقتصادي على الأقل لتبرير المساحة التي يشغلها في الطائرة.
وقد دفعت هذه التغيرات بعض شركات الطيران إلى استغلال الوباء، لتقلل من ميزات الدرجات الفاخرة بشكل دائم لتوفير الأموال. هذا بحسب جيريمي كلارك، مدير شركة "JC" للاستشارات في ماليزيا، الذي يضيف أنَّ هذا قد يؤدي إلى إغلاق أعمال عديد من المورِّدين الذين تعتمد عليهم شركات الطيران، وهو ما سيحدُّ من عودة الأطعمة والخدمة على متن الطائرة إلى مستويات ما قبل الوباء حتى مع تعافي القطاع.
وعلى الرغم من ذلك يقول كلارك: "ستبقى بعض شركات الطيران تقدِّر أهمية تقديم الأطعمة، والخدمة الجيدين بالنسبة إلى العلامة التجارية، مقارنةً بالتكلفة الصغيرة نسبياً لتوفيرها. في النهاية، نحن بشر، ونحبُّ أن نُدلَّل".
ووفقاً لديفيد لوفت، المدير التجاري لمزوِّد طيران الإمارات التمويني "دناتا"، فإنَّه في حين قلل "كوفيد-19" من تواتر الخدمة على متن الطائرة، فإنَّ شركات الطيران ستعود لتقديم خدمات الأطعمة بشكل كامل في المقصورات الفاخرة عندما يصبح الوضع آمناً.
استعراض إجراءات السلامة
وحتى ذلك الوقت، ينبغي لركاب درجة رجال الأعمال، والدرجة الأُولى أن يتوقَّعوا خدمات أقل، ووجبات أكثر تواضعاً، بحسب ما يقول الطاهي الحائز على نجمة ميشلان، فينيت باتيا، الذي يعمل مع الخطوط الجوية البريطانية، والخطوط الجوية القطرية منذ ما يقرب من عقدين.
ووفقاً لفينيت باتيا، فإنَّه لا ضرورة لقلق المسافرين بشأن خطر انتقال العدوى جرَّاء تناول الأطعمة أو المشروبات، فإنَّ "كأساً من الويسكي الاسكتلندي، تحتوي على 40% من الكحول، في الطائرة تُعدُّ أكثر أماناً من تناول كوب من ماء الصنبور"، لكنَّ المسافرين يريدون رؤية فعلية لإجراءات السلامة على متن الطائرة.
يضيف باتيا: "كلُّ ما يتعلق بالحفاظ على السلامة عليه أن يكون واضحاً ومرئياً للغاية، إذ يريد المسافر رؤية الطاقم يحافظ على التباعد، ويقدِّم التحية وهو مُغطى بالكامل، ويقدِّم له وجبته في صندوق مغلف، ويذهب دون أيِّ تلامُس. إنَّ هذا أشبه بالخيال العلمي، ولكن هذه حقيقة الأمر".
حتى هذه الإجراءات كلها لم تكُن كافية لغراتزيلا جولوديان، التي استقلَّت رحلة مدَّتها 12 ساعة ونصف إلى برشلونة قادمة من سنغافورة في درجة رجال الأعمال الشهر الماضي، إذ أعطاها طاقم طيران سنغافورة حقيبة، فيها قناع للوجه، ومعقم لليدين، ومناديل معقمة.
تقول جولوديان، التي كانت عائدة إلى إسبانيا مع زوجها وأطفالها الثلاثة: "لم أشعر بالراحة، لم أكن أرغب في الطيران، ولكن لم يكن لديَّ خيار. لا أرغب في السفر في أيِّ وقت قريب".